إشكالية المثقف اليمني
الأربعاء 02 مارس ,2022 الساعة: 06:12 مساءً

في غالب الأحوال المثقف اليمني بدأ فعله الثقافي والفكري وهو مستقطب سياسياً، « مثل كاتب هذه السطور » أي في حالة من الانتماء لفكرة سياسية رسمت حدود وعيه الفكري والنقدي، أو أن الإنتماء الحزبي الأيديولوجي الذي كان سابقاً لوعيه النقدي أو سابقا لوجوده كمثقف ، كان دافعاً رئيسياً للتعاطي مع المسألة الثقافية والمعرفية لدى السواد الأعظم من المثقفين في شمال اليمن وجنوبه لهذا - وبرغم غزارة الأحداث السياسية والعسكرية التي تستدعي العمل النقدي- لم يتحول المثقف اليمني مع غزارت تلك الأحداث إلى مفكر وناقد بالمفهوم الذي يجعل منه مثقف أو كاتب سياسي يشتغل على مطاردة الحقيقة التي تعني بحد ذاتها الإشتغال على نقد الواقع والذات والسلطة وحتى التجربة الثورية والسياسية والحزبية دون حدود معتبرة ودون حسابات سياسية / تحيزية تفرضها فكرة الانتماء السياسي على حساب الحقيقة التي يجب أن يطاردها المثقف بوعيه النقدي وأفكاره البديلة = { الأنتليجنسيا } أو المثقف الشمولي حسب تعبير فوكو.

إذا كانت مثل هذه المطاردة تجاه الحقيقة التي يجب أن يضطلع بها المثقف ودوره = { الكاتب} تعد تعبيراً عن وعيه الحداثي واستقلال فعله النقدي الذي يؤسس لسلطة أهل الفكر داخل المجال الاجتماعي ، فإنها دائماً ما تزعج السياسي « السلطوي » الذي يسعى دائماً إلى استقطاب المثقف في كل مجتمع يخوض معركة التغيير ، وحتى في حال إن كان هذا السياسي يعد إمتداد لسلطة الثورة ، فإنه يسعى دائماً إلى تغييب حضور المثقف كجهاز مفاهيمي ناقد لصالح حضوره كسياسي سلطوي -لا سيما في المجتمعات العربية.

مثل هذا الامتعاض الصادر من قِبل السياسي تجاه حضور المثقف الناقد، نجده حتى في بيان السياسي الثوري روبيسبير حين قال في معرض هجومه على الكتاب الفرنسيين أن نقد هؤلاء لا يعرف الحدود ، لكن نقد هذا السياسي كان لا يعني يومها أن المثقفين أو الكتاب الفرنسيين قد انفصلوا عن وعيهم بذاتهم كحاملين للحداثة ، وعن دورهم التنويري النقدي في معركة التغيير، بل كانوا كذلك، لهذا تحول الكثير منهم إلى مفكرين وفلاسفة لم يؤسسوا لسلطة أهل الفكر في فرنسا فقط ، بل أكثر من ذلك أسسوا الفكر السياسي الحديث بكل مفرداته الحديثة التي مازلنا نناضل من أجلها حتى اليوم في اليمن = { مفهوم الدولة مفهوم الوطن والمواطنة، مفهوم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية حقوق الإنسان... } وهذه المفاهيم هي التي غيرت ملامح العصر الحديث داخل القارة الأوروبية ، وفاضت بكأسها التنوري على بقية الدول العصرية في المعمورة.

المثقف اليمني « كاتباً كان أو متكلم » لم يتحول بعد إلى ناقد ومفكر ولم يصنع فرصته في سبيل تحقيق ذلك ، بل يتحول تدريجياً بسبب فكرة الإنتماء المسبقة الى سياسي يخوض معترك السياسة والصراع السياسي - بحسب الموديل اليمني- من أجل تأسيس سلطة الحزب السياسي ومشروعه الأيديولوجي الأحادي الذي لا يؤمن بوجود الآخر ، الأمر الذي جعل الصراع السياسي الحزبي وحتى الصراع الجهوي والمناطقي  يتكرر ويعيد نفسه في اليمن ، لا بكونه صراع بين التقدم والتخلف، بل من أجل السيطرة على السلطة التي تظل أداة لتطبيق مشروع اقصائي أحادي حزبي، يعيق في الواقع حضور السياسة كفكرة وفعل سياسي مدني يعمل على تأسس مفهوم الدولة والديمقراطية التعددية التي تجعل طريق الحكم آلية سياسية ديمقراطية تقوم على كيفية عد الرؤوس وليس قطعها على حد وصف الباحث على خليفه الكوري.

