كيف أعادت موجات الصراع في اليمن توصيف الألقاب العائلية وتوظيفها؟!
الأحد 05 أبريل ,2020 الساعة: 04:26 مساءً

المجتمع اليمني بتنوعه، وعلى امتداد جغرافيته الطبيعية، لم يزل محكوماً بعلاقات ما قبل الدولة والمواطنة، وأعني تلك العلاقات التقليدية المتخلفة “العشائرية والقبلية والبدوية”، التي تعيد تمثيل أدواتها على أساس مناطقي وطبقي واضح في موجات الصراع المتعاقبة في البلد غير المستقر، وأن التشكلات المدينية القليلة، التي ظهرت هنا وهناك في التاريخ القريب، لم تصمد طويلاً أمام قوة الإرث وقساوته.

لهذا لا غرابة أن يتمترس بعض السكان خلف هوياتهم التجزئية المتخلفة، بما فيها أسماء وألقاب الأسر والعائلات، التي توفر للأشخاص أنواعاً متعددة من الحماية الاجتماعية والسياسية، وبمقابل ذلك أيضاً يعمد آخرون إلى إخفاء ألقابهم وانتماءاتهم المناطقية والعشائرية، حتى لا تنقلب وبالاً عليهم، في ظل أوضاع محكومة بالضغائن والدم وتسترشد بالأسماء والألقاب لتحقيق مآربها. أما النوع الثالث فيعمل على إضفاء انتسابات جديدة لأسمائه العائلية لاكتساب مكانة ما، أو تسهيلاً لتحقيق منافع، ما كان ليحققها لولا هذا الانتحال.

بعد ثورة سبتمبر1962 مثلاً عمد الكثير من أبناء الأسر الهاشمية إلى إخفاء ألقابهم العائلية خوفاً من التنكيل والاضطهاد، فكان الشخص المنتسب لبيت حميد الدين من بعيد يكتفي بـ “حميد” بدلاً عن “حميد الدين”، فيصير حميد اسماً لا لقباً وانتساباً عائلياً، وكذلك “شرف” بدلاً عن “شرف الدين” وهكذا, لكن مع الظاهرة الحوثية بدأ الناس يتحسسون انتماءاتهم السلالية وألقابهم العائلية ويكابدون لإبرازها، لأنها صارت تحقق لهم مكانة اجتماعية وسياسية في ظل سلطة تكرِّس هذه الظاهرة وتمدها بالحياة.

أعرف كثيرين، من سنوات طويلة، بأسمائهم وألقابهم القروية البسيطة، وصاروا الآن في هوياتهم ينتسبون إلى بيوتات هاشمية كبيرة كالمهدي والمتوكل والشامي، ليحققوا من ورائها مكاسب أقلها الذوبان في جسم السلطة الطارئة والانتفاع منها.

 حتى سنوات قليلة كان الانتماء للقبيلة القوية الحاكمة “حاشد” والتي أخرجت على مدى عقود رموز “مشايخ الجمهورية”، ميزة إضافية تمهد لأصحابها كل المسالك الوعرة، وتفتح لهم كل المغالق في الوظائف العليا والتجارة والمقاولات وتملك أراضي الدولة والمواطنين في السهول والأودية الخصبة “تهامة وإب وأبين ولحج”، واقتسام مناطق الثروة في حضرموت وشبوة.

بعد أحداث يناير86 في جنوب اليمن اضطر الكثير من أبناء أبين وشبوة مثلاً إلى إخفاء هوياتهم تجنباً لعملية الإيذاء التي مارسها الطرف المنتصر على خصومه، لكنها صارت بعد جائحة الجنوب في 94 مصدراً للقوة والسطوة في المناطق التي أخضعها تحالف الحرب، وقبلها أخفى أبناء وأقرباء السلاطين والمشايخ والأسر الكبيرة ألقابهم ليتكيفوا مع الوضع الجديد الذي فرضه واقع الثورة، لكنهم مع الوحدة عادوا للمطالبة بسلطاتهم وثرواتهم التي أممتها الحكومة، اعتمادا على ألقابهم وانتماءاتهم، الآن وبعد أحداث أغسطس 2019 في عدن شكلوا مجلساً سياسياً بمباركة دول التحالف ورعايتها.

