ذات يوم حملت صورته عملة فضية نادرة.. الشاعر اليمني الكبير عبدالله البَرَدُّوْنِي الرؤية الثاقبة والأديب المدهش
الأربعاء 30 سبتمبر ,2020 الساعة: 06:00 مساءً
كتب : عماد جسار

رغم فقدانه لبصره وهو في سن الخامسة من عمره، إلا أنه عوض البصيرة ليصبح الرمز الذي خلدته الحروف، وأضحى رمزاً من رموز الأدب والشعر في العالم العربي، ليتحول ذلك العجز إلى إبداع لا يتكرر -بحسب شعراء وباحثين-، فعندما نقرأ قصائده، نجد فيها تضاريس اليمن وجغرافيتها وتأريخها وحضارتها، نجد الإنسان العربي. 


إنه الشاعر والأديب عبدالله البَرَدُّوْنِي 1929م-1999م والمنحدر من قرية البردُّون (بتشديد الدال) بمحافظة ذمار (100كم) جنوب العاصمة صنعاء.

لقد كان الراحل الكبير -ومازال- مثالاً للبلاغة والفصاحة والحكمة والنضال والحصافة والبساطة والشموخ والإلهام وقوة الحدس ووضوح الرؤية، حيث يقول عنه الكاتب العربي محمد علي فرحات: (كان البردّوني يَعتبر الثقافة شأنًا فاعلًا في التطور والتحرر، فالتَزم قضايا الوطن والإنسان، من دون أن يأسر نفسه في إطار حزبٍ أو فئة.)

مناقب كثيرة حفلت بها هذه القامة الأدبية اليمنية التي طافت الجزيرة العربية وقدّمت عصارة إبداعها للعرب على شكل أبيات من الشعر والأدب.

الشاعر والأديب د. عبد العزيز المقالح والذي تربطه علاقة صداقة وأخوة بالراحل البَرَدُّوْنِي عمرها نصف قرن يقول: إن الجليل والجميل في سيرة هذا الشاعر الرائي تكمن في استطاعته التغلب على المعوقات التي كانت تقف في طريقه، وكان بعضها كفيلاً بأن يحول بينه وبين ما تحقق له من نجاح وشهرة في دنيا الإبداع. ويعود الفضل في هذا إلى إرادته أولاً، وثانياً إلى طموحه اللامحدود، فلم يعرف التردد أو الضعف طريقهما إلى نفسه الكبيرة وإرادته القوية.

ويضيف الدكتور: كان البَرَدُّوْنِي في بداية الأمر، وبعد تجارب مريرة وقصيرة، يخاف السياسة ويهرب إلى الطبيعة وإلى كتابة القصائد الوجدانية، كما كان في كل الحالات يحب الحياة ويقبل عليها بنهم شديد دون تهوّر أو ابتذال وفي حدود ما يسمح به الواقع البخيل والمقتر، وكان نهمه إلى القراءة أو بالأحرى إلى الإصغاء إلى من يقرأ له أكثر من أي نهم آخر، وقد قرأت له بعض الكتب التي كانت متوفرة في مكتبتي.

المقالح يتحدث: كان البَرَدُّوْنِي يقول: إن للأبجدية في ذهنه صورة أوضح وأسهل، وأكد أنه يرى بوجدانه ما لا تستطيعه الحواس الخمس، وقال إنه يكتب القصيدة ذات الخمسين والستين بيتاً في صفحة ذاكرته بيتاً بيتاً، ولا يمليها على الكاتب إلاَّ بعد أن تكون قد صارت مرّتبة منتظمة السياق، كان يرى بعنينين نافذتين إلى أعماق الأشياء. عند مشاركته في مهرجان المربد في العراق، ألقى قصيدة "أبو تمام وعروبة اليوم"، فكانت قصيدة المهرجان، وبها سجل المشهد الشعري في اليمن أول حضورٍ لافت ومهم بعد سنوات من التجاهل والإهمال.

