الحرب في آخر معقل للعرب
الثلاثاء 12 أكتوبر ,2021 الساعة: 10:39 صباحاً

لم أحبس دموعي بل دموعي حبستني وأنا أتأمل مآلات حرب اليمن، رغم كل الوجع والألم، ورغم كل المآسي والأحزان، ورغم كل الدمار والخراب، ورغم كل الأنين والعويل، ورغم كل الفقر والعوز، ورغم كل الدماء والقتل، ورغم كل التنكيل والتعذيب، ورغم كل الحصار والتجويع، إلا أن هذا ليس ما أغرى دموعي بي، بل شيء آخر لا أحد يتحدث عنه وليس بوارد أن يقف عنده أحد أو يحذر منه، شيء يحول دون سماعه البطون الخاوية والأجساد النازفة وأصوات البارود ودوي الطائرات وحصار المرافئ والموانئ والمطارات وتخلي القريب وغدر البعيد وأحقاد الماضي وضغائن الحاضر، شيء يحيله حالنا الى بكاء على اللبن المسكوب وعويل بلا طائل وصراخ بلا جدوى، شيء منحناه ولم نصنعه وأعطيناه ولم نطلبه وجاد به القدر علينا حتى أطمع وأوقد نار وأحقاد الآخر علينا، شيء أدركه أعداء الحضارات وأعداء الأمم، أدركه الميكافيليون وسدنة السلطة والهيمنة، شيء حال دون إدراكه غفلتنا ونظرتنا الدونية لأنفسنا وغياب القيادة المسكونة بالبناء والنماء وحماية اليمن أرضاً وإنساناً من تربص المتربصين وتجار العروش وخدام الاستعمار.

 

نظرت فأدركت كم كان عدونا يقضاً وخبيثاً وجشعاً وأنانياً وحقوداً، وكم كان واعياً ومدركاً لمقومات اليمن كشعب له خصائص وأبعاد ثقافية وحضارية فريدة وجذور ضاربة في أعماق التاريخ وشاء له القدر فوق ذلك أن يسلم من لوثات الاثنيات والعرقيات ومن مخلفات الاستعمار ومن التغريب الثقافي والديني؛ أدركت ان اليمن لم تكن تلك المرسومة على الخارطة ولا تلك المنزوية في جنوب الجزيرة العربية ولا المسورة بالحدود المصطنعة؛

 

أدركت أن اليمني لم يكن ذلك الإنسان البسيط الفقير المتخلف الجاهل الذي يعاني من رداءة التعليم ونقص الخدمات وتردي الأحوال، بل كان أمة تتمتع بكل مقومات الانطلاق والسيادة ومتسلحة بكل شروط النهضة والتنوير تماما مثلما كان اسلافهم الاوائل ومثلما كان أيضا العرب الذين لم يكن ينقصهم سوى شخصية وقائد يضبط بوصلتهم ويقول لهم أنه جاء متمم لمكارمهم ومكمل لها لا موجد لها؛ رأيت بأم عيني المرأة اليمنية التي لا نظير لها على وجه الأرض، صاحبة العفاف والوفاء والشرف الناكرة لذاتها الباذلة نفسها وصحتها وجمالها وحالها ومالها وعمرها وسرها وجهرها وقيامها وقعودها لأسرتها ولزوجها وابنائها؛

 

 رأيت الرجل اليمني الشهم الكريم الشجاع الوفي الغيور على عرضه والساعي على أهله الذاب عن شرفه الذي تستنهض نبله ومروءته وتسامحه بكلمة أو بشال ترميه من على عاتقك فيهب لنجدتك او لتفريج كربتك او للتضامن معك او للصفح عنك وان كنت قاتل أبيه؛

رأيت الأسرة اليمنية المتماسكة المتعاضدة المتكافلة الموقرة لكبارها الحريصة على صغارها وشبابها المحترمة لعاداتها وتقاليدها المتدينة بالفطرة؛

 

 رأيت القبيلة اليمنية محضن العادات والتقاليد وملجأ الأفراد وداعيهم عند مصابهم وحاجتهم؛ رأيت المجتمع اليمني الوفي المتسامح المتواضع العاطفي الذي لا يوجد في ذاكرته ومخيلته مساحة للأحقاد والضغائن؛ رأيت الشعب اليمني المتعاطف مع كل مظلوم من شعوب الأرض المفتخر بدينه المحب للآخر المتفهم لخصوصيات المجتمعات المنفتح على سائر الجنسيات؛

 

رأيت اليمني كيف يظل على وفائه وإخلاصه الصادق حتى تجاه من ظلمه وكان سببا في بؤسه وذلك انعكاساً لجوهره النقي المتسامح المفعم بالقيم والمبادئ لا دناءة أو دناقة منه كما يصف البعض؛ رأيت الشخصية اليمنية كم هي منسجمة ومتصالحة مع بيئتها ومع جبالها الشاهقة وطرقها الوعرة وسهولها الممتدة وسواحلها المفتوحة، ولاءاً منها للأرض التي أنجبتها وترعرعت فيها وتنسمت عبيرها، فأحالت الجبال الى مساكن وقرى ومتاحف مفتوحة تعبر عن خصائص اليمني منذ فجر التاريخ.

