أئمة.. ولكن لصوص؟!
الثلاثاء 03 مارس ,2020 الساعة: 10:26 مساءً

«التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المـُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردت التحكم في جاهل - عليك أن تُغلف كل باطل بغلاف ديني»، مُقولة خالدة قالها - قبل ثمانية قرون - الفيلسوف العربي الأكثر استنارة أبو الوليد محمد بن رشد، تنطبق أكثر ما تنطبق على كل دولة «ثيوقراطية» حكمت واستبدت باسم الدين، وأشركت السماء في صراعاتها، ولوثت الدين والسياسة معا.

     

دولة «الإمامة الزّيدِيّة» في اليمن واحدة من كل، إلا أنَّها الأسوأ والأطول عُمرًا؛ وجدت البيئة الخصبة التي تتفق وتطلعاتها، وبمعنى أصح فَصَّلَها مُؤسسها الأول «الهادي» يحيى بن الحسين لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا البلد المِضياف، وهي حقيقة أكدها أيضاً الباحث محمد علي الشهاري بقوله أنَّ تلك الدولة ليست دخيله على الواقع اليمني، وأنَّها إفرازٌ له لا أكثر.

    

وقبل التعمق أكثر في هذه الجزئية، وجب التذكير أنَّ خُضوع العبيد لا قوة السادة هو من يصنع الطغيان، على اعتبار أنَّ الدين المـُزيف، والخرافة أحد أبرز أسباب ذلك الخضوع، ولا يتحقق الانعتاق من نير تلك العبودية الطوعية إلا بالعلم والمعرفة، وتحكيم العقل، وإذا كان هوميروس في «الإلياذة» قد أدرك مُبكرًا بأن لا خير في تعدُّد الأسياد، وقال مقولته التوحيدية: «كفى سيد واحد، وملك واحد»، فإن العقلية الشرقية جعلت من الملوك آلهة، وحينما سُئل فرعون - في ذات الفترة - عن من ألهه؟ كان جوابه: «عبيدي!!».

    

العقلية الشرقية تنقاد للعبودية بسهولة ويسر، وتاريخ «الإمامة الزّيدِيّة» تجسيد لتلك الحقيقة لا أكثر، ولم تكن اليمن سوى مَحطة أخيرة للفاشلين من أدعيائها؛ لما وفرته من بيئة خصبة لذلك الانقياد.

     

وهذا «الهادي» يحيى بن الحسين حينما فشل بتأسيس دولته في «طبرستان» - توجه إلى اليمن، بطلب من بعض أبنائها، وكذلك فعل القاسم العياني حينما فشل في إقامة دولته في «بلاد خثعم»، وأبو الفتح الديلمي حينما فشل في تأسيس دولته في «بلاد الديلم»، وبين هذا وذاك ثمة أدعياء كثر توافدوا إلى هذا البلد المضياف، كالقاسم الزيدي، وأبو هاشم الحسني «جد الحَمْزِات»، والمـُعيد لدين الله الناعطي، والأخير لم أجد له اسمًا، ومن يدري، ربما يكون بعض هؤلاء أو جلهم قد ادعوا نسبهم «العلوي» طمعًا في الحكم والإمامة.

     

وكما ألحق بعض المـُـؤرخين والنسابة «الحمزات» وغيرهم بالفرس، هناك من شكك بنسب القاسم بن محمد مؤسس «الدولة القاسمية»، رغم أنَّ الأخير كما يقول غالبية مؤرخي الإمامة من نسل «الهادي» يحيى، إلا أنَّ من يدعي أنهم «بنو عمومته» وقفوا في الغالب ضده؛ والسبب عدم اعترافهم بقرابته، كما رجح بعض النسابة بأنَّ أصول ذات الإمام غير عربية، مُستدلين بملامحه البعيدة الشبه عن «بني عمومته»، وذكر أحدهم أنَّ جده قدم إلى «بني مديخة»، وتزوج من أسرة يمنية من «الشرف»، وأنَّه استغل جهلهم وتشيعهم، وأدعى نسبه ذاك.

