مرسال الدولة القبيحة
السبت 11 أُغسطس ,2018 الساعة: 09:49 مساءً

راجعت صفحتي قبل نصف ساعة، تحديدا: ما نشرته من خلالها في الأسبوعين الماضيين. وجدت أني أشركت الأصدقاء والمتابعين في قراءة أعمال، مقالات رأي، منشورة في الصحف الدولية المعروفة: من الثقافة إلى السياسة. في الغالب، وهذا ما تعلمته من مدرسة الطب في عين شمس: من الحكمة أن تخفي مصادرك. في مدينة نصر، شرق القاهرة، كنت أضع على باب غرفتي قائمة نصائح نسبت إلى آينشتاين، في مقدمتها هذه النصيحة.

بين ركام من "روابط" الصحف وجدت منشورين مكثفين حول كاتب شعبي معروف. كان المنشور الأول تعليقاً على مقالة لكاتب شاب تتصل بخبرته وعلاقته بذلك الكاتب الشعبي. في تعليقي قلت، باختصار، إنها كلمات جاءت في وقتها المناسب وأن ذلك الكاتب الشعبي ربما يجد نفسه بحاجة إلى قراءتها، وقد تساعده بعض الشيء.

أما المنشور الثاني فكان تعليقاً على مقالة للكاتب الشعبي وصف فيها ذاته بالنمر وخصومه بالقطط، على طريقة أغنية الراب البارانويّة الأخيرة لمحمد رمضان وهو يشير إلى أعدائه المفترضين: أنا ملك الغابة شايفك قطة.

لم أكتب شيئاً حقيقياً خارج تعليقين على مقالين! اعتُبر ما كتبته محاولة "لهدم الهامة"، أساسها الحقد والضغينة. لاحظت أن ما كتبته أثار فزعاً وخوفاً على "مكانة الشيخ"، أكثر مما أثاره من الغضب. قيل إني "تطاولت"، قيل كثيراً. دائماً ما تعتبر القبيلة أي حديث لا يسر الشيخ تطاولاً، فهو الأب الإله، وهو الطويل دائماً.

في حقيقة الأمر لدي موقف نهائي من الزمن الذي يرمز إليه ذلك الكاتب الشعبي، فهو الشاهد الأخير على الدولة القبيحة، وهو تلخيصها الختامي. تلك الدولة كانت تمنح طبقة من الناس، إثنية أو قبلية، أعلى قدر من المكاسب نظير أقل قدر من المهارات. أن تكتب قصة قصيرة وتصير وزيراً للثقافة، أن تكون حديث عهد بالمدرسة الطبية وتصبح رئيساً لقسم الجراحة، أن تتعرف بالكاد على ركوب المدرعة وتصبح قائداً للواء عسكري، أن تكتب جملة صحيحة إملائياً وتصير رئيساً للتحرير.

عاد أحد أبناء تلك الطبقات من الخارج، وكان حديث تخرج. سرعان ما صار رئيساً لقسم طبي كبير في مستشفى الثورة. في نقاش علمي اعترض أحد الاستشاريين المرموقين، كما روى لي القصة بنفسه، على الاستراتجية العلاجية التي اقترحها "الشاب رئيس القسم"، الذي تخرج للتو ورأس الجميع. لم يمض سوى وقت قصير حتى كان اعتراض الاستشاري، العلمي، يناقش في ڤيللا البشيري في صنعاء. طلب البشيري التحري من هوية ذلك الذي "يزعج ابننا" في المستشفى.

قبل عامين ونصف تحدث اللواء جواس عن الدولة القبيحة التي كانت تمنح "فئة ما" أعلى المكاسب نظير أقل المهارات. قال إن الذين كانوا يصبحون، فجأة، قادة عليه وعلى رفاقه المحترفين كانوا بالكاد يعرفون "الفك والتركيب"، يقصد: الكلاشنكوف. هي نفسها الدولة التي لمجرد أن وجدت رجلاً من أبناء "المنطقة الخضراء" يكتب قصة راحت تهتف : يوريكا، لقد كتب قصة، لقد وجدنا الوزير.

أنا أعرف تلك الدولة القبيحة جيداً، وقد كتبت عنها منذ العام ٢٠٠٢ آلاف الصفحات، أعرف من يدل عليها ومن لا يشبهها، بمستطاعي أن أشتم رائحتها القبيحة في خبائها العميق.

