كيف حاربت السعودية الوحدة؟
الجمعة 22 يناير ,2021 الساعة: 04:27 مساءً

اليمنيون عبر تاريخهم الطويل أكثر قابلية للفرقة والانقسام، لم يكادوا يتعافوا من صراعاتهم المناطقية، والمذهبية، والسلالية، حتى أطلت عليهم العصبية الحزبية بوجهها القبيح، وهكذا صار الجنوب يساريًا، والشمال يمينيًا، وصار لليسار يمين، ويسار انتهازي، ولليمين يسار، ويمين وسطي، استغل اللاعب الخارجي ذلك، ومن خلاله تسلل، صبَّ نفطه على النار، ووقف مع الجميع ضد الجميع، وتخلص من أصدقائه قبل أعدائه، وجعل جغرافية اليمن مُلتهبة بالصراعات، والجراحات الغائرة.

قدَّم المُتحزبون المُتعصبون مَصلحة الحزب على مصلحة الوطن، وقدَّم المشايخ المُتسلطون مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن، وبين هذا الفريق وذاك تاه الوطن، وغُيبت الذاتية اليمنية، واختزل مفهوم الوطن والوطنية والوحدة بما يتفق وتوجه المُتصارعين، وظلت القبيلة والحزب مُتصدرتان للمشهد، مُتحكمتان بصناع القرار، والويل كل الويل لمن يحاول أنْ يتحرر من هيمنتهما.

أفصحت القوى القبلية المُسيرة من قبل السعودية عن معارضتها العلنية لاتفاقية القاهرة أكتوبر 1972م، دون طرح البديل، زادت ضغوطاتها على رئيس الوزراء محسن العيني؛ فقدم الأخير نهاية ذات العام استقالته، حلَّ عبدالله الحجرى - رجل السعودية الأول في اليمن - بدلًا عنه 6 يناير 1973م، فاتجهت الأمور صوب منحى انفصالي زاد الطين بلة.

قام رئيس مجلس الوزراء الجديد بإيقاف أعمال اللجنة المُكلفة بمناقشة بنود الوحدة، ودعا إلى إقامتها على أسس إسلامية، واتجه نحو إصلاح علاقات اليمن مع السعودية، التي توترت بفعل تلك الخطوات الوحدوية؛ بل وصل به الأمر أنْ وافق أثناء زيارته للمملكة على أنْ تكون اتفاقية الطائف اتفاقية نهائية غير قابلة للتجديد 18 مارس 1973م؛ الأمر الذي أغضب الرئيس عبدالرحمن الإرياني، وأثار سخطًا شعبيًا عارمًا، وخرجت المسيرات المُنددة في عدد من المدن اليمنية.

صدر في أعقاب تلك الزيارة بيان مُشترك جاء فيه: «اتفاق الجانبين التام مُجددًا على اعتبار الحدود بين بلديهما حدودًا فاصلة بصفة نهائية ودائمة، وذلك كما نصت عليه المادتان الثانية والرابعة من معاهدة الطائف»، اعتبر السعوديون ذلك البيان بمثابة اعتراف نهائي بديمومة الحدود، في حين رأت القيادة اليمنية أنَّه مجرد بيان صحفي غير مُلزم، ولا يلغي حقهم بالمطالبة بتعديل اتفاقية الطائف، وما حوته من أحكام خاصة بالحدود أو بأي شيء آخر، خاصة في فترة التجديد كل 20 عامًا.

في شهادته على تلك المرحلة قال حسن مكي، الذي كان يشغل حينها نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية: «وعلى خلاف سياسة التقارب والتفاوض مع الشطر الجنوبي التي كان الإرياني يحبذها للبحث عن حلول تجنب الطرفين النزاعات، وإراقة الدماء، واصل الحجري تصعيد لغة العداء، والمواجهة مع الجنوب»؛ لتتجدد بفعل ذلك المواجهات العسكرية في المناطق الوسطى، وبوتيرة أشد من سابقتها، وصل عدد ضحاياها - بحسب ما أعلن عنه في حينه - ما يقارب 1,000 قتيل.

