ثمن زهيد لشرعنة الإنقلاب
الثلاثاء 17 نوفمبر ,2020 الساعة: 06:44 مساءً

حددت الأمم المتحدة جولة مفاوضات جديدة لتبادل الأسرى بين الحكومة الشرعية ومليشيا الحوثي، في التاسع عشر من نوفمبر ٢٠٢٠م في الأردن.. وهناك أمل معقود ان يؤدي حل ملف الأسرى الى تهيئة بيئة مناسبة لعقد تسوية سياسية تنهي الحرب في اليمن.

غير ان ما يبدو كفرصة وبوابة لتحقيق السلام المنشود لليمن من خلال اطلاق جميع الأسرى والمختطفين، يبدو كذلك طريقا سالكا للحوثيين نحو شرعنة تمردهم المسلح وانقلابهم على السلطة الشرعية في البلاد.

وقد سارعت جماعة الحوثيين الى إعلان موافقتها ، وقال رئيس وفدها المفاوض إن هذه الجولة ستكون مثمرة اكثر من السابق في اشارة الى جولة مفاوضات جنيف التي نتج عنها تبادل اكثر من ألف اسير ومختطف بين الطرفين اكثرهم اسرى حوثيين مقابل مختطفين مدنيين وقليل من الأسرى الجنود يتبعون الحكومة.

معظم من يتم تحريرهم في صفقات التبادل لطرف الحكومة الشرعية هم مدنيين اختطفتهم جماعة الحوثي من الطرقات او مكان العمل وبادلتهم بأسرى من مسلحيها ممن اسروا خلال المعارك وفي ميادين القتال.

وفي الأيام القادمة، قد تواجه الحكومة عملية تخدير سياسية أكبر مما حصل لها في جولة ستوكهولم (ديسمبر ٢٠١٨).

حاليا، هناك اقبال غير معهود من جانب جماعة الحوثيين نحو ابرام صفقات تبادل الأسرى والمختطفين مع الحكومة الشرعية.

من جهة تواجه الجماعة نقصا في أعداد المقاتلين، في ظل تصعيدها في جبهات القتال حيث تخسر يوميا اعدادا من مقاتليها.

ومن جهة أخرى، هنالك مشروع مسودة الاتفاق المشترك ، تريد الأمم المتحدة من الطرفين التوقيع عليه وإعلان وقف شامل لإطلاق النار في عموم البلاد. وترى الحكومة ان ذاك الاتفاق قفزة أخرى غير مضمونة قد تشرعن لجماعة الحوثي الانقلابية دون ضمانة بتنفيذ نصوص الاتفاق للوصول الى السلام المنشود.

المؤشرات الراهنة، تقول إن صفقة ضخمة تلوح في الأفق قد تكون مغرية جدا لجماعة الحوثيين في مقابل ثمن زهيد، وهو اطلاق باقي الأسرى والمحتجزين بمن فيهم السياسيين الاربعة المشمولين بقرار مجلس الأمن الدولي ٢٢١٦.

وقد يكتفى بذلك دوليا واعتباره محققا لشرط بناء الثقة، للانتقال بسرعة الى ترتيبات الاعلان المشترك.

كل المؤشرات تقول إنه لا يوجد ما يمنع جماعة الحوثيين من اطلاق سراح كل المحتجزين لديها من مختطفين وأسرى، بضمنهم السياسي محمد قحطان رئيس الدائرة السياسية في حزب الاصلاح وناصر منصور شقيق الرئيس هادي ووزير الدفاع السابق اللواء محمود الصبيحي واللواء فيصل رجب ، في مقابل مكسب هائل، ينزع عن هذه الجماعة صفة التمرد والانقلاب ويصبغ شرعية على إنقلابها وينهي العزلة المفروضة عليها دوليا.

التطورات متسارعة وهناك ضغوط دولية أقوى مما سبق، نحو انهاء النزاع في اليمن عبر توقيع الاطراف على اتفاق الاعلان المشترك.

أما الضمانات ، فلا ضمانات كالعادة.

هناك فقط الحد الأدنى من بناء الثقة عبر تسوية ملف الأسرى، والرهان على أن هذا المكسب الآني سيكون مغريا لقيادة الشرعية وللداخل اليمني واكبر الأحزاب الاصلاح، فالجميع في جاهزية للوقوع تحت تأثير الفرحة في حال اطلاق سراح كل الاسرى والمختطفين بمن فيهم شقيق الرئيس وكبير سياسي حزب الاصلاح.

