يمانية ويماني في العراق!
الأربعاء 06 يناير ,2021 الساعة: 06:18 مساءً

... شاءت الأقدار أن يجمع الموت في يوم واحد، بين المقاء بنت عطاء بنت سبأ المعروفة بالخيزران، وعالم العربية ومبدع علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي . ماتت الخيزران في بغداد بينما مات الفراهيدي في البصرة، لثلاث بقين من جمادى الاخرة 173 للهجرة 789 للميلاد.

أبدع الاثنان اللذان ينحدران من أقاصي جنوب جزيرة العرب، في الخلود في التاريخ على الرغم من حياة قاسية التضاريس. أبدعت الأولى في إدارة السياسة من وراء الكواليس في تجسيد لقدرة المرأة على توجيه دفة الاحداث وفهم معنى الدولة ومهماتها والتقاط اللحظة التاريخية وخطورتها، وكذا الاستجابة لها بتولية ابنها هارون الرشيد مقاليد السلطة.

تجد المقاء بنت سبأ  الصبية اليمانية التي يختطفها عسكر دولة بني العباس في مستهل أمرها، في ذاتها قوة استثنائية للصمود بصفتها  امرأة عاشت تقلبات السبي واحزانه ومواجعه، لتتفولذ فتكتشف ذاتها قيادية في مرحلة استثنائية من نشوء الدولة العربية الناهضة.

حفرت أسئلة الدهشة في الخيزران، عميقا، فواجهتها بجلد لم تعرفه امرأة . أصغت لروحها فأجابت على : من انا؟ّ! ولِمَ يحدث لي هذا؟! ألسنا عربا ومسلمين؟! كيف أُسبى، لأُقدم هدية، تصبح لاحقا جارية ومحظية في بلاط الخليفة العباسي؟! اسئلة الاستكناه هذه كانت ثقيلة الوطأة، بل وقاتلة لصبيّة من شبوة اليمانية التي كانت إذّذاك خارج هيمنة الدولة الناشئة.

ناطحت  الخيزران، المصاعب فغلبتها، فصارت فرصة لانثى لم تكن شيئا في موروث وثقافة تلك المرحلة التاريخية . استحوذت على قلب الخليفة المهدي فتزوجها، فاتقنت دور الملكة، بل قل وكأنها خلقت له، على الرغم من نشأتها الاجتماعية التي لم تتلوث بثقافة السلطة وغبنها الذي يلحق بالانسان فيصادر انسانيته التي تتحول شيئا فشيئا الى ما يشبه التوحش في البرج العاجي السلطوي. قالت الخيزران للتاريخ، ان تحدي الانسان الرئيس ان يبقى انسانا . وأن عليه ان ينهض بالمهمات التي يواجهها في خضم الحياة، خصوصا اذا كان في قلب الصراع على شكل السلطة المركزية. تجاوزت الخيزران جلّ مجايليها من رجال ونساء، فتصدت لحسم امر السلطة في اللحظة الفارقة، فكان الرشيد الذي انحازت له بكل ثقة، وهو ما اكده التاريخ في سيرة الدولة العباسية.                 


على المقلب الآخر، كانت الامّة وروحها تتجسدان في الخليل الفراهيدي وهو يضع علم العروض. فهذا المبدع استلهم من المشي في سوق الصفارين، واصوات دقدقة المطارق، نغما فارقا ليطلق في داخله بدايات موسيقى العروض التي تعد القوام الموسيقي للشعر العربي. فمن كان يتوقع ان يكون هذا اليماني المنقطع عن متع الحياة، حسّاسا لدقات الصفارين وهي توحي له بابتكار عظيم ؟! يعود الرجل الفذ الى بيته بعد جولة الاستماع والطرب تلك، فيدلّي نفسه في البئر ليصدر أصواتا بنغمات متباينة، الهمته تخصيص نغم مناسب لكل قصيدة.


تالياً، يعكفُ العالمُ على قراءة الشعر العربي وايقاعه ونُظمه ليرتب هذا الموروث الغني وفقا لتلك الانغام، وتصنيف مكونات كل مجموعة متشابهة معا، ليقوم لاحقا بضبط أوزان بحور الشعر الخمسة عشر.

 في مراحل صعود الامم، تلتئم شخصيات من شتى المشارب لتصوغ هوية الدولة وتنجز مهماتها في مختلف مجالات العلوم النظرية والتطبيقية، وكذا على السياسة وفهم حركة التاريخ والتقاط خطورتها . قد يقول قائل ان الخيزران وهي تنحاز لابنها الرشيد كانت تعبر عن قسوة مرأة عانت في حياتها الكثير، لكن ذلك ينطوي على تسطيح لا ريب انه يغفل ان لحظة الانحياز تلك انقذت امبراطورية وعبرت عن حكمة والهام كانت عليه تلك الصبية اليمانية التي ساقتها الاقدار لتسوس من وراء الكواليس دولة بني العباس. هذه الدولة التي عظّمت من شأن العلم العربي ووفرت له بيئة ما تزال موضع سؤال وبحث حتى اليوم !

كاتب عراقي 

*نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك


Create Account



Log In Your Account