ثباتُ الجبال
السبت 23 أكتوبر ,2021 الساعة: 01:26 مساءً

زرتُ الكاتبَ الشاعرَ الأديبَ المناضلَ الأستاذ حسن عناب أنا وبعضُ الأصدقاء ولم أكن قد جلستُ معه بعد خروجِه من المُعتَقَل إلا جلسةً قصيرةً في إحدى الفعاليات وكان للزيارةِ غرضٌ آخرُ وهو أن أعرضَ عليه فكرةَ عملٍ دراميٍّ نشتركُ في كتابتِه .. جلسنا نتحدثُ حديثاً وِدِّياً من تلك الأحاديثِ التي تدور بين الأصدقاء ثم حدّثنا عن ابنِه البطل زكريا الذي قاتل في عدةِ جبهات .. غادر زكريا صنعاء عامَ ٢٠١٧ قائلاً " سألتقي بأبي في مأربَ بإذنِ الله فلن يخرُجَ من السجن إلا إلى مأرب " .. وكعادتِه كان الأستاذ حسن يُحدِّثُنا ويدُه على أزرارِ الكمبيوتر فهو كثيرُ التفكيرِ والكتابة .. وذكر لنا بعضاً من مواقفِ ابنِه زكريا فذاتَ يومٍ وهو خارجٌ من الجوف بعد أن سقطت بفعلِ الخونةِ وجده بعضُ قُطّاعِ الطريقِ المفسدين في الأرض وقد كاد يموت من الظمأ فطلب منهم شربةَ ماءٍ فقالوا نُعطيك على أن تُعطِيَنا البندقية فأعطاهم البندقية وبعدما شرب حتى ارتوى أخرج قنبلةً وفكَّ صاعقَها ورماها عليهم فأرداهم قتلى وأخذ بندقيتَه وعاد إلى مأرب .. لقد عَظُم في نفسِه أن يتركَ سلاحَه ففكّر وقرّر ونفّذ وانتصر لنفسِه وهكذا يجبُ أن يكونَ الجندي .. وأُصِيب في تلك الحادثةِ ثم شُفِيت جراحُه .

وفي إحدى الجبهات كان هناك تبةٌ لا يستطيعُ طرفٌ أن يسيطرَ عليها تمامَ السيطرة لأنها مكشوفة فكان الحوثيون يتسللون إليها ليلاً لأنها أقربُ إليهم فإذا بزغ الفجرُ تركوها ليدخُلَها شبابُنا فيظلون فيها حتى الليل ثم يغادرونها فقال زكريا ذاتَ ليلةٍ لزملائِه : " ما رأيُكم أن نغزوَ التبةَ لندحرَ الحوثيين ونأخذَ عليهم القاتَ ونعود ؟ " فظن زملاؤُه أنه يمزح ولكنه كان جاداً فاستحسنوا الفكرة وهجموا بقيادة زكريا ففوجئ الحوثيون بهجومِ أبطالِنا فتركوا التبةَ فارّين مرعوبين تاركين الذخيرةَ وأكياسَ القاتِ وراءهم فأخذها أبطالُنا وعادوا إلى موقعِهم وحين وصلوا فتح زكريا جهاز النداء الذي غنمه من الحوثيين ذات يوم ونادى عليهم قائلاً بسخرية : " لماذا كان القاتُ قليلاً ؟ في المرةِ القادمةِ نريد منه الكثير " .

وذكر لنا الأستاذ حسن مواقفَ أخرى لابنِه البطل زكريا .. ومما قاله أنّ ابنَه زكريا كانت له روحُ القيادة ولا يفعلُ إلا ما يقتنعُ هو بفعلِه حتى لو خالف أباه بل إن قائدَه أبا البراء قال للأستاذ حسن إن زكريا عنيدٌ جداً ولا يفعلُ إلا ما يراه هو صائباً وكانت قراراتُ زكريا صائبةً فقد كان ذا عقلٍ راجح وكان قائدُه مُعجباً به .

كان الأستاذ حسن يتحدث عن ابنِه وفي عينيه بريقُ الحبِ والفخر .. لم يكن الأستاذ حسن يعلم أن ابنَه الذي يتحدث عنه قد استُشهِد ولكنّ قلبَ الأبِ قد أحسّ بذلك فيا للعجب .

