إن لم تكن الكتابة صاعقة في قلب هذا الموت!
الجمعة 05 يونيو ,2020 الساعة: 01:48 صباحاً

ما الذي يعنيه أمر أن تكتب دون أن ترقص على الماء ؟!
هكذا بإيقاع دوائر على البحيرة الساكنة ومع كل خطوة تترك غواية.

غومبروفتش، استعرض هذا السحر في واحدة من مقابلاته، ولقد كان حديثه عن روايته فيردوديركه مملا ولم يبدو كروائي وهو يسهب في الإشارة لروايته، ظل وجوده بيروقراطيا هكذا وكأنه يحاور محمود الحاج في الفضائية اليمنية، ولقد ذهب أغلب كلامه مع الثقل وفي غياهب الصفحات ولم يتبقى منه غير الجملة التي ألقاها كتعريف لأسلوبه في الكتابة: إنني متهكم ونافذ، متماجن وبهلوان لا يسعني غير أن أروق.

تلك رقصته المقتضبة على الماء، ولقد كتبت أنا منذ عشرين عاما، الكثير من المقالات والحذاقات ووقعت في فخ الدور السياسي والحكمة، ولم يتبقى مني غير ما كتبته عن محمد الملاليني وعن مجموعة مدرسة النهضة ولقد حظيت بتلك النغمة وأنا أدفع قارئا وقد فرغ للتو من عبارة أخيرة في مقالة عن بوابة الشيخ عبد الله، العبارة الخاتمة هكذا: وكأنني أمام قصر المعتمد بن عباد ،لحظة أن داس يوسف بن تاشفين على عمامة آخر ملوك الطوائف.

لم يقل القارئ : رائع ومدهش وماشابه، كتب فقط : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!

أن تتمكن من جعل أحدهم يكبر ويشهد فلقد حظيت بالجائزة الأعظم، ما يتخطى نوبل شخصيا.

تلك الكتابة التي تجعلني أنيقا ومتوحدا ولوجودي نغمة ولإيماءاتي وجهة ومع كل كلمة تنبت محاولة لدنة لكون استعاد بعضا من أنوثته بفعل ما يبدو مثل عزف فنان متجول، يمر بالقرى والسهوب مخلفا أثر سحابة ويقظة إرادة الوجود وتبرعم زهراته على صدور الصبايا وفي قلوب الرجال المتوحدين.

كأنك استجبت لتعاليم الشاعر العظيم احمد ضيف الله العواضي وهو يلقيها هكذا مثل نبي شرده قومه: أكتب كأنك من مداد البرق ترسم في الحصى صورا وتذهب.

أستعيد كل مساء رقصة من رقصات الماء في مقدمات الاستطلاعات وصفحات الروايات الخمس وفي استثناءات الوجود هنا وأفكر متسائلا : هل أدركني ثقل السياسة وأوجاع البلاد ؟
وكأنه ما من عزاء وما من جمهور لرقصة كتلك بينما هي خفة الكائن " المحتملة " ونغمته دون اشتراط جمهور وتوقع التصفيق، شأن مقاربتي التي كتبتها يوما عن الفارق بين مارسيل بروست والكثير من الروائيين الذين يشبهون حواة الهند ويستعرض أحدهم مالديه، وكأنه يقول لك: أنظر كم أنني بارع وساحر ومرتجل معجزات، بينما يشبه بروست ناسك التبت، تحدث المعجزة بين أصابعه دون أن يهتم لكون أحد قد شاهدها غير الريح وهسهسة الحشائش في المطر.

لا تكتب ما لم تضمر زلزلة الكائنات، مالم تنتزع سوط السماوات وتجلد ظهر القبح حتى يفرقع الشر ويخفت في حالة من الخزي، لا تكتب مالم تتوحد بقلب فتى في قرية يمنية يبحث في المساء عن عقوبة لذنب لم يقترفه، وتفجر في صدره استياء وانحيازا للذات ورغبة نهمة في التهام مباهج الليل بضراوة كائن بدائي أفلت للتو من تميمة مشعوذ جبار.

لا تكتب مالم تحدث نغمة لامرأة تبحث لحزنها عن كلمات ولمسائها عن لحن محرض ودافع ومغوي، لا تكتب مالم تستحوذ على القدرة الكلية لخلق مساءات بديلة وروائح وتواريخ، لا تكتب مالم تطمر بكلماتك الخنادق والحدود المرتجلة، لا تكتب مالم تكن في كل كلمة ياء وميما ونون، مالم تحتضنها وتنعش قلبها وتنتزعها من فك الموت بقبلة عاشق مجنون بينه وبين حبيبته سر الوجود الإنساني برمته.

وفقا لي أو لبوكوفوسكي، لا تكتب مالم تمنح بكلماتك حياة كاملة أو تحدث بها صاعقة في قلب هذا الموت الهائم في الطرقات. 

-------
نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك


Create Account



Log In Your Account