الأحد 19 أبريل ,2020 الساعة: 12:55 مساءً
لمستُ وعلى مدار أكثر من عقدين، تحوّلات الرواية العربية باتجاه استثمار التقنيات الحديثة التي أتاحها الزمن الحديث، وفي كل المجالات التي أصبحت متوفرة للكائن البشري حيثما كان. إنه الزمن الجديد الذي وفّر العديد من وسائل التواصل بين المجتمعات البشرية على هذا الكوكب، وبذا نجد هذه الوسائل الجديدة قد أعطت المزيد من الحرية للكاتب، والروائي تحديداً، أعطته مزيداً من الحرية في الحركة، والتنقّل عبر الأماكن والمساحات والفضاءات، تلك التي لم يستطع الوصول إليها يوماً، لولا هذه التقنيات المستحدثة، والمتاحة كأدوات آلية مكمّلة لكل عمل إبداعي وفني ووظيفي.
من هنا وجدنا الروائي اليمني حبيب عبد الرّب سروري، قد لجأ في عمله الجديد “وحي” إلى التماهي مع كل هذه الوسائل السريعة والبرقية، تلك التي أتاحت له التواصل مع من كان، حتى لو كانت تبعده عنه آلاف الكيلومترات، وآلاف المساحات والتخوم النائية والبعيدة.
ولقد سبق للروائي اليمني سروري في رواية سابقة له هي “حفيد سندباد” أن استخدم النهج ذاته في الاعتماد على عالم التقنيات الحديثة لكتابة روايته تلك، حيث وفّرت له هذه الآليات فرصة ثانية في عمله الجديد، بغية التواصل مع البطلة المفترضة “وحي” في الرواية التي بين أيدينا الآن.
يغلب على روايات حبيب عبد الرّب سروري، عامة، طابع السفر والتجوال في المدن والمحطات والعواصم، والجزر، والقرى، والبلدات، والأرخبيلات البعيدة، ذات الطابع المميز، التي تمنح الوافد إليها شيئاً ما، سوف يبقى حياً في ذاكرته ولن يموت، كما هو الحال في رواية “وحي” هذه وأسفار الراوي العليم غسان الذي يتحدّث بضمير المتكلم، عن عوالمه، واكتشافاته الروحية، والعيانية، والميدانية، صوب أيّ مكان يذهب إليه، فهو سيشكل مادة وموضوعاً وحلماً له، ومأدبة دسمة لمخيلته النهمة، هذه المخيلة التي لا تني تستطلع وتسافر وتتوغل في الآفاق والفضاءات القصيّة.
تبدأ الحكاية من رسالة تصل إلى غسان، وهو يتأهّب للسفر باتجاه جزيرة سورينتو الإيطالية، الواقعة في مدينة نابولي جنوباً، وبعض الجزر الأخرى، ومن ضمنها الجزيرة التي كانت مختبراً لاكتشافات عالم الأحياء البريطاني الذائع الصيت داروين، لنظريته الشهيرة “النشوء والارتقاء” التي حوّلت البشرية نحو الإيمان بالعلم، وليس باللاهوت، وحدّدتْ أصل البشرية، جندرها وتحوّلاتها البايولوجية، عبر التاريخ الحي والقديم.
إنَ هذه الجزيرة الفاتنة والشفافة، ستكون المحطة التي يأتي إليها غسان وحبيبته الواقعية شُهد، هذه الفتاة التي تعرّف عليها غسان في عام 1988 في نابولي، وهي فتاة عربية ـ فرنسية، تعيش في باريس، والراوي يعيش في ميناء لوهافر الفرنسي، فمأواه وعمله، في هذا الموقع البحري.
تصل الرسالة الإلكترونية لتخلخل في الحال أوضاع الراوي الذاهب في رحلة استجمام، وهو هنا شخصية جادّة، مثقفة، وتحب الحياة والكتابة، أصولها يمنية، من الجنوب، لها أفكارها الخاصة، وتاريخها الطويل مع الحياة اليمنية، بكل فصولها التاريخية الجديدة، وبالأخص الفترة التي تمتد منذ نشوء اليمن الماركسي في الجنوب، وحتى يومنا هذا.