وأثناء تَحدُّثِ الأستاذ حسن عن ابنِه جاءته رسالةٌ مفادُها أن ابنَه جريحٌ في مستشفى الهيئة فقرأ علينا الرسالة ثم قال مبتسماً : " كنتُ أحدّثكم عن زكريا وها هو ذا يأتيني خبرٌ أنه جريح " .. وبعد قليلٍ جاءه اتصالٌ فسمعناه يقول : " الحمدُ لله " وانتهى الاتصال فقلتُ له : " إذاً فزكريا بخير وجرحُه ليس بليغاً أليس كذلك ؟ " فقال : "لقد استُشهِد زكريا" فانعقدت ألسنتُنا ولم ندرِ ما نقول فقال : " ما لكم ؟! تحدّثوا .. إنّ هذا يحدث كلَّ يوم وابني كبقيةِ الشهداء فلماذا الأسى ؟! " فلم يُسعِفنا الكلامُ بل لقد استحينا أن نُعزِّيَه بعد أن قال لنا تلك الكلمات التي كانت عزاءً لنا .

كان لسانُ حالِه يقول :

 

إنّا إذا هَبَّت عواصفُ نحونا

كنا لها جبلاً من الإيمانِ

 

لم تتغير نبرتُه ولا ابتسامتُه بل إنه قال لي : " حدِّثني عن العمل الذي تريد أن نكتبَه معاً فالمقاتلون في جبهتِهم ونحن في جبهتِنا " ولكننا لم نستطع التحدثَ في موضوعِ العملِ الكتابي لكثرةِ الاتصالاتِ التي كانت تأتيه بعد انتشار خبر استشهاد ابنِه .

ومما قاله أبو الشهيد : " لا ندري ماذا نقدّمُ للوطن " .. قالها بعد لحظاتٍ من استشهادِ ابنِه .. قالها وهو الذي ظل في السجن خمسَ سنوات .. قالها وهو الكاتبُ المعروفُ الذي كتب الكثيرَ من الأعمالِ الأدبيةِ وأثرى المكتبةَ التلفزيونيةَ والإذاعيةَ بأعمالِه الفنيةِ الرائعة .. قدّم للوطنِ الكثيرَ ولكنه يرى أنّ ما قدّمه قليل .

وأخذ أبو الشهيد هاتفَه وكتب تغريدةً ذكر فيها نبأَ استشهادِ ابنِه وقال إنّ عزاءَه هو تحريرُ الوطنِ من أيدي مليشيا الانقلاب السلالية .

يا له من موقفٍ عظيم لن ننساه أبداً .. لا ثباتَ في مثلِ هذا الموقفِ إلا للقلةِ القليلةِ من الناس الذين ملأ الإيمانُ قلوبَهم .

استُشهِدَ في هذه المعركةِ البراءُ ابنُ قائدِ اللواء وشبابٌ آخرون بعد أن كسروا هجوم الحوثيين على الكسارةِ وتقدّموا مسافاتٍ كثيرة .

ومن المدهشِ أيضاً أن إبراهيمَ ابنَ الأستاذ حسن سمعني وأنا أُحدِّثُ صديقاً عبر الهاتف أُخبِرُه بنبأِ استشهادِ زكريا فلم يفزع أخو الشهيد فكان موقفُه كموقفِ أبيه .. وفي تلك الأثناء كانت والدةُ الشهيد في أحد البيوت تُعزّي إحدى صديقاتِها في استشهادِ ابنِها ولم تكن تعلمُ أنّ ابنَها قد التحق بقافلةِ الشهداءِ الأبرار .. وإني لأعتقدُ أنّ موقفَها سيكونُ كموقفِ زوجِها فبوركت هذه العائلةُ الجمهوريةُ الشجاعة .

وغادرنا بيتَ أبي الشهيد ونحن نقول ما دام أنّ في مأربَ أبطالاً مثلَ الأستاذ حسن عناب ومثلَ عائلتِه فلا خوفَ على مأربَ وسيظلُّ الحوثيون ينتحرون كلَّ يومٍ على أسوارِها وإنّ عيونَنا على صنعاء وإنّا لَداخِلوها يوماً ما بإذنِ الله .

 

نُقاتِلُكم ها هنا اليومَ لكن

غداً سوف نمضي بعيداً بعيدا

 

وعمّا قريبٍ سنصنعُ يوماً

لصنعاءَ سبتمبرياً جديدا


Create Account



Log In Your Account