يعيش ذلك الكاتب الشعبي في دولة الحوثيين وفقاً لمعادلة من أكثر المعادلات رعباً في الحياة العامة: تعمل عشيرته وقبيلته مع العصابات الحوثية، تزودهم بالمقاتلين، وهو يكتب أشياء فنية عن الحياة المتوحشة لحكام صنعاء الجدد. تقوم المعادلة على التالي: يغض الحوثيون الطرف عن منشوراته مقابل أن تزودهم عشيرته بموجات من المقاتلين. هكذا تصبح الصورة الختامية: نظير كل بوست يكتبه الرجل عنهم تمنحهم عشيرته/ قبيلته بضعة مقاتلين أو أكثر. تعرفون، وهذا ليس سراً، أن الحوثيين سبق أن وضعوا هادي في الحبس وقتلوا صالح واعتقلوا مواطنيين أميركيين، وهم لا يكترثون لشيء إذا غضبوا. لا بد أن عفوهم عن هذا الكاتب الشعبي، وقد جرفوا كل ما يتعلق بالكتابة في صنعاء، يأتي ضمن صفقة ضمنية غير مكتوبة. قبيلة الرجل كبيرة، وهي التي دفعت "ابننا الذي كتب قصة" ليصير وزيراً للثقافة من قبل، وها هي تحمي قصصه الجديدة، تدفع للجماعة مقاتلين نظير "منشورات ابننا". لا يفكرون الحوثيون، حالياً، بتفكيك شبكة حلفائهم. عملياً يمكن قول هذا الأمر: إن منشورات الرجل هي من ترسل المزيد من المقاتلين إلى الحوثيين. ذلك ما تدفعه قبيلته/ عشيرته. إنني على يقين أن منشوراً واحداً، عديم القيمة، يدفع مقابله للجماعة حفنة "مجاهدين".

بالطبع لا يمكن أن تكون الصورة بهذا التبسيط، لكن لا توجد معادلة قادرة على شرح ذلك الفخ مثل هذه المعادلة التي اقترحتها أنا هنا. كما قلت: هو شاهد الدولة القبيحة ورسولها، الشاهد الأكثر دقة ومهابة.

في الأيام الماضية كتب عني المساكين الكثير: المغرور، المزيف، المريض، المأجور، الحاقد، الدجال، الجاهل، المتعالي، الفارغ.. إلخ.

كتابة كثيرة، كانت كثيرة بحق، سببها: تعليقان كتبتهما. لم تزعجني كل تلك الكتابات لأنها غير ذات صلة بموضوعنا، وهي هجوم شخصي على رجل يعرف الكثير عن نفسه، يعرف قوتها وضعفها.

شخصياً أتعامل مع الكتابة، كل كتابة في الدنيا: فنياً ومعرفياً. الكتابات التي نالت مني غير مفيدة من الناحية الفنّية. لا يمكن أن تكون ذات قيمة فنية. لماذا؟

في العادة لا تجد الكتاب الجيدين يعملون خدماً لدى شيخ القبيلة. الكاتب الجيد هو أدونيسي الضمير، يردد مع المعلم: الرفض إنجيلي. الفنان كائن محروس بالفيض والحدس، يستطيع رؤية الأشياء الحقيقية داخل تعقيداتها، وهو فقيه اللحظة، والفقيه حصل على صفته لأنه "يفقأ الشيء ويصل إلى جوهره"، أو، بالتعبير الأصولي: يستخرج الأحكام من أدلتها التفصيلية. الكاتب الجيد يعثر على الطريق.

