"المهرة".. أعباء التاريخ وجيوسياسيَّة التنافس الإقليمي
الثلاثاء 03 مارس ,2020 الساعة: 09:30 مساءً
علي الذهب

تحتل محافظة المهرة اليمنية موقعًا استراتيجيًّا مهمًّا جعلها ميدانًا لتنافس إقليمي لاسيما بين سلطنة عمان والسعودية والإمارات وإيران، وقد ظلت هذه المحافظة بمنأى عن الصراع الدائر في اليمن خلال السنوات الأولى للحرب التي أعلنها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات ضد الحوثيين، غير أنها لم تعد كذلك خاصة بعد زيادة السعودية وجودها العسكري هناك بحجة منع تهريب الأسلحة إلى الحوثيين؛ الأمر الذي أثار مخاوف سلطنة عمان، وترتب على ذلك أن أصبحت هذه المحافظة في قلب الصراع اليمني والتنافس الإقليمي.

 

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على محافظة المهرة اليمنية بغية معرفة أهميتها الجيوسياسية، وموقعها في الأزمة اليمنية، ودورها في التنافس الإقليمي، وآفاق تطور الأوضاع بها سياسيًّا وأمنيًّا.

 

معطيات أساسية

يُرجِّحُ كثيرٌ من المؤرخين أنَّ المَهْرة تُنسب إلى مَهْرة بين حيدان بن عمرو بن لحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير. وفي التوصيف الجغرافي القديم لمنطقة المَهْرة، يُشير المؤرخون إلى أنها تقع ضمن منطقة الشِّحْر الممتدة من سلطنة عمان شرقًا، إلى محافظة أبين جنوبي اليمن.

 

أما موقعها في التقسيم الإداري للجمهورية اليمنية، فتقع في الجزء الشرقي من البلاد، الذي يُغطي الحدود البرية والبحرية مع سلطنة عمان، وجزءًا يسيرًا من الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية؛ في الشمال الشرقي منها، على تخوم صحراء الربع الخالي، وفي جهتها الغربية تقع محافظة حضرموت، وإلى الجنوب يقع خليج القمر والبحر العربي، وتُقدَّر المسافة بينها وبين العاصمة صنعاء بنحو 1318 كلم. أما موقعها الفلكي فيقع بين دائرتي عرض ( 15ْ- 20ْ) شمالي خط الاستواء، وخطي طول ( (51ْ- 45ْ شرقي جرينتش.

 

وفقًا لمصادر حكومية، تُعدُّ المهرة ثاني محافظة يمنية بعد حضرموت من حيث المساحة؛ إذ تبلغ مساحتها نحو 93000 كلم2، تتقاسمها تسع مديريات، منها ست مديريات تقع على السهل الساحلي المشاطئ للبحر العربي، على امتداد قدره 500 كلم، وهذه المديريات، ابتداء من حدود عُمان، هي: حوف، والغيضة (مركز المحافظة)، وحصوين، وقُشُن، وسيحوت، والمَسِيلة.

 

وتقع الثلاث الأخرى إلى الشرق والشمال من المحافظة، وهي: شُحُن، وحات، ومَنعَر. وتشير مصادر حكومية أخرى إلى أنَّ مساحة محافظة المهرة تبلغ نحو 67297 كلم2، وأنه وفقًا للتعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت لعام 2004، بلغ عدد سكانها نحو 88594 نسمة، ومعدل النمو السنوي 4.51 %، ويتركز السكان في المديريات الساحلية.

 

ينقسم المجتمع المهري إلى قسمين، الأول: المهريون الرُّحل، الذين يجوبون المناطق الشمالية، باتجاه الربع الخالي، خلال أشهر الشتاء؛ بقصد الرعي، ثم العودة إلى قراهم في الصيف. الثاني: المهريون المقيمون على نحو دائم في المناطق الحضرية، في جنوب وشرق المحافظة. ولا تزال الهوية الداخلية للمجتمع المهري أكثر وضوحًا من أي هوية، وتتحكم في كثير من علاقاته؛ فاللغة المهرية هي اللغة المحكية، والمصاهرة والنسب محصوران في إطار المجتمع المهري، وفي دوائر داخلية أضيق. والحديث عن "لغة مهرية" يعني: أنها لغة ذات لهجات متعددة، وتختلف عن اللغة العربية؛ حيث تنحدر من اللغة اليمنية القديمة، لكنها غير مكتوبة، ويجري توارثها جيلًا عن جيل، وهي، كذلك، لغة سكان أرخبيل سقطرى.

