دوكم .. شهيد المنبر والقلم
الثلاثاء 03 أبريل ,2018 الساعة: 10:38 مساءً

بالنسبة لي، كان عمر دوكم صديقا وفيا، كنا معا نتقاسم حلو الحياة ونتشارك مرّها، وبين الحين والآخر كنت أذهب إلى منزله أو يأتي إلى منزلي، نتسامر على دندنة العود أو نغم الموسيقى، ونخوض أحاديث معرفية وفكرية، حول الدين والسياسة والوطن، كان قارئا نهما، لا حدود لاطلاعه ولا اشتراطات، ولديه القدرة على قول ما يؤمن به بأسلوب يجمع بين الشجاعة والحكمة.

ومنذ سنوات لم أعد أرتاد خطب الجمعة، إلا في مسجد العيسائي، المسجد الفسيح والشهير في وسط مدينة تعز، كنت؛ وكثير مثلي، لا نحضر إلى هذا المسجد إلا من أجل خطيبه الشاب عمر دوكم، كانت الشوارع المحيطة بالمسجد تزدحم بالمصلين، وكان بعضنا؛ ومنهم أنا، نعود أدراجنا إذا ما عرفنا أن خطيبا غيره اعتلى المنبر.

كان عمر دوكم، خطيبا مختلفا ولذا امتلك جمهورا مختلفا، يأتي لسماعه مواطنون من داخل المدينة وخارجها، من مختلف المشارب والانتماءات، وبشكل مغاير للخطباء، تميّز بهدوئه وسلاسته وقدرته على طرح الأفكار الحديثة بشجاعة ومرونة من على منبر المسجد، كان بالإضافة إلى ذلك، يمتلك شخصية ساحرة تتسم بالتواضع، وابتسامة لا تفارق شفتيه، يناقش باحترام ويعارض بأدب، ويدافع عن المختلف معه قبل أن ينتصر لرأيه.

لقد استطاع طوال سنوات من صعوده المنبر، المساهمة في خلق جيل متدين خال من العقد النفسية تجاه الأفكار الحديثة، جيل متصالح مع الفن والموسيقى والديمقراطية وحقوق الانسان، ومتسامح مع الأفكار المختلف عليها أو معها، يؤمن بالسلمية في التغيير، وبالدولة والقانون، ويحترم النقاش العلمي مع الآخر، واذا ما صادفت وأن وجدت متدينا يعرف غاندي وجيفارا وكثيرا من الأسماء المعاصرة، فأسأله عن عمر دوكم، الخطيب الذي كانت خطبه موسوعة ثقافية متنوعة في الدين والأدب والسياسة والثورة.

كانت له فلسفته الخاصة حول “منبر المسجد”، كان يعتقد أنه وسيلة اعلامية مثلها مثل الصحفية والتلفاز، وفي نظره فإن أي شخص امتلك القدرة المعرفية وأدوات التواصل الجماهيري، يستطيع التحدث منه، بغض النظر عن انتمائه السياسي أو الاجتماعي، وذات مرّة قال لي: إن واحدة من وسائل ترشيد الخطاب الديني، كسر احتكار المنبر على المتدينيين فقط أو المنتميين للجماعات الدينية، معتقدا أن خطبة الجمعة هي بمثابة بيان سياسي واجتماعي للناس يمكن لأي مواطن مثقف أن يلقيه.

لم يكن دوكم، مجرد خطيب، كان شابا وسيما يحب الحياة، ينتقى أرقى الثياب، يحب الموسيقى، شغوف بالقراءة والاطلاع، يقرأ الروايات العربية والاجنبية، يتابع الأفلام، ضليع باللغة ومتمكن من أسرارها، ومع ذلك كان متخففا من أمراض النخب، مختلطا بالناس ومتواضعا معهم، محبا للخير والتعاون.

كان دوكم، كاتبا صحفيا وصاحب قلم متميز، عرفته صحيفتا الجمهورية والثقافية، وملحقا الوسطية وأفكار (الذي كنت أشرف عليه)، وصحيفة المصدر وموقع المصدر أون لاين، واتسمت كتاباته بالاتزان والعمق المعرفي والوسطية التدينيه، وكانت لديه القدرة على اختزال الأفكار في صور موجزة وبسيطة وثرية، وعندما كتبت مادة صحفية عن “الاصلاحيون الجديد”، كان هو بطلهم المتربع على غلاف مجلة “أبواب”.

ربما ولكل ما سبق، كان تدين دوكم مختلفا، كان عقلانيا في تدينه، يعتقد أن الإنسان قبل كل شيء حتى الإسلام نفسه، امتلك فهما مستنيرا للإسلام، الذي فهمه وسيلة للإنسان، وليس مقدما عليه، ولذا كان يؤمن بحرية الاعتقاد ويناصر المواطنة المتساوية بين الناس، ويرى في الأفكار الحديثة حكمة المؤمن المعاصر، ولكل ما سبق أيضا، كان جمهوره مختلفا، كان مسجده يعبر عن “لقاء مشترك” يحضره الاصلاحي والاشتراكي والناصري والمستقل، وحتى السلفي والشخص العادي، وأعرف أناس لا يصلون، يحضرون الجمعة، فقط لسماع خطبه، ولا عجب، فقد كان صديق العمال والطلاب وشباب الاحزاب والصحفيين ومنظمات حقوق الانسان.

عندما انفجرت ثورة فبراير من العام 2011، كان مساندا ومشاركا بقلمه ومنبره، وعرفته جُمع ساحة الحرية بتعز، خطيبا سياسيا معبرا عن الاجماع الوطني للقيم المدنية، وظل وفيا لقيم ثورة فبراير ولم يحد عنها حتى مماته، ومع انقلاب مليشيا الحوثي والمخلوع على السلطة، وحصار مدينة تعز، كان مقاوما عنيدا للمليشيا بقلمه ومنبر مسجده، ورافد معنويا للمقاومين في الجبهات، وحريصا على تذكيرهم بأن مقاومتهم هي من أجل الوطن لا من أجل شيء آخر.

وفي ظهيرة جمعة حزينة، أطلقت أيادي متطرفة نار حقدها الدفين على دوكم، في جريمة سياسية مكتملة الاركان، استهدفت عقل دوكم السياسي وتدينه المستنير وانسانيته وحبه لليمن، ووعيه الوطني، لقد سافرت روح دوكم إلى السماء، تاركة الحزن يخيم على مدينة أحبته وأحبها، ترك عمر مصلين جمعهم به التدين الوطني، وخلف بعده ثوار فبراير الذين عشقوا فيه حب اليمن والمدنية، وغادر أصدقاءه؛ وما أكثرهم، الذين عايشوا عن قرب نبله وانسانيته ووطنيته.. .. وغادرني أنا.. الذي كان بالنسبة لي، الاخ الذي لم تلده أمي، والصديق النادر، ورفيق العمر، سهرنا معا ليالي من البحث في بطون الكتب، وقراءات الروايات، عشنا معا تجارب مرحة وحزينة في الحياة، سمعنا الاغاني وقرأنا الشعر، وشاركنا لحظات فبراير واحداثها المريرة والجميلة.

--------------------------------
نقلا عن موقع اليمن نت


Create Account



Log In Your Account