تحوّلات كثيرة مر بها اليمن، جلّها سيسردها الراوي غسان، عبر أجوبة لأسئلة تأتيه من “وحي”، وهو اسم صاحب/ صاحبة الرسائل المرسلة تحت مسمى ذكري، بينما هو في الأصل لأنثى تتخفى تحت هذا الاسم، خوفاً من عائلتها المتسلطة، تلك التي تسكن في قصر منيف، في إحدى الدول المحيطة باليمن. ومن خلال الرسالة يبدو أن “وحي” هذا يتبع لعائلة كبيرة، ووالده له سلطة وثروة ونفوذ، وهو سجين هذ القصر الكبير الشبيه بالقلعة.
احتوت رسالة “وحي” على إشارة على أنه هو من أسّس لغسان على موقع ويكيبيديا البيوغرافيا الخاصة به، وقد ترجمها إلى ثلاث لغات عالمية، توضح كل ما كتبه من روايات، وأعمال، مع نبذة عن حياته، وهنا سيكون المدخل من “وحي” إلى عالم غسّان، ليسرد الراوي عبر رسائل لـ “وحي” كل تاريخه اليمني، منذ صغره في مدينة “الحواشب” جنوب اليمن حيث قرية “طور الرعد”، وحادثة الشيخ الذي يجيد حديث الملائكة في جامع “العيدروس” حيث جرت الحادثة التي غيرت مجرى حياة الراوي، الكاتب والروائي، هذا الذي لم يتطرّق يوماً إلى ذكر تلك الحادثة، في أعماله الروائية وهي حادثة قديمة، مرّت خلال طفولته، ووفق هذه الرؤية، سيرضخ الراوي غسان، لطلب “وحي” في تلبية ما يريد.
ستصل شُهد إلى سورينتو الإيطالية، حيث الشقة التي استأجرها غسان في الجزيرة المطلة على مناظر ساحرة، وهنا سيُحسن سروري المزج بين التواريخ، عبر الإبدال الزمني، في خلق المسافة الدلالية بين التواريخ الحيّة، حيث هو في الجزيرة، يرى ويشاهد الجمال الأخاذ، والمدهش للطبيعة، كيف تعمل في هذا الأرخبيل الذهبي، ينجح في المواءمة بين الأزمنة اليمنية، ومن ثم نقلها للقارئ عبر “وحي” التي/ الذي هو هنا واسطة دلالية انزياحية، في نص الروائي الشيق هذا، والمتدفق في لغة رقراقة، شفيفة وذات جِرْس لغوي، وشاعري مرهف. فعبر “وحي” سنرى التاريخ الدامي، والمتشظي لليمن، يمن القتل والمؤامرات والتسلط الأعمى والقيادات الخائبة، والسجينة للأفكار النائية والبعيدة عن الواقع اليمني، وكذلك سيُظهر الروائي التمكن الفني، من اتساق العلاقات الثنائية، تلك التي تربطه بكل من الصديقة، والحبيبة الواقعية، والملموسة شُهد، والصديقة الجديدة التي تحاول التسيّد على مشهد الراوي، فهو يتنقل باتقان بين الصديقة الافتراضية “وحي” والصديقة الحسية والملموسة شُهد، هذا من دون أن ينسى المواءمة بين المدينة اليمنية، والأرخبيل، وبينه وبين الشخصية الثانية، عبد الباري، صديق فتوّته، وبينه وبين المُنظّر والقائد عبد القهار الذي سيصبح قائداً له الكلمة الفصل واليد الطولى والذي سينعته الراوي بـ “قهاروف” جرياً على التسميات الروسية، شولوخوف، خروتشوف، سيمينوف، ليرمنتوف، سوسلوف الخ… وهو الشخصية الحزبية الدوغمائية، في كل حزب شمولي، ينشد التغيير وهو ثابت في مكانه، يتحوّل عبر المقولات، والآراء إلى ببغاء، يردّد ما يقوله الغير، بدون تحويله وتغييره إلى واقع محلوم، كما كان يرد في الفكر الماركسي، ليتحوّل في يد المناضلين العرب، إلى إقطاعيات حزبية، واحتكارات للعقل، والآراء، واحتلال مزمن للثروات الفكرية الشخصية.