 

يقوم النشاط الأول للسكان، على الرعي وتربية الحيوانات، والصيد البحري، ثم الزراعة، التي يشتغل فيها نحو 0.03% من إجمالي عدد سكان المحافظة، معتمدين على مياه الأمطار الموسمية، والآبار، والغيول، والحواجز والسدود، علاوة على التجارة، وتربية النحل، والنشاط السياحي الذي لا يزال محدودًا، مع ما يمكن أن يُسهم به التنوع الحيوي في المحافظة في هذا الجانب، من خلال ما توفره محمية حوف (غابة برية) التي أُعلن عنها محميةً عام 2005، وتقع على مساحة 30 ألف هكتار (300 كلم2)، وبطول 6 كلم، فضلًا عن مواقع أثرية تعود إلى حقبتي ما قبل الإسلام وبعده.

 

تُمثِّلُ منافذ المهرة، البحرية والبرية، مصدرًا إيراديًّا للحكومة؛ حيث تستغل بعض منافذها البحرية كمرافئ للصيد السمكي. وموانئ المهرة هي: نشطون، دمقوت، حوف، سيحوت، قشن، وحصوين. فيما يُعدُّ ميناء نشطون، الذي افتتح عام 1984، المنفذ البحري الرئيس للمحافظة، ويُسهِمُ في النشاط التجاري والسمكي داخل اليمن ومع سلطنة عُمان وغيرها من دول الخليج العربي على الرغم من تواضع إمكانيات تشغيله.

 

 أما المنافذ البرية فهناك منفذان، هما: صرفيت، وشُحُن؛ حيث يقع الأول على الطريق البري الساحلي بين اليمن وعمان، ويقع الثاني في مديرية شُحُن، وتجري عبره حركة المسافرين والبضائع بين البلدين، فضلًا عن حركة التجارة والمسافرين برًّا من الإمارات، ويرتبط المنفذ بمنفذ صرفيت، بواسطة طريق إسفلتي يمتد إلى الطريق الساحلي. ولا يوجد منفذ بري على الحدود بين اليمن والسعودية عبر المهرة؛ لأنه لم تكن هناك أهمية لذلك سابقًا.

 

تهميش طويل والتفاتة متأخرة

ظلت محافظة المهرة بعيدة عن أنظار الحكومات اليمنية المتعاقبة؛ نتيجة لبعدها عن مركز الحكم، لاسيما خلال حقبة ما قبل إعادة تحقيق الوحدة بين شطري البلاد عام 1990، ثم بدأ الاهتمام بها بعد المرحلة الأولى من ترسيم الحدود مع عمان عام 1992، وازداد ذلك أكثر عقب التوقيع على الحدود البحرية معها عام 2003.

 

وفي مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي انعقد بصنعاء، خلال عامي 2013- 2014، حظيت المهرة بنقاشات الفريق المعني بالقضايا ذات البعد الوطني، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، الذي أوصى بتركيز الاهتمام عليها في مجالات التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية، وبناء مؤسسات الدولة، والاستثمار، تحقيقًا لمبدأ الشراكة في السلطة والثروة، وبوصفها إحدى المناطق اليمنية التي تستلزم جبر الضرر.

 

وبناء على إعادة تقسيم اليمن إلى أقاليم، وفقًا للدولة الاتحادية الجديدة، أقرَّت لجنة تحديد الأقاليم، برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، في 11 فبراير/شباط 2014، خيار الأقاليم الستة، وكانت محافظة المهرة، ضمن "إقليم حضرموت"، الذي يضم حضرموت، وشبوة، وسقطرى (أرخبيل)، على أن تكون عاصمته مدينة المُكَلَّا.

 

وأثناء هذا الجدل، عبَّرت كيانات مهرية عن رفضها الانضمام إلى إقليم حضرموت، وطالبت باعتماد المهرة وأرخبيل سقطرى إقليمًا واحدًا، وفقًا لحدود عام 1967، وقد تبنى ذلك رئيس المجلس العام لمحافظتي المهرة وسقطرى، الشيخ عبدالله بن عيسى آل عفرار، فيما كان اتجاه كيانات أخرى متوافقًا مع هذه الدعوة، عدا ما يخص مسألة الحدود، وقد كان مبررها الحفاظ على هوية المهرة وسقطرى اللتين تختلفان عن بقية وحدات الإقليم.