رئيس مركز نشوان الحميري للدراسات الشاعر والباحث عادل الأحمدي يقول: إن الشاعر عبدالله البَرَدُّوْنِي هو أول شاعر بسط أمام عينيه الجغرافيا اليمنية وتضاريس الوجدان اليمني، وهو أول شاعر رفع همته تجاه أن اليمني له قدرة عبقرية على التفوق على أقرانه في جميع أنحاء الوطن والعالم، ومن المؤشرات على ذلك بحسب الأحمدي أن البردوني كان بذلك التفوق وتلك العظمة وهو كفيف، كذلك الروح الثورية، والروح العبقرية، وروحه السبتمبرية التي كانت ملهمة لكل اليمنين للقضاء على الجهل والتخلف.

ويصف الأحمدي الأثرَ الذي تركه البردوني رحمه الله بالهائل والكبير، ويشير إلى أن البَرَدُّوْنِي مثّل مع الشاعر د. عبد العزيز المقالح ظاهرتين صعبتي التكرر، ذلك أنهما محافظان على نفس الدفق من قوة الأداء وانتظامه.

يتذكر الأحمدي عام 1995م بالقول: حين ذهبت إلى بيت الشاعر البردوني- والذي كان عبارة عن ندوة ثقافية مفتوحة- لأدعوه كي يلقي محاضرة في معهد المعلمين العام الذي كنت أحد طلابه في الثالث الثانوي، تفاجأ زملائي الطلاب والأساتذة والإدارة بوصولي بصحبة البردوني، موضحاً أن هذا الأمر لا تجده بسهولة- ربما- عند مثقفين أقل قدراً بكثير، فقد كان عبدالله البردوني لوحة من الإدهاش ستظل تلهم اليمنيين شعراء ومفكرين إلى أبد الآبدين.

وعن سمات الشاعر الراحل عبدالله البردوني، يسرد الأحمدي: من أهم سماته دخوله المنحى الإنساني من أبواب متعددة، وظل يقاسي الحكم الامامي البغيض وعايشه، ثم كان في إحدى مراحله كاتباً لتظلمات النساء المطلقات والمظلومات والمحرومات من مواريثهن، هذا جعله أكثر حساسية تجاه أوجاع المجتمع والمرأة فلهذا نشاهده مثلاً أنه تقمص شخصية امرأة الفقيد في قصيدته العظيمة تلك بطريقة أذهلت الكثير من النقاد وكثير من النساء أصلا في هذا الجانب ناهيك عن الرجال، فلهذا كان انساني النزعة والوطنية والإنسانية والثورية وكذلك هو رجل لا يهمه المال ولا الشهرة حيث كان يبيع دواوينه بتكلفتها الطباعية الورقية لا يهدف إلى أن يكون لديه ثروة أو ما إلى ذلك.

وما ميز البردوني كثيراً وجعله محبوباً من الناحية الشعبية تعبيره عن الجياع والمقهورين وكان يسخر من الظالمين والمحتالين والمخادعين والأدعياء ولهذا مثل ظاهرة غير عادية، بالإضافة إلى ذلك البردوني كان قارئاً غزيراً، كان لدية أربعة قُراء ، يقرأ التاريخ والفلسفة ولهذا تجد شعره مزدحما بالإيحاءات الرمزية التي تؤدي قصة ما إلى رمز ما سواء في الحضارة العربية أو الحضارة اليونانية أو الرومانية شعراً أو نثراً أو ديناً ما جعله موسوعة عالية وهو الذي كان يبصر ما لا يراه المبصرون وهو كفيف رحمه الله وبالتالي جاءت قصائده واشعاره مليئة بالتشبيهات المدهشة رغم أن فترة إبصاره لا تتعدى سنوات عمره الأولى.

ويختم الباحث الأحمدي الحديث: في العام 1981م السنة الدولية للمعاقين، حينها أصدرت كل من منظمة اليونسكو، والنظامان في الشمال والجنوب اليمنيان عملة رمزية ونادرة تحمل صورة عبدالله البردوني كرمز لقهر الإعاقة، تقديرا كبيرا يكنه اليمنيون له في أقاصي اليمن وأطرافه فهو أمر ليس بالبسيط أن يحظى شاعر بهذه المكانة داخل بلده وخارجه، ليكتب باحثون وأكاديميون وشعراء دراسات عن شعره وفكره من أقاصي المشرق والمغرب العربي.