المثقف اليمني وجد نفسه يخوض معركته كمثقف « بوعي أو بدون وعي » من أجل تأسيس سلطة سياسية حزبية لا تؤمن حتى بوجوده ودوره التنويري داخل المجتمع بدلاً من أن يجد نفسه يعمل كمثقف تنويري ناقد للواقع القائم، وحامل للحداثة وداعية للتغيير ، أي يعمل على تأسيس سلطة أهل الفكر في وجه سلطة رجال السياسة الذين ظلوا يستنزفون اللحظات التاريخية ويضيقون ذرعاً بوجود المثقف ودوره ، على سبيل المثال المثقف عبدالفتاح اسماعيل تآمر عليه الكثير من  رجال السلطة السياسية وضاقوا ذرعاً به ، ومع أنه قدم استقالته من رئاسة الدولة وأمانة الحزب حقنا للدماء إلا  إنه قتل في خضم الصراع السياسي على السلطة.

المثقف اليمني ودوره في معركة التغيير، حتى اليوم، غير منفصل تنورياً عن الطموح السياسي ودوافعه التحزبية، لهذا لا يستطيع أن يؤسس لسلطة أهل الفكر في المجتمع لأن سلطة أهل الفكر يجب أن تقوم على نقد الواقع السلبي والاشتغال به كما فعل مثقفي عصر التنوير في أوروبا ، وفي نفس الوقت تقوم في وجه سلطة السياسي={ رجال السلطة }  كما أن المثقف الذي تم جره بشكل مبكر عن طريق فكرة الانتماء المسبقة إلى مربع الصراع السياسي الحزبي حتى وإن كان في موقع المعارضة لا يستطيع أن يؤسس لسلطة أهل الفكر في مجتمعه رغم قربه من الجماهير ومعاناتهم، لأنه أصبح سياسي متحيز يناضل من أجل الإنتصار للفكرة السياسية التي يؤمن بها الحزب أكثر من كونه مثقف وناقد وكاتب يشتغل بتجرد على مطاردة الحقيقة والانتصار لها على حساب فكرة الانتماء، لا يعني ذلك أننا نضع جملة اعتراضية أو تحريمية على حق المثقف اليمني في مسألة الانتماء السياسي للحزب، بقدر ما يعني أن على المثقفين كحاملين للأفكار والحداثة رسالة وطنية أكبر يؤدونها تجاه شعوبهم وهي أن يتحولوا إلى جماعة تنورية مؤثرة في مخرجات العقل الجمعي بغض النظر عن انتمائهم السياسي الحزبي، بمعني آخر واجب المثقف في أي منعطف تاريخي كما هو حال المنعطف الذي تمر به بلادنا اليوم، أن تتسع مساحة الرؤية لديه، وأن يشكل مع أقرانه من المثقفين التنويرين حالة تجاوز فكرية معرفية نقدية للواقع بكل شجاعة، وواعية في نفس الوقت لأنانية الفعل السياسي= « التحزبي الإقصائي » الذي يمارسه رجل السياسة والسلطة في اليمن، لأن هذا الفعل بقدر ما نجده يعيق صيرورة بناء الدولة الضامنة والوطن الكبير في أي مجتمع سياسي، بقدر ما يشكل في المقام الأول مجال عام طارد للمثقف ودوره التنويري ={ فقدان وعي المثقف بذاته } أي مجال سياسي يقوم على خنق مسألة الاقتدار الفكري والثقافي للمثقف ودوره في معركة التغيير، حتى لا يستطيع هذا الأخير أن يؤسس سلطته المقابلة في الوسط الشعبي ={ سلطة أهل الفكر}

المثقف اليمني حتى وإن ترك بعد ذلك العمل الحزبي أو أهمل فكرة الإنتماء السياسي التحزبي، يظل في نظر المجتمع محسوب على طرف سياسي بأثر رجعي ، أكثر من كونه مثقف وناقد وحامل للحداثة وداعية للتغير ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المثقف السياسي يصبح في حالة صدام مع المثقف المنتمي للحزب الآخر بشكل تلقائي بدوافع سياسية أكثر من كونها معرفية نقدية، ما يعني في النتيجة أن المثقفين في اليمن يستحيل عليهم أن يتحولوا "في ظل هذه القولبة السياسية" إلى نخب تنوريه متجانسة تشتغل على نقد الواقع عن طريق الأفكار الثقافية التنويرية الحداثية التي تؤسس بطبيعة الحال لرأي عام فعال ومؤثر داخل معادلة الصراع السياسي ويكون هو في النتيجة - أي هذا الرأي العام الفعال - تعبيراً عن سلطة أهل الفكر التي حركت الجماهير في وجه رجل السلطة ={ السياسي } الذي مازال يستنزف اللحظة التاريخية في اليمن.

 


Create Account



Log In Your Account