 

الأعباء التاريخية المحركة للتنافس الإقليمي

لا تزال أعباء تاريخ الصراع على السلطة في عُمان حاضرة في ذاكرة النظام الحاكم، وربما الشعب العماني كله، وذلك إزاء الدور الذي لعبته المهرة أثناء ما عُرف بثورة ظفار في الفترة 1965- 1975؛ حيث كان النظام الحاكم في الشطر الجنوبي من اليمن يمد الثوار في منطقة ظفار العمانية بالأسلحة والمؤن، ويتيح لهم التدريب والتمركز والانطلاق من المهرة، بل شاركهم مقاتلون يمنيون في خوض المعارك.

 

وكان دافع ذلك مشكلة الحدود البرية، وجزر "كوريا موريا" التي كانت ضمن محمية عدن وسلَّمتها بريطانيا لسلطنة عمان، ثم تطورت الأحداث إلى قيام عمان، وبدعم بريطاني، بشن هجمات جوية على منطقة حوف الحدودية، ودخول إيران على خط المواجهة، بإرسال قوات برية وجوية؛ دعمًا للسلطان قابوس عام 1973، وانضمام الأردن كداعم آخر، وانتشار قوات تابعة لها بالقرب من المهرة، بعد دحر مقاتلي ما كان يسمى "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتل".

 

ويثير الوجود العسكري السعودي في المهرة، ذكريات مؤلمة تجرَّعت فيها عمان مرارة تدخل السعودية في شؤونها أثناء ثورة ظفار، حين ساندت، بالمال والسلاح، فصائل مسلحة في جبهة تحرير ظفار، مثل: تنظيم الجمعية الخيرية الظفارية، وجماعة ابن نوفل؛ نكاية بالسلطان سعيد بن تيمور، الذي تعقَّدت في عهده مشكلات الحدود بين البلدين، وإن كان موقف السعودية قد تحوَّل فيما بعد، أو سار في الاتجاهين، إثر زيارة السلطان قابوس للسعودية عام 1971، بعد عام من توليه السلطة؛ رغم أنَّ مشكلة الحدود ظلت باعثًا لقلق سلطنة عمان كلما تصاعد الحديث بشأن حلها بين عمان واليمن والسعودية.

 

كانت الإمارات، خلال عام 2016، حاولت التمدد في المهرة، عن طريق تقديم المساعدات الغذائية للسكان، ثم حاولت خلال العامين التاليين إنشاء ميليشيات مسلحة موالية لها، على غرار قوات النخبة والحزام الأمني في شبوة وعدن. وفيما يبدو أن هذا الأمر أثار هواجس أمنية لدى سلطنة عمان، على خلفية إحباطها نشاطًا استخباريًّا كشفت عنه وسائل إعلامها الرسمية مطلع عام 2011، ضمن خلية تجسس يقف وراءها جهاز أمن الدولة الإماراتي "مستهدفًا نظام الحكم في عُمان، وآلية العمل الحكومي والعسكري فيها".

 

ويضاعف هذه الهواجس الكشف عن نشاط تجسسي إماراتي آخر في عمان، خلال عام 2019، لا تزال تفاصيله محل تحفظ سلطاتها. وعلى الرغم من تصدُّر السعودية مشهد التوتر الحاصل في المهرة، إلَّا أن الإمارات حاضرة بطريقة غير مباشرة، في إطار استراتيجية "النهج غير المباشر"، التي أعلنت عنها عقب انسحاب معظم قواتها من اليمن، في يناير/ كانون الثاني 2020.

 

وقد دفع كل ما سبق عمان لأن تنظر إلى ما يجري بالقرب من حدودها مع اليمن بوصفه تهديدًا تقليديًّا لأمنها الوطني، وربما محاولة لابتزازها والضغط عليها في قضايا كثيرة، أقلها إعادة النظر في قضايا حدودية معقَّدة مع الإمارات، تتعلق بمعتزل (Exclave) ولاية مدحاء ومحافظة مسندم، اللتين تحيط بهما الإمارات جغرافيًّا، وتخضعان للسيادة العمانية، وحملها على وقف مطالباتها بالحصول على طريق ساحلي للوصول برًّا إلى مدحاء.

