أقلام في مسيرة النضال.. "بلال الطيب" على خطى الأحرار
الجمعة 29 مارس ,2024 الساعة: 12:37 صباحاً


للأمكنةِ الجغرافيّة شخصياتُها الخاصّة بها، كما هو الشّأن مع شخصيّةِ الإنسان نفسه. المكان بما هو نص بصري، وبما هو امتداد تاريخي، وبما هو لوحة ناطقة، منظورا ومسطورا.

المكانُ ذاتُه مساهمٌ بصورةٍ مباشرةٍ في صياغةِ الشّخصيّةِ الإنسانيّة كما يقررُ علماءُ الأنثروبولوجيا، ومنه تكتسبُ الشخصياتُ طبائعها وعاداتها وجزءًا كبيرًا من تفاصيل وفلسفة حياتها.

الأمكنةُ في حد ذاتها حاكمة، وعلى الصّعيد العسكري فإنّ المكانَ أحدُ صانعي النصر أو الهزيمة في الملاحم الحربيّة، وحول هذه الفكرة تبلورت نظرية العالم الجغرافي الشّهير "ماكيندر" المسمّاة بنظريّة "قلب العالم"، أو "قلب الأرض". كما دارت فكرة روبرت كابلان "انتقام الجغرافيا" حول هذا المعنى أيضًا، ولم تبتعد عنها.

إلى مطلع القرن العشرين والحجرية هي قلب تعز، وإن شئت قل روحه، أفادت كثيرًا من عدن حاضرة الشرق الأوسط في تلك الفترة، وتشكل جزء من شخصيتها من هذا التأثر، عن طريق أغلب الشباب الريفي الذي هاجر إلى عدن، وفيها رأى ما لم يره في مدن الشمال التي لا يُطلق عليها اسم "مدن" إلا من قبيل المجاز فقط، وإلا فهي إلى القرى الكبيرة أقرب، ذلك أن الإمامة هي ضد المدنية والتمدن أساسا.

كانت الصوفية بنقائها الروحي وفلسفتها الأخلاقية هي التي تحتل زخم المكان والزمان لعقود طويلة في أجزاءٍ واسعة من اليمن، وربما كانت الحجرية هي الأكثر تأثرا بها؛ كون الفقيه الصوفي أحمد بن علوان اليفرسي ينتسب إليها، ومنها انطلقت دعوتُه في كثير من الأرجاء، فشكلت الأيديولوجيا الصُّوفية أحد روافع البناء الإيجابي في الشخصية "الحجرية"؛ لا سيّما وصوفية أحمد بن علوان نقيّة صافية في غالبها، فعُرف عن ابن الحجرية النشاط والجد والاجتهاد، واحترام قيم العمل والحقوق، وهي صفة لازمتهم كثيرًا أينما حلوا، وصار "الحجري" مضربَ المثل في النشاط وفي الترشيد المالي، وفي الاهتمام بالعلم، وهي أحدُ انعكاساتِ الثقافة الصُّوفية في منحاها الإيجابي، مع الحس المدني المتجذر حميمًا في العقل الباطن للمجتمع.

عنصران اثنان شكلا المزاج النفسي لابن الحجرية: المكان بصلابته الجغرافية وجبروته التاريخي، ثم الثقافة المتكونة من شقين: الصوفية التقليدية المتوارثة، والثقافة الجديدة الوافدة التي تشكلت منذ مطلع القرن العشرين، كل هذا امتزج ببعضه، فكانت تلك الروح المتفانية نشاطا واجتهادا.

منذ بداية تحكم الطاغية يحيى حميدالدين على اليمن، سلط على تعز أحد أقاربه؛ بل أحد شركائه في الحكم، وهو الأمير علي الوزير، وكان الأخير يعتبر نفسه ندًا للطاغية يحيى حميدالدين في حكم اليمن، لا مجرد موظف، فاستبد بالناس وطغى، متعاملا مع الناس بذهنية "السيد والعبد" من حقه أن يأمر وينهى، ومن واجبهم أن يسمعوا ويطيعوا فقط. وهذا هو معتقدُ الإمامة أساسًا، ومثله فعل بقية نواب الإمام وعماله على بقية المناطق، إلا أن نائبه على تعز علي الوزير كان أشدهم بطشا وطغيانا واستبدادا. ومع تغوله في القهر والاستبداد كانت شدة الرفض والمقاومة لهذا الفجور الإمامي البغيض، من معالم ذلك الرفض الهجرة ومغادرة البلاد نهائيا، على ألا يستكين أهلها للإذلال. فكانت عدن، ثم الحبشة وجيبوتي والصومال ونيروبي محطات لهجرة الكثير من شباب الحجرية ورجالها، بثقافتهم المحلية التي أضافوا إليها ثقافة تلك البلاد، فأكسبتهم رصيدا جديدا إلى رصيدهم السابق. 

ومنهما تشكلت خبراتهم بعد ذلك، وتوارثها عنهم أجيالهم. ومن رجالات الجيل الجديد المواصل لنهج آبائه وأجداده الأحرار اليوم الباحث والكاتب بلال الطيب..