 

كل ما سبق وإن ظن البعض أنه مثالياً كان واقعاً الى حد لا نظير له، ولم نكن ندركه لأن أعيننا تفتحت على الحياة ووجدنا انفسنا فيه واعتقدنا أن ما نحن فيه شيء طبيعي ومن مسلمات الحياة وأن منطلقات النجاح وتغيير الواقع السياسي والاقتصادي لا علاقة له به. والحقيقة أننا كنا نملك كل شيء، كنا كأرضنا جوهرة ثمينة ومواد خام تحتاج الى استثمار ورعاية وحراسة من كل طامع وحاسد. الحقيقة أننا كنا مصدر قلق فعلي للجيران وبعض قوى العالم التي لا مقومات لها لتعيش وتستمر الا بمضيها قدماً في سياسة التفكيك والتمزيق وصهر الآخر ثقافياً وحضارياً ووضع اليد على كامل مقوماته الطبيعية والبشرية.

 

الأوروبيون اجتاحوا أمة الهنود الحمر واستحلوا ارضها ودماء ابنائها  وأبادوها من على الخارطة وطمسوا عاداتها وتقاليدها وشيطنوها لاعتقادهم أن بقاءها يمثل حجرة عثرة أمام أطماعهم وتحقيق مصالحهم. ثم استمرؤوا الفكرة وحاولوا تكرار ذلك عبر إمبراطوريتهم الجديدة خارج نطاقهم الجغرافي التقليدي في مناطق أخرى من العالم وتسببوا بحروب عالمية أسبابها نفس المنطلقات الجشعة في الهيمنة والسيطرة والغاء الآخر، فكانت الحربين العالميتين وكانت الحرب الصينية-الكورية، وحرب فيتنام والافغان والعراق والصومال والبوسنة والهرسك، وكان احتلال فلسطين وزرع كيان غاصب تمهيدا لاقتلاع أمة العرب وأردفوها بالمشروع الطائفي الايراني ليكتمل مشروع الاقتلاع على طريقة الهنود الحمر.

 

وهنا تدخل اليمن في الحسبان، اذ لا يوجد شعب من الشعوب العربية يمتلك ما يكفي من مقومات المقاومة والصمود ووحدة الذات والدين والثقافة والموروث كما اليمن، ولا ينقص انبعاثها سوى الوعي بتلك المقومات واستثمارها وبروز قيادة او مشروع اسلامي او حتى قومي داخلي او خارجي. بالنسبة للمشروع العربي أو الإسلامي، فقد حرصوا على الحيلولة دون قيامه من خلال ضرب القومية والإسلامية معاً عبر الدول الوظيفية وعبر الوكلاء المخلصين لهم، واقتضى الحال هندسة اليمن جغرافيا وديمغرافيا بحيث تظل أسيرة الفقر والصراعات والتطرف والإرهاب لأنه الكفيل بتفكيكها كصخرة صلبة متماسكة، فرأينا محيطنا الأقل حظا منا حضارياً ومقوماتٍ يرفل بالغنى والرفاهية، وبلادنا رغم كل ما تملكه من ثروات ومن موقع جغرافي ومن تركيبة سكانية مثالية يشكل الشباب اكثر من ٦٠% منها تعيش حالة تخلف وعدم استقرار ومصادرة لقرارها وناقصة السيادة من خلال وصاية الجيران عليها.

 

ولقي ذلك صدى ووقعاً في نفوس الجيران الذين هم وكلاء الاستعمار والذين خلال عقود طويلة نمطوا مجتمعاتهم وتبنوا من السياسات السكانية ما يضمن لهم الاستمرار في السلطة وما يرضي اسيادهم عنهم حتى خلقوا فجوة بين شعوبهم وبين الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية واصبح المواطن هناك سلعة وملكاً لمن يحكمه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا يرى الا ما يراه الحاكم الذي يسجنه وقت يشاء ويصادر ماله متى أراد واغرقوا اسواقهم ومجتمعاتهم بكل منتجات وخدمات وأفكار العولمة لسلخ الفرد والأسرة والمجتمع من كل الثوابت وزرع أخرى جديدة، وتكريس ذلك باستجلاب عمالة تؤثر فيهم ولا تتأثر بهم وتساهم في سلب الأسرة هناك والمجتمع خصائصها وحصر بل واستبعاد العمالة اليمنية قدر الإمكان حتى لا تعيد ضبط الاعدادات على سابق عهدها بحكم أن الشخصية اليمنية هي منجم القيم التي يحاربونها من عقود، فرأينا كيف يضيق على العمالة اليمنية وكيف يتم تجاهل الاصوات المدركة لخطر التحول الثقافي والداعية للاعتماد بشكل أساسي على العمالة اليمنية لأنها ضمان لتماسك المجتمع قيميا وثقافياً.