 

كذلك رأس مسندم بمضيق هرمز؛ فإنَّ عُزْلَته وبُعده عن البرِّ الرئيس لسلطنة عمان، وإحاطة أراضي الإمارات به، وأهميته الاستراتيجية في السيطرة على حركة الملاحة البحرية في المضيق؛ تُعدُّ مسألةً لا يمكن تجاهلها في ضوء ما يجري في المهرة، لاسيما مع ما تمرُّ به عمان من تحديات؛ بفعل انتقال الحكم إلى السلطان، هيثم بن طارق، بعد وفاة السلطان، قابوس بن سعيد، في 11 يناير/كانون الثاني 2020.

 

 وفي مقاربة جيوسياسية لأهمية رأس مسندم العماني، فإنه يُمثِّلُ نظيرًا استراتيجيًّا لولاية ألاسكا الأميركية، شمال غربي كندا، بالنسبة إلى عمان، فيما يمثل بالنسبة إلى الإمارات غصة جيوسياسية مزمنة. ولعل ما يؤكد ذلك، دفع بعض القبائل العمانية في المعتزل (Exclave) المشار إليه آنفًا إلى المطالبة بتكوين إماراة ثامنة ضمن اتحاد الإمارات، بعد انفصالها عن عمان، وإمارة رأس الخيمة الإماراتية.

 

موقع المهرة في الأزمة اليمنية

ظلَّت محافظة المهرة في منأى عن ساحة الحرب الدائرة في اليمن منذ عام 2015، ومع انتشار قوات سعودية فيها تحت قيادة التحالف العربي، أواخر عام 2017، بذريعة مكافحة تهريب الأسلحة إلى الحوثيين، اندلعت الاحتجاجات الشعبية بها، وتطور ذلك إلى مواجهات مسلحة بين القوات السعودية ومسلحين محليين، يثار الجدل بأنهم مدعومون من سلطنة عمان، ومن ذلك ما حدث في فبراير/شباط 2020.

 

إلَّا أن المحتجين يقولون إنهم يعبِّرون سلميًّا عن رفضهم القاطع لأي ممارسات خارجية تمس السيادة الوطنية، في إطار دعم السلطة الشرعية التي تواجه ضغوطًا سياسية، سعودية وإماراتية، لحملها على التنازل عن حقوق وطنية تهدد الأمن الوطني اليمني.

 

أبرزت الأحداث ملامح المتنافسين الإقليميين في المهرة، وأدوار اللاعبين الداخليين، ممثلين بالحكومة المعترف بها دوليًّا، والحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وهي أدوار تتقاسم المصالح مع اللاعبين الإقليميين. فمثلًا: برزت السعودية كفاعلٍ صاعد، من خلال انتشار قواتها في المنافذ البرية والبحرية والجوية، وقد بدأ ذلك تدريجيًّا في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بنشر قوات محدودة استولت بها على مطار الغيضة، وميناء نشطون، ومنفذي صرفيت وشحن، ثم استحداث 12 ثكنة عسكرية في الساحل، والتدخل في وظائف السلطة المحلية.

 

ومع تصاعد الاحتجاجات المناوئة لها، حاولت استمالة عدد من الزعامات القبلية النافذة، ومن ذلك الشيخ عبد الله عيسى آل عفرار، الذي كشفت وسائل إعلامية عن لقاء جمعه بنائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، بمدينة جدة، نهاية أغسطس/آب 2019، مع ما يمثله ذلك من إحداث توازن في النفوذ القبلي بين السعودية وبين سلطنة عمان.

 

في جانب المعارضة، كشف قائدها، العميد علي سالم الحريزي، عن أن السعودية تهدف إلى مد أنبوب لنقل النفط الخام من حقولها في المنطقة الشرقية، مرورًا بمنطقة خراير، فالمهرة، ووصولًا إلى بحر العرب، وشق طريق دولي بطول 300 كلم، يبدأ من حدودها حتى ساحل المهرة.

 

ووفقًا للاستحداثات العسكرية السعودية في المهرة، التي بلغت مطلع عام 2020، قرابة عشرين ثكنة، فإنَّ ذلك قد يشمل بناء قواعد عسكرية، تحقق للسعودية اقترابًا استراتيجيًّا من بحر العرب. وفي كل الأحوال، فإنَّ ذلك سيضيف قوة إلى قوتها في معادلة الصراع مع إيران، والتخلص من تحكماتها في مضيق هرمز، وإيجاد ميدان مواجهة بحري أوسع، خارج مياه الخليج العربي.