الشاعر يحيى الحمادي يقول: لم يكن البردّوني نبيًّا يوحى إليه, ولا ذا سمع فيسترق ما لا يُحاط به، ولكنه سَبَر الغَورَ, وفَحَصَ بعينِ قلبه قبل عين رأسه وعاطفته، ولم يَتَسَنَّ له ذلك إلا وقد عَرف المَجرى والمُؤدّى بعد قراءةٍ مُتفحصةٍ للتاريخ وعوامل تقلباته.

ويضيف الحمادي متحسراً لقد أوشك الوطن اليوم أن ينهار من طرفه إلى طرفه نتيجة ذلك التجاهل الأعمى الذي صَعَّر خدّه لهذا الشاعر وأمثاله ممن رفضوا السير في ذات الطريق الشائكة والمليئة بالثعابين والحُواة، وقد أوشكت الثورةُ أن تعود مُكبلة الخُطى والأحلام إلى براثن العبودية والإمامة المقيتة، والوحدةُ أن تَمِيلَ كسيرةً عَن أكثر من شَطرٍ ووَجه, وما يزال البردّوني ظاهرًا على مَن خالفه وحاربه، فكان بحَق صَيّادُ البروقِ، وجَوَّابُ العُصور.

إذَن فإنّ البردّوني كما يصوره الشاعر اللبناني عباس بيضون بحسب الشاعر الحمادي_ (لم يحمل وجهًا أعمى، ولكن حَمل وجهًا بلا عينين، وربما أنه لم يكن أعمى، لكنه بكل بساطةٍ بلا عينين، وإلا فَبمَ كانت كل تلك القصائد، وتلك المُطوّلات والتواريخ، وذلك الشغف الجامح!.)

من جهتها الشاعرة خالدة النسيري، تصف البردوني بالشعاع الذي أنار أرواحنا بالكثير من الإبداع الذي لا ينضب ولا ينتهي ولا يتغير، إنه قامة أدبية وفكرية وموهبة فذة مجدداً متمرداً عن المألوف، فهو لم يرحل إلا بعد أن وضع بصمته الخاصة التي جعلته خالداً في العقول والقلوب.

وتضيف النسيري، رغم فقدانه لبصره لم تكن الإعاقة حاجزاً له، بل سعى وأبحر في العلم والمعرفة وترك لنا أثراً عميقاً رغم تمسكه بالقصيدة الكلاسيكية العمودية إلا أن الصور والتعابير الشعرية كانت حديثة وابتكر الصور الشعرية وتميز شعره بالقصص الشعرية والدرامية وصار له مدرسة شعرية خاصة به حيث تأثر به الكثير من الشعراء وأصبحوا ينتمون لمدرسة البردوني.

خالدة تختم حديثها بالقول: البردُّوني هذا القامة الأدبية الشامخة الراسخة في أذهان كل يمني وعربي بسبب رؤيته الثاقبة وإبداعه القوي ومحاكاته للواقع اليمني والعربي جعلته ثابتاً وراسخاً في عقول الناس وقلوبهم، فقصائده تحمل معاني جعلتها صالحة لكل مكان وزمان وفيها الكثير من التنبؤ بالمستقبل مثل قصيدة مصطفى التي يقول في مطلعها:

فليقصفوا لست مقصف.. وليعنفوا أنت أعنف

وليحشدوا أنت تدري.. إن المخيفين أخوف

فالبردوني استطاع بثقافته وفكره وشعره أن يزرع نفسه في المشهد اليمني والعربي وأن يكون في الصفوف الأولى، وترجع النسيري ذلك لتبني البردوني القضايا الشعبية وكان همه الأساسي في كتاباته الإنسان متلمساً همومه ومعاناته وأن من حقه أنا يحيى حياة كريمة باحثاً عن حريته نابذاً للاستبداد وأيضا تميزه بروح الفكاهة فمثّل الشخصية المتزنة والعادلة.

إذاً، ربما رحل شاعر اليمن الكبير وحادي الحرية والتحرر الأستاذ عبدالله البردُّوني قبل واحد وعشرين عاما، جسدٌ أضنته الأيام وكوته النوائب لكن روح نضاله وعنفوان مقاله لا يزالان يصنعان العجائب ويبدعان الإعجاب، ولا تزال سيوف الحروف البردونية حتى اليوم جيشاً نوعياً يكافح وينافح عن العزة والكرامة بكل حزم وعزم ومضاء.


Create Account



Log In Your Account