"غيوم مسيو" الروائي الاكثر مبيعا يفضح "حياة الكاتب السرية"
الإثنين 30 نوفمبر ,2020 الساعة: 12:04 صباحاً


اختلف الكتاب والنقاد لسنوات حول دور الكاتب والمثقف في المجتمع، منهم من أراده مرشداً مصلحاً، ومنهم من أراده زاهداً منعزلاً، لكن الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعاً اليوم في عالم الرواية الفرنسية، غيوم ميسو يجد أن وظيفة الكاتب أو المثقف أصعب مما تبدو عليه لأسباب غير متوقعة أبداً.

ففي روايته المترجمة حديثاً إلى العربية بعنوان "حياة الكاتب السرية" (دار نوفل، ترجمة رانيا الغزال، 2020) يقول ميسو بشيء من التهكم الجميل ملخصاً عمل الكاتب "حياة الكاتب هي الشيء الأقل روعة في العالم. أنت تعيش كالأحياء الأموات. وحيداً ومنقطعاً عن العالم. تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمراً أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة وتتحدث إلى شخصيات خيالية ستفقدك صوابك في نهاية المطاف. تمضي لياليك وأنت تعصر أفكارك لتكتب جملة لن يلحظها ثلاثة أرباع قرائك القلائل. هذه هي خلاصة أن تكون كاتباً". (ص: 47).

ومن يظن أن هذه الجملة تحمل ما تحمله من صدمة وتهكم واستفزاز مثير للفضول والاهتمام، فلا بد من أن يقرأ مجمل الرواية ليكتشف شخصية الروائي الذائع الصيت ناثان فاولز الذي قرر اعتزال الكتابة بعد ثلاث روايات نالت نجاحاً باهراً في العالم أجمع. فما اللغز خلف هذا الاعتزال المفاجئ والسريع، ولماذا هذا التوقف الصادم عن الكتابة، بينما فاولز هو الكاتب الأشهر والأكثر تأثيراً في القراء، لماذا يختار كاتب أن يختفي وهو في أوج نجاحه وفي ثلاثينيات عمره فقط؟

في جزيرة متخيلة

اختار الكاتب البارز ناثان فاولز يوم 12 يونيو (حزيران) 1999 أن يضع حداً لمسيرته الأدبية، وأن يعتزل الكتابة وينتقل ليعيش في جزيرة بومون الهادئة بعيداً عن أعين الفضوليين والصحافة المستنكرة هذا الموقف. اختار ناثان أن الحياة أوسع وأجمل من أن يمضيها خلف شاشة الحاسوب، دائباً على كتابة كلمات وجمل يرهق نفسه بها، بينما لن يتنبه إليها أحد. لكن المسألة ليست على هذه البساطة والسذاجة. فخلف قرار ناثان هزيمة ولغز ومأساة كبيرة ستنكشف في نهاية الرواية. خلف وجه ناثان الصلب والبارد والعنيد، قصة يلتهمها القارئ بسهولة وسلاسة ولذة تنسيه أن الرواية تربو على الثلاثمئة صفحة.

وكما في روايات ميسو عموماً، هناك دوماً امرأة. عنصر الأنثى التي تأتي لتزعزع الفضاء السردي وتحرك ركوده. وهذه المرة هي ماتيلد موني المحرك الاستثنائي، صحافية شابة جميلة، امرأة فضولية جاءت لتجلب معها الأسئلة والقصص والجرائم. فمن كان ليتوقع جريمة وحشية على شاطئ الجزيرة، من كان ليتوقع أن تتحول هذه الرواية الهادئة حول روائي فظ متقاعد إلى رواية بوليسية فيها ما فيها من تشويق وإثارة وعناصر سردية غير متوقعة، وما قصة هذه الشقراء المستفزة، وما علاقتها بالكاتب الهارب من الحياة والكتابة إلى صومعته المتوسطية المشمسة؟

عشرون سنة أمضاها ناثان فاولز على جزيرته المتوسطية الجميلة الهادئة، عشرون سنة أمضاها من دون أن يستطيع أحد أن يكتشف لغزه وحياته السرية، فما الذي حصل بين 11 سبتمبر (أيلول) 2018 و11 أكتوبر (تشرين أول) 2018، شهر واحد قلب المعايير وكشف "حياة الكاتب السرية"، فما الحقيقة؟

الروائي المخلص

يتأرجح السرد في فصول هذه الرواية بين راو يتحدث بصيغة المتكلم، وهو الشاب رافاييل باتاي الآتي حديثاً إلى الجزيرة بحثاً عن ناثان فاولز الكاتب المعتزل، وراو خارجي يتحدث عن ناثان فاولز الكاتب المشهور وينقل الأحداث من جهته، لتتحول الرواية إلى أحجية سردية تكتمل مع التقدم في الصفحات. ومن الأمور اللافتة في هذه الرواية هي العلاقة بين الكاتب العظيم ناثان فاولز والشاب العشريني رافاييل باتاي الذي يريد أن يصبح كاتباً.