 

 لكن بقاء اليمن فقيراً لم يكن كافياً لضمان اكتمال المشروع ولإسكات المخاوف التي لا تكاد تخبوا  في نفوس الجيران فكان لا بد من نقلها الى مرحلة أخرى للتشريح واعادة صياغتها بعد عقود من التهيئة وساعد على ذلك التحولات السياسية منذ 2011، ووجدوا فيها فرصتهم السانحة لتوجيه الضربة الأخيرة، فهيئوا الوضع والمشهد للحرب وكثفوا دعمهم للمشاريع الصغيرة والطائفية والمناطقية ووفروا الدعم للأطراف المتصارعة لضمان بقاء الحال دون حلحلة حتى يبدأ النزيف الذي أبكاني، ليس نزيف الدم، بل نزيف القيم وتفكك الأسر وهجرة العقول والكوادر و رأس المال وخلق قيم جديدة للشباب الذين هم حجر الزاوية والأكثر استهدافاً، فالشاب الذي كان يتطلع للدراسة والتأهيل والعمل بدافع ردف اسرته وتأسيس نواة جديدة والزواج واثبات أنه جدير بالثقة وتحمل المسؤولية بدأ اليوم بعد عقد كامل من اللاستقرار يفكر بالهجرة وترك موطنه، وبالفعل لم يعد احد يتردد اليوم في ترك اليمن والبحث عن موطن جديد لتحقيق الآمال والطموحات، فنرى اليوم جاليات اليمن تكبر في أنحاء العالم وتؤسس لنفسها موطنا جديدا وتتعرض لقيم جديدة بعيدا عن محضنها الاول ويتنكر بعض افرادها لقيمها الأساسية تحت دعاوى الانفتاح والتجديد والتأقلم مع الآخر، نرى شباباً وشابات بعمر الزهور يظهرون في الاعلام الجديد في بلدان المهجر عيونهم تشع فرحاً وغبطة بالحياة الجديدة التي اكتشفوها والحرية التي يعيشونها بعيدا عن ما يعتبروه القيود الاجتماعية والدينية ويلعبون دور الملهم والقدوة لأقرانهم دون أي محاذير او خوف على الهوية وعلى خصائص الشخصية اليمنية، بل بات البعض يستعير من يمنيته دونما تردد أو اعتبار وكل ذلك يفعل فعله في الذات اليمنية وفي حاضر ومستقبل اليمن، حيث سيطر على الذهنية اليمنية اليوم فكرة الرحيل، واغلب الظن بل اليقين أن معظم الافراد والأسر الذين هاجروا وبسبب طول الفترة واكتسابهم لغات جديدة واندماجهم التدريجي في تلك المجتمعات ستجعل مسألة التفكير بالعودة أمراً مستبعداً وغير وممكن بحكم الأمر الواقع، فبعد أن يعتاد الاطفال وأهاليهم على نمط معين من المستوى التعليمي والمعاشي  والأمن والأمان فلن يجرؤ احد على التفكير بالعودة لليمن حتى اذا توقفت الحرب. والاشكال هنا يكمن أن الفئة الأكثر نزيفا والتي تشكل اكثر من ستين في المائة من السكان في اليمن هم الشباب، وهذا يعني أننا بعد فترة سنكون امام خلل سكاني كبير يصعب تلافيه لعقود طويلة، حيث يبقى في اليمن كبار السن والاطفال وتتقلص الفئة الوسطى إما جراء الهجرة او استنزافهم في جبهات القتال، فالحرب والصراعات أكلت حتى اليوم مئات الآلاف من الشباب، مما يعني زيادة اعداد الفئات غير العاملة كالأطفال وكبار السن والمعاقين والنساء ومختلف الفئات الضعيفة، وهو ما يشكل عائقاً وتحديا كبيرا امام التعافي لاحقا.

 

هذا مجرد صورة مبسطة لآثار الحرب والصراع في اليمن وما لم يستيقظ أطراف الصراع وعقلاء اليمن وأعيانها ومثقفوها فإن المخرج ماض في تدميرهم وتدمير مستقبلهم ومستقبل أجيالهم وتمزيق بلدك ولا يمتلك اي وازع من دين او ضمير يمنعه من ذلك، فاليمن يضيع وشبابه يتبددون وثرواته تنهب وأهله يهانون ومتروكون فريسة للجوع والفقر والأمراض ومتوالية الصراعات والنزاعات.


Create Account



Log In Your Account