لكن تبعات هذا الإنفراج قد تكون باهظة فيما بعد، لأن منح الحوثيين وضعا جديدا باتفاق دولي ، غير مكفول أو مضمون من أساسه، إذ سيتم التغاضي عن أهم أساس لضمان قيام وصمود السلام الا وهو نزع السلاح الثقيل من قبضة الجماعة الانقلابية كما حدث في بعض الدول في الماضي.

إن توافق الرغبات خاصة لدى الحكومات الأوربية واستعجالها دفع اطراف النزاع اليمني للذهاب الى مفاوضات نهائية، وتوقيع " الإعلان المشترك" مهدد بالفشل أكثر من اتفاق ستوكهولم السابق وبالتحول من اتفاق يمني الى خطوة أخرى لترسيخ الانقلاب  وتعزيز نفوذ طهران في اليمن.

 بالإضافة لتثبيت جماعة الحوثيين الموالين لها والذين يريدون تحسين وضعهم في السيطرة على ثلثي البلاد واكتساب وضع جديد شرعي لقاء ثمن زهيد وهو إطلاق مئات من المحتجزين غالبيتهم تم اختطافهم من الشوارع ومكان العمل او من منازلهم ، ويظل بمقدور الحوثيين اختطاف الاف المدنيين غيرهم في اي وقت والزج بهم في السجون كما حصل خلال السنوات الماضية.

وحيث انه لا يوجد قيود على ممارسات جماعة الحوثيين، ويوجد تساهل مفرط من المجتمع الدولي مع هذه الجماعة الى درجة شجعت ايران على تحدي قرارات مجلس الأمن الدولي وتعمد كسر وإهانة القوانين والاعراف والمواثيق الدولية ، عبر انتهاج كل السبل حتى لو كانت من خلال أسلوب العصابات، كما حدث في طريقة وصول حسن ايرلو الى صنعاء باعتباره سفيرا جديدا لإيران لدى جماعة انقلابية تسيطر على صنعاء ومعظم مناطق شمال اليمن.

وفيما يحشد المجتمع الدولي اقوى ضغط ممكن لانهاء الصراع في اليمن في اقرب وقت،  قد يتضح لاحقا ان إنهاء صفة التمرد عن الحوثيين واخراجهم من خانة الجماعة الانقلابية المعزولة وفق القوانين والمواثيق الدولية، هو الناتج الوحيد المحتمل لاتفاق الإعلان المشترك التي تعمل الأمم المتحدة ومبعوثها الى اليمن للدفع نحو توقيعه في  وقت قريب.

بمعنى أخر قد لا ينتج عن توقيع الأطراف على مشروع" الإعلان المشترك "، السلام المنشود لليمن، وقد ينقلب أثره الى العكس ويغدوا نشاطا للسياسة الأممية شبيها بعملية غسيل الأموال في الاقتصاد.

في الأسابيع الماضية رأينا طبيعة الخطاب الأوروبي الذي تم توجيهه للحكومة الشرعية، فقد قيل لها إنها ضعيفة وليست متواجدة في الداخل، وتم الاشارة الى أنها اضعف في ميادين القتال، كما تم الاشارة الى ان المتمردين الحوثيين يصعدون على الأرض بقوة، وهو تقييم يغض الطرف عن خسائرهم الكبيرة وفشلهم في تحقيق تقدم مهم.

هذا الشكل من الضغوط قد لا يبدو بريئا، خاصة اذا قارنا كيف تعامل كبار اللاعبين الدوليين  بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية مع انقلاب مماثل حدث في الماضي في اليونان عام ١٩٤٦م أيقظ مخاوف لندن وواشنطن من المد الشيوعي وسيطرته على دول أوروبا، وكانت حكومة اليونان الشرعية المعترف بها دوليا في المنفى في مصر ، ولم يتم الاعتراف بحكومة الانقلاب الشيوعية رغم أنها كانت مسيطرة في الداخل،  وقد ثابر حلفاء الحكومة اليونانية الشرعية وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة وتمكنتا من اسناد حكومة اليونان المعترف بها دوليا ودعم الجيش اليوناني الموالي لها حتى تمكن من هزيمة الانقلاب عسكريا، واستعادت الحكومة الشرعية اليونانية سلطاتها وتم نزع سلاح المتمردين.