أكثرنا يتذكر أن واحداً من قرارات حكومة “جمهورية اليمن الديموقراطية”، في سبعينيات القرن المنقضي، كان إلغاء الألقاب التي تشير إلى أسماء المناطق، والاكتفاء بأسماء الأشخاص وتسلسلها العائلي، في خطوة عدوها آنذاك إلغاء للتمايز، لكن بعيد الوحدة عاد الكثير من أبناء عدن والمحافظات الجنوبية لإبراز ألقابهم العائلية والمناطقية، التي تحدر منها آباؤهم وأجدادهم الشماليين، لاعتقادهم أنها ستكسبهم صفة المواطنة النقية في الوضع الجديد!!

التمايزات الطبقية والاجتماعية التي تشير إليها وتعبِّر عنها الأسماء والألقاب لم تزل فاعلة، بل وتزداد ضراوة مع هوجة الصراع الدائر، واستجلاب النعرات التي كان من المفترض قد تخلص منها المجتمع بعد خمسة عقود من الثورة والتحولات التي اجتاحت العالم، لكنها صارت الآن واحدة من مشغلات التقاتل على السلطة في البلد المنكوب.

هناك ظاهرة مرتبطة بالوعي الثقافي الشائه، وهي ظاهرة التراتبية الاجتماعية واحتقار المهن، والتي ارتبطت كثيمات ثقافية اجتماعية بعهد الإمامة الطويل، ويعاد تكريسها وبقوة في هذا الوضع الكارثي، وهو تقسيم المجتمع إلى سادة وعبيد، يتعالى فيها السادة على مهن يقوم بها بسطاء الناس، فالحلاق والجزار والحجَّام والمقشِّم “زارع الخضروات” والمقهوي في عُرف هؤلاء ووعيهم خلقوا ليمارسوا هذه المهن، التي يتأفف منها وينبذها الأسياد، لهذا صار الكثير من هؤلاء المنتمين لهذه المهن يخفون ألقابهم، ويتركون مهنهم هروباً من هذا النبذ والتحقير الذي يطال أبناءهم في المدارس والحواري.

الانقسام الواضح في المجتمع بسبب الأزمات المستديمة التي قادت إلى الحرب أعاد إلى السطح المشكلة الطائفية في البلاد، والتي وإن لم تزل تتخفى في المعطى المناطقي (شمال وجنوب) أو (مطلع ومنزل)، فالإشارة إلى مطلع وأحيانا الشمال هي تصريح واضح لمعنى طائفي في الوعي المأزوم (شعبوياً كان أو نخبوياً). فأهل مطلع والشمال هم الزيود (الشيعة)، وأهل منزل والجنوب هم الشوافع (السنة).

الصوت العنصري الفج، والحاضر داخل مفاعيل الحرب، لم تعد حاضنته سلالية صرفة، بل صارت  مناطقية وقروية ناعقة تجرِّم الآخر، وتُلبِسه كل اعتوارات الصراع في الماضي والراهن، على نحو تعالي الصوت الأجوف في الجنوب ضد كل ما هو شمالي، وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يخفون هوياتهم وألقابهم، حتي يستطيعون العبور من نقاط يتحكم بها مسعورون مناطقيون ليصلوا إلى مناطق في الجنوب، هروباً من جنون المتحاربين أو البحث عن فرص جديدة للإقامة والعمل في مناطق شُهد لها تاريخياً بالتسامح وقبول الآخر، ويريد لها العنصريون الجدد أن تكتسي بمزاجهم الطارد والدموي أيضاً.


Create Account



Log In Your Account