بلال محمود عبد الوهاب الطيب، المولود في إبريل من العام 1981م، بمديرية صبر الموادم، متزوج، وأب لستة أبناء. درس المرحلتين: الأساسية والثانوية في تعز. كما حصل على البكالوريوس، تخصص صحافة من جامعة صنعاء في العام 2004م. رئيس مجلس إدارة مؤسسة الجمهورية للصحافة والطباعة والنشر، رئيس التحرير، باحث متمكن، وكاتب في عددٍ من الصحف والمواقع الالكترونية، وهو صاحب موقف وطني مشرف، وإضافته في المعركة الثقافية اليوم متميزة وخلاقة.

عمل بداية عام 2017م، مع عدد من زملائه الصحفيين على أعادة إصدار صحيفة 26 سبتمبر من مأرب، وشغل لفترة محدودة سكرتيرًا لتحريرها.

صدر له عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر كتاب بعنوان: "المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن"، وكتاب" "حرب العصيد.. جنايات يحيى حميد الدين على اليمنيين"، وعن مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام، كتاب بعنوان: "جازم الحروي.. صانع تحول"، وله كتابان قيد الإصدار حاليا.

كانت له أنشطته المتعددة في أكثر من مجال سابقا؛ لكن أنشطته البحثية في السنوات المتأخرة، المتواكبة مع المستجدات الأخيرة، قدمته إلى الجمهور ذلك الباحث الجاد، والكاتب المتميز. وحقا فقد مثلت أعماله إضافة نوعية للمشهد الثقافي. وإذا كان هناك قادة عسكريون قد برزوا على مشهد الصراع مدافعين عن قضيتهم بالسلاح فها هو بلال الطيب من القادة الثقافيين الذين برزوا في السنوات الأخيرة مدافعا بالقلم، في عملية تكاملية بين الجميع.

بلال الطيب ابنُ الثقافة، وابنُ البيئةِ النضاليّة التي قاومت الإمامة بقوة، ولا تزال، حيث فتح عينيه صغيرًا على عشرات الحكايات والقصص من الأمهات والجدات التي توارثتها عن أسلافهن في مواجهة جنود الإمامة سابقا، وعزز ذلك باطلاع كبير على مرويات التاريخ وقصصه؛ بل إن الواقع اليوم خير شاهد على جرائم وقبح هذه السلالة التي كشفت عن حقيقتها لجيل اليوم.

والواقع أن تعز شرفُنا الجمهوري المبهج اليوم؛ وقد استطاعت كسر شوكة الإمامة لأول مرة، متحدية آلتها القمعية بعقيدتها المتوحشة التي ورثتها عن كرادلتها الكهنة. وها هي تعبّرُ عن رفضِها لهذا المشروعِ من خلالِ ثباتِ أبنائها في مختلفِ جبهات القتال، وأيضا من خلال أقلامهم الثقافية والإعلامية، ومنها قلم الباحث والكاتب بلال الطيب. ولعلّ كتابه الأخير "حرب العصيد" أبرز أعماله التي صدرت مؤخرًا، وقدم الكتابُ صورًا جديدة من جناياتِ الإمامةِ على اليمنيين خلالَ فترةِ الكاهنِ يحيى حميدالدين، بعضها كانت متناثرةً في كتبٍ عدة، وبعضها جديدة. وذلك في إطار مشروعه الثقافي الوطني الذي اختطه من سنوات في كشف زيف الكهنوت الإمامي الأرعن، ولا يزال صامدا في جبهته الثقافية.

والحقيقة أنّ جهودَ الباحثِ في هذا الكتاب واضحة من خلالِ المصادرِ المتعددة المنشورة وغير المنشورة، ومن خلال تواصلاته الخاصة مع ذوي الاختصاص، ومن خلالِ أسلوبه السّردي المباشر، بعيدًا عن صنميّة المنهجية التقليدية. ومن الممكن تنقيح مادةٍ مختصرةٍ من الكتاب كمنهجٍ مدرسي لطلبة التعليم العام والجامعي، لتعرف الأجيال الناشئة حقيقة هذه السلالة الخبيثة. كما أن بقية أعماله أيضا لا تقلُّ أهمية عن هذا العمل. وما أحوجنا اليوم لصناعة وعي ثقافي للناشئة الجدد، من منطلق وطني، يعيد لليمن اعتبارها من جَرَبِ الإمامة الخبيث.

ما ينبغي الإشارة إليه هنا أن الباحث بلال الطيب يواصل عمله بجهده الفردي الخاص، وإن كان على رأسِ واحدةٍ من أكبر المؤسسات الإعلامية والثقافية؛ لكن في زمن الحرب ما عسى صاحب القلم أنْ يضيف؟

وعلى أية حال.. بلال في هذا المنصب امتدادٌ أصيل للمعلم الأكبر سمير اليوسفي، أستاذ الأساتيذ، ويُعوّل عليه في قادم الأيام صناعة مشهد إعلامي ثقافي متميز، من منطلق الهوية الوطنية، والامتداد الحضاري، فهذه المدينة قد عودتنا على كل ما هو مدهش ومبدع وخلاق. وإن غدًا لناظره قريب.


Create Account



Log In Your Account