يكتشف القارئ أن ميسو جعل ناثان فاولز رمز المخلص المنتظر. فناثان أولاً بعيد المنال، يرفض التحدث إلى أحد، وينعزل في بيته على صخرة عالية بعيدة عن الناس والمجتمع. يسبغ ميسو على الكاتب في نصه صفة العظمة والتبجيل. فرافاييل يخشى ناثان ويرهب جانبه ويضطر إلى أن يتسلق الجبل ليتحدث معه.

وعلى الرغم من أن ناثان يطلق النار ثلاث مرات على الكاتب الشاب، في نوع من امتحان لإرادته، يرفض رافاييل التراجع ويسلم مخطوطته إلى ناثان كاتبه المفضل. لتتحول هذه العلاقة بين الكاتب الشاب والكاتب العظيم إلى مقابلة أدبية، فيقول ميسو بشكل واضح واصفاً المشهد من وجهة نظر الكاتب الشاب: "هبت رياح قوية مفاجئة فتسببت في تدفق موجة على الصخرة حيث كنت موجوداً. لتجنبها، تسلقت مجموعة أخرى من الصخور، ما جعلني أقرب إلى الروائي". (ص: 46)، وكأن صعود الجبل امتحان لإيمان الكاتب الشاب.

ثم يكمل مشهد التبجيل هذا، مع وصف رافاييل مشهد لقائه بالكاتب الكبير، لقاء منتظر منذ سنوات: "كنت أتشرب كلماته. كان من المذهل رؤيته وهو يتحدث عن الكتابة بشغف. كان هو ناثان فاولز الذي كنت أتمنى أن أجده عندما جئت إلى جزيرة بومون". (ص: 126). يسبغ ميسو على كاتبه صفات ترفعه عن مقام الناس العاديين وهو أمر يتعارض مع كل ما يحاول أن يقوله ناثان عن الكتابة، وكأن ميسو بذلك يحاول أن يفضح "حياة الكاتب السرية" من دون أن يسلب هذا الأخير هالة التبجيل المحيطة به.

"حياة الكاتب السرية" (La vie secrète des écrivains, Guillaume Musso)، رواية جميلة آسرة، مكتوبة بأسلوب شيق، تمزج حب الكتب وحب الكتابة بجريمة على شاطئ جزيرة بعيدة هادئة. رواية سلسة تتسلل بهدوء إلى القارئ فتكتسب إعجابه بلغتها الجذلة الرشيقة ومعانيها المستفزة غير المتوقعة، هذا عدا عن أن الترجمة جميلة هادئة ترافق السرد وتتوافق معه ولا تقع في فخ المغالاة في التجميل والتنميق.

إلا أن مأخذاً واحداً قد يؤخذ على ميسو وهو أن سرده سريع وفضاءه السردي هش، فأغلب شخصياته غارقة في الحاضر ولا يعرف القارئ شيئاً عن ماضيها.

إن الراوي الشاب رافاييل كاتب يافع طموح لكن ميسو لا يخبر شيئاً عن حياته، عن عائلته، عن قصصه، عما اضطر أن يتركه خلفه عندما جاء إلى الجزيرة. كذلك هي حال المكتبي ومعظم الشخصيات. يشعر القارئ في نهاية السرد أنه لا يعرف الشخصيات، لا يمسك بها بين يديه.

قد تكون هذه تقنية كتابة الثريلر (thriller)، إنما كان من الممكن أن يستمتع ميسو أكثر بإضافة تفاصيل وقصص وحبائل سردية، كما أنه كان بإمكانه أن يمنح نصه عمقاً وسماكة نفسية.

قد يفهم القارئ ضرورة الإبقاء على لغز الكاتب ناثان فاولز لأنه الكاتب ذو الحياة السرية، إنما ماذا عن الراوي، وصاحب المكتبة؟ ماذا عن ماتيلد وعن عاداتها وطبائعها وسنواتها السابقة؟ ألا تستحق هذه الشابة التي أسهمت في فضح "حياة الكاتب السرية" أن نعرف بضعة أمور أكثر عنها؟

المصدر : اندبندنت عربية


Create Account



Log In Your Account