وهنا أشار مكي إلى أنَّ الرئيس الإرياني كان حريصًا على تجنب الإسراف في سفك الدماء، في الوقت الذي أصر فيه الحجري على استخدام القبضة الحديدية في مواجهة تلك الأعمال، دون تقدير للأرواح التي أزهقت، وللتكاليف الباهظة لتلك السياسة، ونُقل عنه أنَّه حين نصحه البعض أنْ يحتاط للأمر حتى لا يكون عرضة لانتقام ذوي القتلى في بلد ما تزال فيه قضايا الثأر حية، قال: «سأواصل ملاحقتهم حتى لو تفجر آخر لغم تحت عمامتي»، وبالفعل فقد بعد أربعة أعوام حياته ثمنًا لموقفه المُتشدد ذاك.

استغل المجلس الجمهوري حادثة اغتيال الشيخ محمد علي عثمان - أحد أعضاء المجلس، وأحد المعارضين للتواجد الشيوعي في الجنوب - 31 مايو 1973م، وأرسل في اليوم التالي وفدين رفيعي المستوى إلى عدد من الدول العربية، منها السعودية، وعُمان، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، لشرح الموقف المتأزم، ولطلب الدعم السياسي، والمساندة العسكرية، وكما بدأ الوفد الأول جولته بالرياض ختمها أيضاً بالرياض، وهناك خاطب الأمير سلطان بن عبدالعزيز - مسؤول الملف اليمني - الشيخ سنان أبو لحوم - رئيس ذلك الوفد - قائلًا: «أنتم متناقضون وغير مُوحدين، وكل فئة منكم لها رأي، وعندكم أغلب المسؤولين مع الاشتراكيين، وأنتم الذين في الواجهة أيضاً مُنقسمين، وأنت في الوسط تريد أن تكون مع الجميع، وأظن أنك تعرف ما أعني، فالشيخ عبدالله وإبراهيم الحمدي في جانب، وعبدالرحمن الإرياني ومحمد الإرياني في جانب، وأنت ومن تبعك تقفون في الوسط».

تعمق الخلاف بعد ذلك بين الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وبين الرئيس عبدالرحمن الإرياني، غادر الأخير اليمن صوب سوريا، وهدد من هناك بتقديم استقالته، ليتراجع بعد مرور ثلاثة أشهر عن موقفه، غادر اللاذقية إلى الجزائر، والتقى على هامش قمة دول عدم الانحياز بالرئيس سالم ربيع علي 4 سبتمبر 1973م، وذلك بعد يومين من اغتيال عبدالعزيز الحروي، وحلَّت لغة تهيئة الأجواء بدلًا عن لغة التعجيل بقيام الوحدة اليمنية.

لتحريك مياه الوحدة الراكدة؛ قام سالمين بزيارته الأولى كرئيس جنوبي للشمال، استقبله الرئيس الإرياني بمنطقة الراهدة 10 نوفمبر 1973م، ودخلا سويا مدينة تعز، وسط ترحيب كبير من قبل الأهالي، وانطلقا في اليوم التالي صوب مدينة الحديدة، وأهم ما ميز لقاءهم الثالث والأخير الاتفاق على إيجاد صيغ مُشتركة على الصعيد الاقتصادي، وتذليل ما قد يعترض طريق اللجان المشتركة من مصاعب، وطرح الفيدرالية كخيار قابل للتطبيق، تعمق بسبب ذلك الخلاف بين الرئيس الإرياني ورئيس الوزراء عبدالله الحجري؛ فقدم الأخير استقالته مارس 1974م.

حاول الرئيس عبدالرحمن الإرياني أن يتحرر من الهيمنة القبلية، أو بمعنى أصح تهذيبها، فناله من أذاها الكثير، اتهموه بتقريب عناصر يسارية، وتمكينها من وظائف حكومية على حسابهم، مُتناسين أنَّه وقف منذ بداية حكمه ضد الحزبية، وقال مقولته الشهيرة بأنها «تبدأ بالتأثر، وتنتهي بالعمالة، سواء أطلت بقرون الشيطان، أو بمسوح الرهبان»، ولم يكن تقريبه المحدود لتلك العناصر إلا لاعتبارات مهنية صرفة من ناحية، ولخلق توازن داخل كيان الدولة الهش من ناحية أخرى، وفي المحصلة النهائية لم ينل رضا هذا الفريق أو ذاك.