يمضي الصديقان أسبوعاً في جزيرة إسكيا، وهي الجزيرة التي عشقها نيتشه، وأقام فيها، بعد استقالته من وظيفته، وهو في مطلع العشرينيات، تليها رحلة طويلة إلى خليج نابولي حيث الجزر الذهبية تنتظرهما هناك.
يقتنص الروائي سروري لحظات من وقت أبطاله، وهو أمام شُهد في لحظة تعارفهما، ليسرد شيئاً من سيرته الذاتية، حياته الأولى، في القرية، دراسته، ثم ميله إلى دراسة الفلسفة، ولكن حلمه هذا لم يتحقق، فلقد درس طب الأسنان في أذربيجان، ضمن منحة دراسية، هي التي كانت متوفرة ، بينما درستْ شُهد الفلسفة، في أهم مكان لتدريس الفلسفة في العالم، ألا وهو باريس، بينما غسان يخصص “ساعتين للعمل، ثم الحياة الحرة الحقيقية الكثيفة، ما تبقى من اليوم، يضحى منهجي المقدس في الحياة، ويعلم الله كم أحبّ الحياة مثل شُهد، لا أمتلك منذ عصري الشُهدي، غير الرغبة في الحياة والزيارات والاكتشافات والتفاعلات مع الناس والعالم والمشي الطويل والكتابة، وقراءة الأدب والفلسفة التي فاتني موعد دراستها في الجامعة”.
يمخر العاشقان غسان وشُهد شواطئ العالم وجزره، رحلات صيفية وأخرى خريفية، إلى كولومبيا التي سُرقتْ فيها نقودهما، ومن ثم جزيرة غلاباغوس حيث داروين ومتحفه وفراشاته وعصافيره الرقيقة التي أجرى عليها تجارب نظريته العظيمة الدامغة، لدور الطبيعة في تخليق الكائنات، ومن ضمنها الكائن البشري، ودحض كل المسلمات الغيبية التي كانت تقدّس غيبيات الكهنوت، ضد علم، وأفكار، ونظريات الناسوت. وخلال هذه الرحلات في جزر نابولي، وخليجها، يقتنص الراوي الثواني للكتابة إلى “وحي” التي تنتظر منه إيميلاته التي انفتحت على تاريخ اليمن وجراحه الكثيرة، وهي سلسلة من الآلام التي لا نهاية لها، وهي “تطمّها حرب داخلية وأخرى خارجية، في آن واحد، لا صوتَ يعلو فوق صوت الميليشيات والهويات القاتلة، معتقلات غير قانونية، وتعذيب واغتيالات، وفيض هائل في أعداد القنّاصة المُختفين فوق العمارات، لا ينافسه إلا القنص الهائل، في عدد ثلاجات الموتى، وكل أنواع الأدوية …
كل الميليشيات والقوى اليمنية، كل الأحزاب والمجالس الانتقالية والسلطة الشرعية، كلها دون استثناء عبيد ومرتزقة، تدور في فلك سادتها من القوى الإقليمية المتناحرة”.
وهكذا بعين الراصد الفنان، والمُحايد، يقدم الروائي اليمني حبيب عبد الرّب سروري تجربة روائية نادرة، أضاءت جوانب معتمة ورهيبة من حياة اليمن الواحد فيما قبل، ثم اليمنين، أو اليمن المتشظي والمنقسم بعد التجربة الاشتراكية أيام عبد الفتاح اسماعيل ورفاقه، ثم بدء المؤامرة لتصفية التجربة الماركسية، وبدء حمامات الدم، والتنكيل برفاق الدرب، وتغييب الأخوة في مهاوي الموت، والتهلكة، وتحطيم كل ما تم بنيانه، خلال تلك التجربة التي شابها الكثير من النكوص، في إكمال تلك المسيرة الحية، المختلفة والجديدة على الواقع العربي.
حبيب عبد الرّب سروري: “وحي”
دار الساقي، بيروت 2018
255 صفحة.
نقلا عن القدس العربي