     

وسواء كان هؤلاء الأدعياء «علويين» أم غير ذلك، فمن الذي أعطاهم الحق بأن يكونوا أوصياء على الإسلام والمسلمين، وأن يتسيدوا على عباد الله، ويخالفوا دينه الحنيف؟ ذلك الدين الذي نصره العبيد، وخذله السادة، وقام أول ما قام على المساواة والعدالة، وعلى إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

    

لمـَّا نزلت آية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» قام رسول الله «ص» يُذَكر، فقال: «يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.. إني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أنَّ لكم رحما سأبلها - أي سأصلها - ببلالها»، وقال: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم، وتأتوني أنتم بأحسابكم وأنسابكم»، وقال: «يا بنى هاشم لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا بنى هاشم إن أوليائى منكم المتقون».

     

والأكثر أهمية أنَّ النبي الأعظم وأجداده لم يكونوا طلاب سيادة أو ملك، وتحفظ لنا كتب التاريخ ذلك الحوار الذي دار بين هرقل وأبو سفيان، وذلك بعد أن استدعى الأخير من غزة إلى بيت المقدس، وقال له: «لعله يطلب - يقصد رسول الله - مُلكا أو شَرفا»، ثم عاد واستفسر: «هل كان لاحد من أهل بيته قبله؟» - يقصد: هل كان أجداده طُلاب سيادة أو ملك؟ - فأجاب «كبير قريش» بالنفي.

 

 انحرف «الهادي» يحيى بن الحسين - توفي سنة «298هـ» - كثيرًا عن المذهب «الزيدي»، وتبنى «النظرية الجارودية» في الإمامة، لا تقليدًا لأبي الجارود، ولكن توافقًا معه في الأصول العامة، أصَّـل - هو الآخر - لنظرية الاصطفاء الإلهي، وجعل الإمامة موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في «البطنيين»، وجعل لها «14» شرطًا مُلزمًا.

     

وهو كما حرَّم الاجتهاد في المسائل الأصولية، ومنها الإمامة؛ لأنَّها شرعية، ولا مجال فيها للدليل العقلي، أجازه في المسائل الأخرى، وعلى وجه الخصوص جزئية الخروج على الظلمة، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله لإقامة دولته الدينية، على اعتبار أنَّ حُكام «الدولة العباسية» ظلمة، وكل حاكم ليس من «البطنيين» ظالم، واجب الخروج عليه.

      

وكما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر «الهادي» يحيى الإمامة في ذرية محمد «ص»، رغم أنَّ النبي الأعظم لم يُعقب، والأدهى والأَمَرُ من ذلك أنَّه حكم على أبي بكر وعمر بن الخطاب بالردة، وقال أنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأن كفر جُموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علي بن أبي طالب عليهما.

     

لغَّم «الهادي» يحيى مذهبه العنصري بعدد من الآيات القرآنية التي تؤكد حقه في الحكم، فسرها حسب هواه، وجاء - أيضاً - بأحاديث تتصادم والنص القرآني، ومقاصد الشريعة، ومنها مقولة: «إنَّ الإمامة في قريش»، و«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان».

     

حاشا على رسول الإنسانية، وعدو التعصب أن يقول مثل هذا الكلام، وهو الذي انتقل إلى جوار مُرسله ولم يوص، تاركًا لأصحابه حرية اختيار من يحكمهم، على اعتبار أنَّ السياسة ومغباتها اجتهاد بشري، كيف لا؟ وهو من خاطبهم ذات يوم بـ «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأنهى دوره بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».

     

كذلك فعل ابن عمه علي بن أبي طالب الذي لم يوص حين حانت منيته لأحد من أولاده، ‏وخاطب أنصاره قائلًا: «لم يوص من هو خير مني»، وحين آل الأمر بالشورى لولده الحسن، أعلن الأخير بعد ستة أشهر اعتزاله، وتنازل لمعاوية بن أبي سفيان حقنًا لدماء المـُسلمين، ولو كانت الإمامة عقيدة وحق مُتوارث لقاتل في سبيلها - بايع وشقيقه الحسين الحاكم الجديد، ولم يخرج الأخير على «الأمويين» إلا بعد أن انحرفوا على مسار دولة الخلافة، وجعلوها وراثة لا شورى، وهو هنا مثله مثل عبدالله بن الزبير وغيره من أبناء الصحابة الثائرين.

 

العصبية إذا اقترنت - كما قال ابن خلدون - بالدين لا يقف أمامها شيء، وتبعاً لذلك أنعش الأئمة أسوأ ما في قبائل اليمن الشمالية، خلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفيد دين، والتسلط رجولة، أغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ورسَّخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِـهن الحرفية، والأشغال التجارية، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» وتهامة كالذئاب المسعورة، قتلوا، ونهبوا، ودمروا جهادًا في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.