 

أما سلطنة عمان، التي يمثِّل موقع المهرة بالنسبة إليها مكملًا لموقعها الاستراتيجي على بحر العرب، ومضيق هرمز؛ فحاولت منذ تدخل التحالف في اليمن عام 2015، انتهاج "سياسة النأي بالنفس"، كدأبها في كثير من القضايا الدولية والإقليمية، ولما من شأنه عدم الاصطدام بإيران؛ أبرز حلفاء الحوثيين، ولأهمية موقعها في معادلات السلام الإقليمي والخليجي؛ ذلك أنَّ موقع عمان يفرض عليها انتهاج سياسة تعزز حالة الاستقرار اللازمة في بحر العرب، ومضيق هرمز، والخليج العربي، وما يتطلبه الأمن البحري من مُدعِّمات الاستقرار في البر، وانعكاس ذلك على مناشط الموانئ، لاسيما ميناء مسقط، الذي يُعدُّ أبرز الموانئ في المنطقة الواقعة بين كراتشي وعدن.

 

ليس ذلك فحسب، بل إنَّ المهرة تمثِّل بوابة عمان الجنوبية-الغربية القابلة للإثارة، وإنَّ أي اضطراب فيها يمثِّل تهديدًا لأمنها الوطني، فضلًا عما تعده استفزازًا لها ولعلاقتها التاريخية والاجتماعية بقبائل المهرة، التي عملت على تنميتها خلال حكم السطان الراحل، قابوس بن سعيد.

 

وبناء على ذلك، لم يعد خافيًا أنَّ لدى عمان نفوذًا واسعًا، وعلاقات متينة مع شيوخ القبائل المهرية؛ حيث منحتهم امتيازات تبلغ حدَّ الاتصال المباشر بالديوان السلطاني. وقد لوحظ أنه خلال تصاعد الأحداث في المهرة أواخر عام 2019، اتخذت عمان سلسلة تدابير عسكرية وأمنية على حدودها، منها: استحداث ثكنات عسكرية بالقرب من الحدود مع المهرة، وتشديد إجراءات الانتقال خلالها؛ وذلك ما عُدَّ استجابة للتوترات الناجمة عن تصاعد الوجود العسكري السعودي، وتجاوزًا لسياسة النأي بالنفس، والتحول عوضًا عن ذلك إلى استراتيجية ما "قبل الاقتراب المباشر"، وربما يعزز هذا التوجه الزيارة التي قام بها نائب وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، إلى مسقط، في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، لمناقشة الوضع المتوتر في المهرة.   

 

آفاق مستقبلية

قد تأخذ الأحداث في المهرة مسارًا هادئًا، بالنظر إلى قيام الرئيس عبد ربه منصور هادي، في 23 فبراير/شباط 2020، بإقالة محافظ المحافظة، الشيخ راجح سعيد با كريت، وتعيين محافظ جديد، سبق أن شغل هذا المنصب، وهو عضو مجلس النواب (البرلمان)، محمد علي ياسر، الذي يحظى بقبول شعبي، وقبول التحالف والحكومة الشرعية، وكذلك ما يمكن أن تلعبه زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، التي قام بها إلى مسقط، في 21 يناير/كانون الثاني 2020، بعد مروره بالرياض، ولعل صدور قرار الرئيس عبد ربه منصور هادي، بتغيير المحافظ بعد هذه الزيارة مباشرة، ولقاء نائب السفير الأميركي في اليمن، بالمحافظ المقال، في الرياض؛ يؤكد أنَّ ملف المهرة كان ضمن جدول أعمال بومبيو، لاسيما أنَّ البيان الأميركي-العماني في ختام الزيارة، أكد على مكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وفيما يبدو أنَّ قرار الرئيس هادي، مثَّل استجابة لأحد المطالب العمانية التي قد يُكشف عنها مستقبلًا.

 

إزاء ذلك، فمن المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة في الضغط على جميع الأطراف باتجاه التهدئة؛ لأن التجاذبات بين عمان والسعودية والإمارات حول المهرة من شأنه زعزعة الأمن الإقليمي عمومًا وأمن دول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص، والذي يعاني تصدعًا؛ منذ الأزمة التي نجم عنها حصار قطر، ولم يعد ذلك المجلس يحتمل المزيد من التصدعات.

 

لكن ذلك يتطلب تمكين الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس، عبد ربه منصور هادي، من ممارسة وظائفها في المهرة، ووقف أي تدخل مباشر أو غير مباشر، من قبل العمانيين والسعوديين، إلى جانب وقف الدعم الإماراتي للمجلس الانتقالي الجنوبي الذي يحاول الظهور فيها على نحو ما فعل في عدن وأبين.