ولا يمكن أن تكون مهمة معرفياً. لماذا؟

الكاتب المعرفي، المعرفي إجمالاً، امتلأ بالحكمة، وعلمته المعرفة تفكيك الأشياء إلى عناصرها الأولى، هو نبي نفسه، وهو عالي القدرة. رسول الدولة القبيحة سيبقى دائماً دالاً عليها، لن تخطئه عين العارف. لا يتعلق الأمر به شخصياً بل بالزمن الذي جاء منه. المثقف الحقيقي يمسك بالمعادلة ولا يدعها تفلت. تقول المعادلة: كانت الدولة القبيحة تمنح فئة من الناس، الفئة الخضراء، أعلى المكاسب على أقل المهارات، حتى إنها تضع رجلاً كتب لتوه قصة وزيراً على حشد المثقفين. تنكر الكاتب الشعبي لتلك الدولة عندما تأكد أنها لم تعد قادرة على رعاية مصالح المنطقة الخضراء. قال إنها دولة قبيحة بعد أن عجزت في تأمين طموحاته كما كانت تفعل. في تلك الأثناء عندما كان يزج بالمثقفين الكبار في الجوع أو المعتقل، أو يقتلون كما حدث مع جار الله عمر، كانت "الوردة المتوحشة" وزيراً للثقافة. في العام نفسه، عام التوزير، رفض صنع إبراهيم جائزة وزارة الثقافة في مصر، قال إنه يرفض أن تدس الدولة البوليسية يدها في الثقافة. بعد ذلك بعامين وقف الوزير الشعبي خلف منصة وضربها بيده، أمام حشد من المثقفين، قائلاً: لن أسمح بأي قصيدة تسيء إلى باني اليمن الجديد.

عاد الكاتب الشعبي وأصبح من جديد وزيراً شعبياً للثقافة، وزيراً غير رسمي للثقافة. وكما فعل من قبل: بأقل قدر من المهارات. أحاط نفسه بالقبليين المساكين، الذين يقفزون بشراسة منقطعة النظير للنيل من الذين "يزعجوا ابننا". أما هو فقد دفع مريديه لعض خصومهم القطط.

 

الذين كتبوا ضدي كانوا:

أبناء قبائل أرهقهم الشتات، وأضجرتهم الغربة .. لأنها "حياة بلا شيخ". وفر لهم الرجل شيخاً أونلاين. لقد وجدوا فيه خيال طفولتهم، أنقذهم من غرقهم في العالم بعيداً عن الشيخ. تقول حكمة أميركية: كل ما أحتاجه في حياتي جلبته معي من طفولتي. هم مستعدون للذهاب معه إلى الحدود البعيدة، فقد أعاد لهم اتزانهم، إنه المعنى الذي جلبوه معهم من طفولتهم وعجزوا عن الإفلات منه. لاحظت أنه قبل أن يقول عن نفسه: أنا نمر وهم قطط، كان رعاياه قد قالوا تلك الجملة بكل الوسائل المتاحة. اللغة التي سمعنا عنها كثيراً: من أنت حتى تقارن نفسك بالشيخ. هم يعرفون، في قرارة أنفسهم، أنه مجرد شيخ، ويتموضعون حوله كعكفة طيبين أرهقتهم الغربة التي بلا شيخ.

هذه الفئة من المهاجمين هي نفسها "العصيمات" في شكلها الإليكتروني، العصيمات الجديدة.

فئة أخرى تشبت بالرجل لأنه يقول الأشياء التي لا تقول شيئاً. هذه الفئة المحرومة من البطل، الفئة الشاكة. جربتْ الجري وراء كاتب بعينه، خلف سياسي، وراء حزب .. وأصيبت بالصدمة أو الخيبة. لا تريد مزيداً من الإحباطات، تريد السهل اللانهائي، اللاتحدي، رجلاً لا يتحداها ولا يستفزها، هو طيب القلب بالغ الطيب لأنه يوحي لها بتلك اللعنة العظيمة "بمقدورك أن تكون آيدول بأقل قدر من المهارات". إذا تحداها، إذا دفعها إلى الشك في ذاتها، إذا صدمها، إذا قال لها ما من طريق مضمون سوى العناء، العناء والمكابدة، ما من نجاح سهل، ولا طريق يسير .. فستصب عليه اللعنة، سيكون بالغ الغرور والقسوة، وحشياً. تريد بطلاً بلا أعماق، سطحه الخارجي يقول لها كل شيء.