إن انهاء الانقلاب في اليمن واستعادة الحكومة الشرعية سلطاتها على كامل الأراضي اليمنية يمثلان روح القرار الدولي ٢٢١٦ الصادر عن مجلس الأمن الدولي.

كان العامل الحاسم في إنهاء الحرب الأهلية في اليونان وانهاء التمرد هو فشل المتمردين الشيوعيين في استقطاب مجندين جدد.

وهو نفس الوضع، كانت جماعة الحوثيين المتمردة  ماضية اليه بعد استنزافها خلال المعارك التصعيدية التي شنتها في مأرب والجوف والحديدة وجبهات أخرى.

لعل أبرز تشابه من تجربة الحرب الاهلية اليونانية مع حالة النزاع في اليمن يتمحور حول ان النزاع بين حكومة شرعية معترف بها دوليا في المنفى وتمرد في الداخل شكل حكومة أمر واقع في شمال البلاد لم يعترف بها، وكانت النهاية هزيمة التمرد ونزع سلاحه في حالة اليونان.

لكن المسار في الحالة اليمنية يذهب باتجاه قد يشكل سابقة مناسبة لنزق النظام الايراني وعدوانيته ضد دول المنطقة.. اتجاه نحو تثبيت الانقلاب الحوثي ، وشرعنته ، حيث تقول اطراف دولية وأممية أنه لا حل عسكري للصراع في اليمن، لأنه لا طرف من اطراف النزاع قادر على الحسم عسكريا.

لكن اضفاء شرعية على انقلاب وتمرد مسلح تدعمه إيران وتستخدمه ورقة في صراعها بكل منطقة، سيشكل سابقة خطرة وضارة للمنظومة الأممية نفسها، لأنها تمكين مجاني لجماعة متمردة طائفية إيدلوجية متعصبة وعدوانية تجاه كل من يخالفها الرأي او المعتقد، تعادي غالبية الشعب اليمني وقواه وتعادي جيران اليمن وتعادي معظم دول العالم ، وولائها عميق للنظام الإيراني، فكيف يمكن ائتمان جماعة بهذه الصفات على بلد لديه ساحل طويل على البحرين الأحمر والعربي مفتوح على المحيط الهندي ويشرف على باب المندب؟

إن تحركات تصفية الشرعية وشرعنة الانقلاب قد لا تحصل بتلك السهولة لولا اسهام قادة الشرعية والحكومة انفسهم من خلال اخفاقهم المتكرر وسعي معظمهم لمصالحهم الشخصية والأسرية وحالة الفساد المستشري في الحكومة والجيش. ويكفي انه لا أحد من قادة الشرعية او الحكومة وقيادة جيشها قرأ نصا في القوانين الدولية وقوانين الحرب ، ليدرك ما وراء مثابرة جماعة الحوثيين الانقلابية للتصعيد الواسع، فيما يستمر الجيش الوطني خائر العزيمة والإرادة لا يتحرك الا للدفاع ولا يباشر أي اصلاحات داخلية حقيقية.

ثمة حيثيات في نصوص القوانين الدولية وقوانين الحرب حول إبراز الشدة في القتال والقدرة العنيفة على الأرض في حالة جماعة انقلابية تسعى للإعتراف بها.

ورغم أن العديد من البلدان ضالعة في النزاع في اليمن، الا انه يصنف ضمن النزاعات المسلحة غير الدولية، وينطبق عليه النظام القانوني للنزاعات المسلحة غير الدولية.

وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش أنه " رغم أن القانون الإنساني الدولي لا يقدم توجيهاً بشأن ما إذا كان كيان مثل الحوثيين يمثل الدولة اليمنية، إلا أن سلطة الحوثيين لا تلبي فيما يبدو شروط الدولة، من وجهة نظر القانون الدولي العام."