ولتلك الأسباب، ولأنَّه كان يتعامل مع السعودية كعدو واجب الحذر منها لا معاداتها؛ ارتفعت وتيرة مؤذاة المشايخ القبليين المدعومين من الأخيرة له، قدَّم بسببهم استقالته مرة أولى، وثانية، وثالثة، ليغادر بعد ذلك السلطة بانقلاب أبيض ظهيرة يوم 13 يونيو 1974م، وانتهى به الأمر منفيًا في لاذقية سوريا، بعد أن رفض الحكام الجدد عودته.

حلَّ إبراهيم محمد الحمدي - أحد مُعارضي اتفاقية القاهرة السابق ذكرها - محل الرئيس الإرياني، أصدر الرئيس الجديد أمرًا عاجلًا بوقف الحملات الإعلامية ضد الجنوب، بادله الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي ذات الموقف؛ فأسسا لعلاقة ودية أخذت الطابع الشخصي أكثر من الرسمي، التقيا في مؤتمر القمة العربية الرابع في الرباط أكتوبر 1974م، واتفقا على سحب القوات المُتمركزة في الحدود الشطرية، وعلى إيقاف الدعم الذي يقدمه النظامين للمقصيين الجنوبين في الشمال، والمقصيين الشمالين في الجنوب؛ لتتوقف بفعل ذلك المواجهات المُسلحة في المناطق الوسطى لبعض الوقت.

كان خطاب الرئيسين في تلك القمة حول المصاعب الاقتصادية التي تواجه اليمن وحاجته لدعم الأشقاء مُوحدًا، اعترض الملك فيصل بن عبد العزيز حينها، فرد عليه سالمين بمنطق وهدوء نال إعجاب الحاضرين، فيما طلب صدام حسين - من الملك السعودي سحب اعتراضه، وتحفز في المقابل أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح لتقديم الدعم اللازم، وخاطب رئيسا الشطرين قائلًا: «يا أولادي الكويت ستقدم لكل واحد منكم عشرة مليون دولار؛ لكن على شرط ألاَّ تشتروا بها سلاحًا وتتقاتلوا».

كان تحقيق الوحدة في عهد الرئيسين سالمين والحمدي أمرًا ممكنا، لكونهما يتمتعان بنفس الرؤية، والغاية، والهدف، وقبل هذا وذاك صدق توجهما، ولا أدل من لقائهما الودي الثاني بمؤتمر القمة العربي الثامن في القاهرة أكتوبر 1976م، حيث صوت الرئيس الجنوبي باسم الشطرين على تجديد فترة رئاسة محمود رياض كأمين عام للجامعة العربية.

وفي ذات المؤتمر أعلن الرئيسان عن إرسال قوات مشتركة إلى لبنان، ضمن قوات الردع العربية، كما تم الاتفاق على تمثيل اليمن بوفد مُوحد في المحافل والمؤتمرات الدولية، وعلى أن تتولى سفارة أحد الشطرين ذات المهام في أي عاصمة ليس لصنعاء أو عدن تمثيل دبلوماسي فيها.

أكثر الأدبيات التي وثقت لحوادث تلك الفترة أشارت إلى أنَّ الرئيسين كانا يسعيان إلى قيام وحدة فيدرالية بين الشطرين؛ كونها تحظى بالتمهيد الجيد، والإعداد المسبق، وكرديف للجبهة القومية - التنظيم السياسي الموحد قبل تأسيس الحزب الاشتراكي - في الجنوب، سعى الحمدي لتأسيس المؤتمر الشعبي العام كتنظيم جماهيري مماثل يلم فيه فرقاء التيارات السياسية الفاعلة في الشمال، ويحد فيه من نفوذ المشايخ، وبالفعل تم تشكيل لجنة لإعداد ذلك الكيان فبراير 1977م، إلا أنَّ عراقيل كثيرة اعترضت ذلك المسار، كانت الهيمنة القبلية والتدخلات السعودية أبرزها.