تريد رجلاً يقول لها: كم نحن بائسون، وكم هم أشرار. هذه الفئة المخزن الخطر للشعبوية التي تصبح، فيما بعد، شعبوية إجرامية. فهي تعيش على صراع غامض مع "هم". الكاتب الشعبي يقول لها دائماً إن "هم" وراء بؤسنا. لا يحدد شيئاً، فهو نفسه لا يعرف شيئاً. إذا شرح ال"هم" فسيخسر ثلث رعاياه في اليوم الأول، والثلث الثاني في اليوم الثالث. الشعبوية شعور غامض، هي نقمة عامة غير مفهومة. وقد لاحظت حنّا آرندت في عملها الذي نشرته في العام ١٩٤٩ إن الديموقراطية الليبرالية تستقر ليس استناداً إلى مؤسساتها بل إلى "التسامح والرضا" اللذين تحصل عليهما من الجزء الصامت من الشعب. ذلك الجزء الصامت هو الخطر الافتراضي على الحياة الليبرالية، فإذا نجح رجل في استغلال ضجره وغضبه مستخدماً إشارة غامضة "هم"، فستكون النتائج وخيمة. تنبأت آرندت بما سيحصل في أميركا مع ترامب. قبل عامين قال صحفي في "وول ستريت جورنال" إنه طاف بعشرات المدن الأميركية وكان مؤيدو ترامب يقولون له: سنصوت له، لا بد أن يوقفهم عند حدهم. ولم يقل له أحد من "هم"؟

لدينا كاتب شعبي يشتغل على "هم"، ومن خلالها يحصل على رضا الفئة الضجرة والسئمة. بالنسبة للفئة الضجرة والسئمة فهو جيد من هذه الجهة، جيد كثيراً. تريده لأنه دراجتها الشعبية، يأخذها في مشاوير كثيرة، يذهب ولا يذهب، يأتي ولا يأتي، في نهاية المطاف وبعد وقت يقل أو يزيد تعجز تلك الفئة عن تذكر شيء واحد قاله كاتبها الشعبي. لقد أطعمها "بفك"، وضع حلوى "شعر البنات" في فمها، وأخذها في مشاويره. إنها خديعة البفك، خديعة يجيدها الشعبويون المستترون، فبعد ألف خطاب لا يمكنك أن تتذكر شيئاً. ومع الأيام تعجز عن محاكمة كاتبك، في الواقع هو لم يكن كاتباً، فهو لم يقل شيئاً بعينه. هذا ما تتدركه أنت الآن.

فئة أخرى وجدت فيه أباً، وأخرى: تجسيداً إليكترونياً للأخلاق الجميلة. هو قميص للضحايا والمكروبين يشبه الأغاني الرومانسية التي تأنس إليها زوجات المهاجرين. قال، مدافعاً عن نفسه، إنه بعيد كل البعد عن تخريب الذائقة الفنية، فالكلمات البذيئة لا ترد في منشوراته. لم يستوعب الفكرة التي كنت أتحدث عنها. أن تقدم للقارئ، يومياً، كتابة تفتقر إلى الخيال والمجاز واللغة يعني أنك تعمل على تخريب ذائقته الجمالية. المعاناة الإبداعية كانت، وستبقى، في دفع الحساسية الجمالية من "زقزقة العصافير وحفيف الأشجار"، التي امتلأت بها قصص الوردة المتوحشة، إلى ك"زهر اللوز أو أبعد". حفيف الأشجار هي تخريب متعمد وإجرامي للتلقي الجمالي.

الموقف الفني مما يفعله ذلك الكاتب الشعبي غير منفصل عن الموقف الأخلاقي. فهو التلخيص الأخير للدولة القبيحة، دولة ذلك الزمان القبيح التي منحت "الفئة الخضراء" أعلى المكاسب على أقل المهارات. وهي التي، وإن تفككت كمؤسسة، إلا أنها بقيت سارية المفعول كنظام أخلاقي.

كل الهجوم الذي تعرضت له، بكل ضراوته وغبائه، انطلق من جملة مركزية كانت هي المحرك الدافئ لنوايا تلك الدولة القبيحة: "منو هذا اللي جالس يزعج ابننا".

كما قلتُ سابقاً:

ما يكتب عني لا يزعجني، بمقدور الشخص أن يحبني كل الحب أو يبغضني كل البغض، أن يقول عني: قديس أو شيطان أو أقل من كل ذلك. في نهاية المطاف أنا أتحدث عن "موضوع"، وحتى الآن لم أجد رجلاً يناقش ذلك الموضوع. الانصراف إلى مهاجمة "المغرور المتعالي" لن يصرف العيون عن مرسال الدولة القبيحة.

*نقلاً عن صفحة الكاتب في فيسبوك


Create Account



Log In Your Account