وتضيف انه " في النزاع المسلح غير الدولي يمكن لأطراف النزاع أن تتمثل في مواجهة بين القوات الحكومية وجماعة مسلحة غير حكومية أو أكثر، أو في مواجهة بين جماعتين مسلحتين غير حكوميتين أو أكثر. وفيما يخص القانون الدولي، ينبغي للجماعات المسلحة أن تظهر تنظيماً وسيطرة كافيين للقدرة على تحمل العمليات العسكرية والتقيّد بالقانون الإنساني الدولي، حتى تعتبر "أطرافا" في النزاع.  كما أن النزاع المسلح يتطلب أيضاً درجة كافية من الشدة في الأعمال العدائية بين الأطراف، الشدة التي تقاس بالأسلحة المستخدمة، وكذلك طول فترة الأعمال العدائية وعوامل أخرى."

إن تطورات خطة الاجتياح الحوثي لمأرب التي فشلت على الأرض ثم في الحديدة جميعها كانت ترتيبات لجماعة يبدو أن لديها مرشدين دوليين لتسريع تثبيت انقلابها، تستغل حالة السبات لدى الطرف الآخر "الشرعية."

وخلال فترات التصعيد العسكري من قبل الحوثي، يبقى الجيش التابع للشرعية والتحالف في حالة دفاع وانقسامات وخلافات داخلية، فقد كان من صالحهم وصالح اليمن والسعودية إثبات شدة قتالية اكبر والعمل على تحقيق انتصار عسكري فارق في جبهة من الجبهات على الأقل.

إن الأثر الخبيث لما حدث هو ان الأوربيين خاصة لا ينظرون الى فشل التصعيد الحوثي في مأرب كنقطة ضعف للمليشيا، وظل خطابهم قائما كما لو ان الاجتياح الحوثي نجح وكما لو ان مأرب سقطت والمطلوب ان ترضخ الحكومة الشرعية وتذهب رغما عنها الى مشاروات " الإعلان المشترك" دون أي ضمانات ، وأن تقبل كل القوى في اطار الشرعية بتقاسم السلطة مع جماعة انقلابية موالية لايران لم تلتزم بأي اتفاق.

ناهيك انه وعلى منوال ستوكهولم، لا يوجد ما يضمن ان هذا الإقبال من جانب الانقلابيين الحوثيين بشان تبادل الأسرى والمختطفين بعد تعنتهم لسنوات، إنما هو خطوة تكتيكية الى حين إحراز هدف آخر متمثل بقرار دولي جديد ينهي التعامل مع الحوثيين بوصفهم جماعة تمرد، ثم يمكنهم نقض الاتفاق كما فعلوا سابقا بثقة افلاتهم من أي عقاب.

لقد هلل الجميع وصفقوا لنجاح تنفيذ اول صفقة لتبادل الأسرى بموجب اتفاق جنيف، وقد كان ذلك تنفيذا متأخرا لجزء من بنود اتفاق ستوكهولم في ديسمبر ٢٠١٨ ، بشان الاسرى.

اقتضى الاتفاق اطلاق جميع الأسرى والمختطفين من الجانبين وفق مبدأ الكل مقابل الكل وان يتم ذلك خلال أسابيع بعد اكتمال الترتيبات اللازمة.

ونص اتفاق تبادل الأسرى على إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين والمفقودين والمحتجزين تعسفيا والمخفيين قسريا والموضوعين تحت الإقامة الجبرية، بما في ذلك وزير الدفاع اليمني محمود الصبيحي، وشقيق الرئيس ناصر منصور هادي والقائد العسكري فيصل رجب والسياسي محمد قحطان.

في مقررات اتفاق ستوكهولم، كانت الفترة المقررة لإجراء ترتيبات اطلاق الأسرى والمختطفين، قرابة ٤٠ يوما بحسب آلية تنفيذ اتفاق التبادل المنصوص عليها.. لكن الاتفاق تعثر لعام وتسعة أشهر.

ومؤخرا، تم استئناف اتفاق تبادل الأسرى والمختطفين، ابتداءً بالافراج عن اكثر من الف اسير ومحتجز من الطرفين في صفقة اولى ، بينهم اكثر من ٦٠٠ اسير من جماعة الحوثي، ما جعل الجماعة المستفيد الأكبر من الصفقة ولبت اكثر من هدف لها؛ حاجتها لمقاتلين وقيادات ميدانية لتعويض خسائرها الفادحة وحاجتها للخروج من العزلة المفروضة عليها والتمهيد لمكسب سياسي أكبر تأمل جماعة الحوثي الوصول اليه انطلاقا من جولة التبادل الثانية للأسرى والمختطفين.


Create Account



Log In Your Account