مهرجون بإسم العلمانية
الأربعاء 29 يوليو ,2020 الساعة: 03:01 مساءً

كانت القوى التقليدية في الستينات تواجه أحزاب اليسار ومشروعها بواسطة رجال الدين المتطرفين ، وخطابهم التحريضي ، من قبيل : " هل تعلمون ما هي الإشتراكية ؟ الإشتراكية أن مرتك مش لك !  الإشتراكية هي الإباحية ! هل ترضاها لأختك ؟ هل ترضاها لأمك ؟! الإشتراكية هي الكفر بالله ورسوله ! الإشتراكية أن يأخذوا أموالكم ونساءكم !

هذه نتفه من السماجات التحريضية المقيتة التي استخدمت آنذاك.

اليوم ، يبدو الحال مختلفا ، ولكنه يصب في نفس آلة التشويه الشغالة لإجهاض أي فرصة تلوح لبناء الدولة الحديثة ، دولة القانون التي تستمد مشروعيتها من الإرادة الشعبية ، وتدير شؤون المجتمع دنيويا دونما إستثمار للدين في احتكار السلطة ، وإستخدامه في الهيمنة على المحتمع وحراسة أخلاقه وسلوكه. 

الأصوات التهريجية الضاجه اليوم بإسم العلمانية تقوم بنفس دور شيوخ التطرف الديني في السبعينات ، ومن موقع التهريج بإسم العلمانية والتطور والحداثة.

تقدم العلمانية اليوم على ألسنة المهرجين باعتبارها أيديولوجية معادية لمعتقدات الناس وثقافتهم الدينية. تقدم كأنها دين جديد متزمت ومتطرف في موقفه ضد الإسلام  ومعتنقيه.

هل بالضرورة ان تكون العلمانية معادية بتطرف للدين وبنفس عقلية المتدينين المتزمتين ، وكأنها دينا معكوسا بنفس التطرف والاقصاء الذي تمارسه التيارات الدينية المتطرفة  ؟! 

أم أن لها صيغة أخرى تنتقد الثقافة الإقصائية داخل التيارات الدينية والموروث الديني من خلفية فكرية وثقافية وتضعها في موضع المساءلة مستندة الى الحرية والتعدد والقبول بالاخر والقيم المكفولة للجميع ، دون إزدراء وتطرف إزاء معتقدات الاخرين وأديانهم  ؟!

وهل بالضرورة تقف العلمانية في الجانب المعادي للإنتماء العربي و للقضية الفلسطينية ، وهي قضية عادلة تستمد عدالتها من قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والانتماء لقيم العصر وليس لأنها قضية عربية ؟!

لماذا تقدم العلمانية من قبل نماذج تهريجية كحالة ارتكاسية وكأن مشكلتنا كعرب حالة وجودية فتحنا عيوننا عليها هكذا وستبقى كما هي ، وليست حالة قابلة للفهم ولها اسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومؤثرات دولية وعالمية ؟!

هذا ملمح أساسي لدى مثقفين مستلبين يحولون أهم منجزات البشرية في العلم والحقوق والحريات والدولة الحديثة في الغرب ، إلى حالة إستلاب هي الوجه الآخر لمتزمتين دينيين ينظرون لقيودهم كإرث حضاري وخصوصية ثقافية.

العلمانية تعني اساسا ان تتأسس الدولة وفق شرعية ومرجعية دنيوية شعبية ، وان لا يتحول الدين الى سلطة مؤسسية ، بل يمثل اختيار شخصي تضمن الدولة حرية اختيار المعتقد وممارسته للجميع من كل الاديان والمذاهب دون ان يفرض على احد اعتناق دين محدد وممارسات محددة ودون أن يفرض العكس، موقف تحقيري من المتدينين ومن الأديان. 

من حق أي انسان أن يؤمن بالأفكار التي يريد ويسلك كما يريد بشرط أن لا يفرض على الآخرين بالعنف افكاره أو طريقته بالحياة وسلوكه

 العلمانية لا تقتضي بالضرورة فصل الدين عن السياسة طالما الدولة لا تصدر عن سلطة دينية ، بل فصله عن السيادة كما يوضح ذلك ياسين الحاج صالم في هذه السطور :

" لا لزوم لتصور للعلمانية يفصل الدين عن السياسة. لكن فصل الدين عن السيادة لا بد منه من أجل الحد الأدنى من العدالة والمساواة في مجتمعاتنا. والمقصود بالسيادة الولاية العامة والاختصاص الحصري بالعنف. فلا ولاية عامة لأية سلطة دينية، ولا يجوز أن يمارس العنف باسم الدين. ولاية السلطة الدينية جزئية وطوعية وتقتصر على من يرتضونها من المؤمنين، وهي منفصلة عن العنف ولا إكراه فيها. لا ينبغي أن يحول حائل بين حزب أو أحزاب إسلامية وبين العمل السياسي إن كانت تقبل بميثاق وطني يفصل بين الدين والسيادة "

كلام كثير يمكن ان يقال عن العلمانية وليس من ضمنه ان تكون ارتكاسيا تشيطن انتماءك العربي ودين غالبية مواطنيك وارثهم الحضاري والانساني وتنظر للمحتل الاسرائيلي كنموذج معياري للقيم المتحضرة والعرب كتموذج معياري لكل ما هو سيء وجدير بالنفي.

لا أسوأ من أن تنادي بفكرة وقضية عادلة بعقلية دوغمائية صراخية لا تبعد كثيرا عن العقلية السائدة للتيارات الدينية وضجيجها وانغلاقها وتطرفها.

هذا الصراخ الانفعالي يصنع صورة مشوهة لفكرة علمانية ، تقول كل شواهد الواقع ونكباته أن اوانها قد آن وان الحاجة اليها ترتقي الى مستوى الضرورة غير القابلة للتأجيل.

ضاقت مجتمعاتنا بإستبدادات أستخدمت الدين ، وبجماعات دينية كشرت عن أنيابها في محاولتها كتابة فصل جديد من فصول الكهنوت الديني الغابر والإمساك برقاب الناس بإسم الله ، فإذا بالمهرجين بإسم العلمانية يملؤن الفضاء العام صخباً وضجيجاً وتهريجاً يدعو للقرف والإشمئزاز  ، ويسند الواقع الذي فقد مبررات وجوده ، من حيث يدعي أنه يُهرج لتغييره!

 

* نقلا عن صفحته على فيسبوك


Create Account



Log In Your Account