التقى الرئيسان في مطار قعطبة 16 فبراير 1977م، لم يتم الحديث حينها عن إحياء اتفاقية القاهرة؛ بل تم الاتفاق على تشكيل مجلس يتكون من رئيسي الشطرين، ومسئولي الدفاع، والاقتصاد، والتجارة، والتخطيط، والخارجية، وأن يجتمع المجلس مرة كل ستة أشهر بالتناوب بين صنعاء وعدن، لبحث ومُتابعة الأعمال المشتركة، واللجان الفنية، كما تم الاتفاق على توحيد بعض المناهج الدراسية.

زار الرئيس سالمين صنعاء 13 أغسطس 1977م، ليتعرض مطار صنعاء بالتزامن مع عودته إلى عدن لقصف بقذائف الكاتيوشا، وقد اعتبر تقرير السفارة الأمريكية - الناقل لتلك الحادثة - ذلك بـ «أنَّه تعبير من المشايخ المُوالين للسعودية عن عدم رضاهم من وجود الرئيس الاشتراكي في عاصمة الشمال».

لقيت خطوات الحمدي وسالمين الوحدوية مُعارضة من قبل بعض الأطراف النافذة في كلا النظامين، وفي الشمال كان عبدالله الحمدي، وعبدالله عبدالعالم، وعلي قناف زهرة، وعلي الشيبة، ومنصور عبدالجليل، وأحمد فرج، ومجاهد القهالي إلى جانب الرئيس الحمدي، فيما كان أحمد الغشمي، وعلي عبدالله صالح، ومحمود قطينة، ومحسن سريع في الجهة المقابلة، اعتمد الفريق الأخير على شعبية الرئيس، وأغفل ولاء غالبية القوات المسلحة للفريق الأول؛ فخسر المعركة.

سبق للحمدي أنْ أزاح القوى القبلية والعسكرية التي أزاحت سلفه الرئيس الإرياني، ومهدت لتوليه الحكم، وأتى بهؤلاء النافذين، وجُلهم من سنحان ومن همدان، فكانت نهايته على أيدي الأخيرين 11 أكتوبر 1977م، كان للمملكة العربية السعودية الأثر الأكبر في انقلاب هؤلاء عليه، اشترتهم - كما تشير أغلب المصادر - بالمال، ووعدتهم بالسلطة؛ بعد أنْ تأكد لها أنَّه ذاهب في اليوم التالي إلى عدن ليحتفي مع صديقه سالمين بالذكرى الرابعة عشرة لثورة 14أكتوبر، ويعلنان الوحدة من هناك.

وهكذا لم يتسن للحمدي رد الزيارة لصديقه سالمين، وتبقى المُفارقة الصادمة في مسار حياته، أنَّه صعد إلى الكرسي بتأييد سعودي كبير، وذهب ضحية تأمرها، كانت أول دولة يزورها، وكانت أول دولة تتلقى نبأ مقتله بشفرة (الصابونة وقعت)، وكانت نهاية سالمين شبيهة إلى حد ما بتلك النهاية المأساوية.

الحمدي وسالمين رئيسان أحبهما الشعب، حاولا التخلص من هيمنة القبيلة والايدلوجيا فتُخلص منهما، وبعد ثمانية أشهر و15 يومًا من مقتل الأول أنهى الرفاق حياة الثاني 26 يونيو 1978م؛ بذريعة القضاء على طفولته اليسارية، وقبل ذلك بيومين قتل الرئيس أحمد حسين الغشمي بحقيبة مُفخخة قادمة من الجنوب، تتشابه النهايات، بيد أنَّ الأخير ليس محبوبًا البتة، وكما يحظى قبر الحمدي بآلاف الزوار لقراءة الفاتحة عليه، لا يزال قبر سالمين مجهولًا حتى اللحظة.


Create Account



Log In Your Account