 

وفي منحى مغاير، قد تكون التهدئة في المهرة مؤقتة، ويعود الوضع الأمني إلى ما كان عليه من توتر، بل قد يزداد سوءًا؛ لأنَّ الوجود العسكري السعودي بالمهرة يأتي بناء على استراتيجية سبقت الإشارة إليها، وليست مكافحة تهريب الأسلحة إلى الحوثيين فحسب. وفي المقابل، لا تزال سلطنة عمان تستضيف أعضاء بارزين في جماعة الحوثيين، ولا يُستَبعَد ارتباطهم بتأجيج الوضع في المهرة، ثم إنه ليس هناك نية لدى القيادة العمانية في دفع أولئك إلى مغادرة أراضيها، فضلًا عن أنها لم تَرُدَّ بعد على استفسارات فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة والموجهة إليها عام 2019، بشأن الأشخاص والجهات الضالعة في تهريب أسلحة عبر مطار مسقط.

 

الواقع أن تهريب الأسلحة سيستمر مهما كانت تدابير المواجهة؛ لأنَّ البحر العربي، يمثل منطقة عبور لتهريب الأسلحة من سواحل مكران الإيرانية، عبر شبكات تهريب إقليمية، وقد سبق أن أحبطت قوات الواجب الدولية العاملة في بحر العرب، العديد من محاولات التهريب، كان آخرها ما كشف عنه في 13 فبراير/شباط 2020، حول احتجاز مركب على متنه 150 صاروخًا، طراز "دهلافيا" الإيراني، المتخصص في مكافحة الدبابات، إلى جانب 358 مكونًا صاروخيًّا.

 

وعلى البر؛ في محافظة المهرة، قد يُدفع إلى الواجهة بتنظيم القاعدة أو داعش، كمبرر لاستمرار الأزمة، وقد سبق أن أعلن التحالف في يونيو/حزيران 2019، عن عملية أثارت الكثير من الجدل، حول إلقاء القبض على أمير تنظيم داعش، أبي عمرو المهاجر، بمدينة الغيضة، ولعل ما يشير إلى احتمال بقاء الوضع الأمني مختلًا، ما تناقلته وسائل إعلامية عديدة، في 25 فبراير/كانون الثاني 2020، حول مقتل خمسة جنود من القوات الحكومية ضمن موكب عسكري للتحالف، في كمين بالقرب من منفذ شحن، دون أن تعلن أية جهة مسؤوليتها عن ذلك.

 

خاتمة

أضحت محافظة المهرة اليمنية؛ بفعل موقعها الاستراتيجي بالنسبة لمختلف أطراف الصراع، وضعف الحكومة الشرعية في السيطرة عليها؛ مساحة تنافس جيوسياسي، بين هذه الأطراف، وتبرز في واجهة ذلك بوضوح، سلطنة عمان والسعودية، بوصفهما الدولتين المحاذيتين لها، وقد أخذ هذا التنافس في الاقتراب من ملامح أزمة بينهما؛ نتيجة لما يُوجَّه إلى عمان من اتهامات بشأن تسهيل عبور أسلحة إيرانية إلى الحوثيين عبر أراضيها، ولما تَعُده عمان تهديدًا تقليديًّا لها؛ بفعل الوجود العسكري السعودي بالقرب من حدودها بمحافظة المهرة اليمنية.

 

على الرغم من التدابير التي اتُّخذت لخفض حدة التجاذب، إلَّا أنَّ بواعث ذلك لا تزال قائمة؛ فعمليات تهريب الأسلحة لا يمكن قمعها على نحو كامل، وتطلعات السعودية لتحقيق أهداف جيوسياسية، لن تتراجع، وتوجس العمانيين إزاء أمنهم الوطني، لا يزال قائمًا؛ ولذلك فإنَّ ما يمكن أن يمثِّل مدخلًا إلى تهدئة أطول، هو تمكين الأجهزة الحكومية من ممارسة وظائفها، بعد دعمها بالوسائل اللازمة، وعدم تدخل أي طرف في ذلك، بما في ذلك القوات السعودية التي يستلزم مغادرتها؛ لأنَّ المنطقة ليست ساحة مواجهة مسلحة مع الحوثيين.


- نقلاً عن مركز الجزيرة للدراسات


Create Account



Log In Your Account