     

تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمـُـجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ»، أسوأ حقيقة وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة، أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المستقبـل له ألف سبب يبرره.

 

 

وهكذا وباسم الدين المـُـزيف، والولاية، خدع الأئمة أنصارهم المـُغفلين، وما يزال - للأسف الشديد - اليمن واليمنيون يكتوون بنار مذهبهم العنصري، ولعنة ولايتهم، ولأن الفكر الكهنوتي لا يجابه إلا بالفكر العقلاني، وجب علينا جميعًا نقد كل ما هو سلبي في موروثنا المـُـثقل بالدم والصراعات، وفضح وتعرية أرباب التجارة بالأديان، أينما كانوا، وحيثما حلوا، واستشعار أنَّ الله الرحمان الرحيم لا يمكن أن يعطينا - كما قال «ابن رشد» - عقولًا ويعطينا شرائع مُخالفة لها.

     

باحثون كُثر تصدوا لذلك الفكر المـُـنحرف، وعروه بموضوعية، ويُعد الباحث محمد عبدالله زبارة - «علوي» النسب - أبرزهم، نسف خُرافة الاصطفاء الإلهي، واعتبرها امتدادًا لما قاله إبليس: «أنا خير ‏منه»، وأكد أنَّ نظرية اختيار الحاكم في الإسلام قد شُوِّهت منذ وقتٍ مُبكر، ففي الوقت الذي ‏أرادها الله سبحانه أن تكون محط اهتمام المسلمين بشكل عام، إذا بها توصد بقفل ‏«القرشية» الذي جاء بالدولتين «الأموية»، ثم «العباسية».

     

زبارة عبر عن خجله من ‏بني قومه الذين يدَّعون أنَّهم يمتلكون حق احتكار العلم والحكم، مُعتبرًا فكرهم بأنَّه نوع من الإفلاس، وتوظيف لطموح سلطوي، يُكذَبُ فيه على الله ورسوله، واصفاً «آل البيت» بالمصطلح السياسي، مؤكدًا: «جميعنا ينتسب إلى هذا الدين، وإلى بيت النبوة، وإلى بيت ‏الإسلام، وإلى بيت محمد، وإلى أتباع محمد، وإلى آل محمد، وإلى أهل محمد كرسول ونبي..».

     

وسبق لنشوان الحميري أن أكد تلك الحقيقة قبل ثمانية قرون، قائلًا:

آل النبي هم أتباع ملته

من الأعاجم والسودان والعرب

لو لم يكن من آله إلا قرابته

صلي المصلي على الطاغي أبي لهب

     

وفي المـُقابل كان الأحرار الأوائل حكماء في الرد على هؤلاء الأدعياء، لم يجابهوا التعصب بتعصب مُضاد؛ بل حاربوا الإمامة كنظام حكم كهنوتي، يرتكز على «السادة» و«العبيد»، ويقوم على التعصب السلالي، والمذهبي، والقبلي، وهي أمور لا تتفق - قطعاً - مع كرامة الإنسان كإنسان، ولا مع رخاء الشعوب واستقرارها، ولا مع صيرورة الحضارة وتقدمها، ومن هذا المدخل تسللوا، وأكدوا أنَّ الإنسانية لم تشهد في تاريخها الطويل نظامًا بشعًا مثل الإمامة، ولم ينكب بها شعب من الشعوب سوانا.

    

وهذا المناضل محسن العيني حمَّل قبل «62» عامًا الجميع مسؤولية ما وصلنا إليه، قائلًا: «السادة - يقصد العلويين - ليسوا كلهم مسئولين عن هذه الأوضاع، ولا عن هذه الامتيازات، أنتم يا قبائل اليمن ورجاله، أنتم الذين كنتم تبحثون عن السيد بحثًا، وتفتشون عنه في كل مكان، وتضعونه في الصدارة من مجالسكم، وتحرضونه على البطالة والتعطل، وتتلمسون عنده البركات، وتغرونه على الدجل والتضليل..».

     

وهذا القاضي عبدالرحمن الإرياني قال ناصحًا بني قومه:

خدعتكم لصوص عدنان باسم

الدين غشا وخدعة وكهانه

ليس في الدين سيدٌ ومسودٌ

فاقرؤوه وحققوا قرآنه

إن دين الإسلام دين التساوي

ليس فيه تعاظم واستهانه


Create Account



Log In Your Account