العُقدة اليزنية
الأحد 26 يناير ,2020 الساعة: 04:17 مساءً

عَـلى مَـدى التاريخ والآخـرون يتحكمون بِنا، من الحبشة، إلى فَـارس، إلى الحجـاز ونجد، إلى مَصر، إلى تركيا، تلك الخُماسية الدخيلة التي قُـدِّر لهـا أن تتـواجـد في ماضينا وحاضرنـا، وبفعل انقسمنا، إمـا كمُنقـذٍ أو كـوصيٍ يتحكم بمصائـرنا، والتوصيف الأخير هو الأكثر شيوعًا.

             

بداية القرن الميلادي الأول، وأثناء الصراع المرير بين «الحميريين» و«الهمدانيين»، قام الأخيرون بالاستنجاد بالأحباش، وتمكّنوا بفعل مساعدتهم من إخضاعِ «الحميريين، والسبئيين» لنفوذهم «127م»، وتلقبوا لبعض الوقت بـ «ملوك سبأ، وذي ريدان»، ضمن الأحباش - بفعل ذلك التحالف - أملاكاً لهم في المناطق التهامية، وصاروا لاعبين رئيسيين في الصراع الدائر، تارة يساندون هذا الطرف، وتارة ذاك، ليتمكّن اليمنيون في لحظة يقظة وطنية من طردهم.

             

وعِندما عَجز الرومان - مُنتصف القرن الرابع الميلادي - عن ترويِض العربية السعيدة، سَلمُوها للأحباش كفـَريسة مُنهكة، لينسحب الأخيرون بعد ثلاثة عقود من احتلالهم الثاني لليمن «375م»، بعد أن تلقب أحد ملوكهم بـ «ملك أكسوم، وحمير، وذي ريدان، وحبشت، وسبأ، وزيلع، وتهامة»، وبعد أن وضعوا لبنات ديانتهم المسيحية في جنوبِ الجزيرة العربية.

             

بِتَهدم «سد مأرب» - مُنتصف القرن الخامس الميلادي - حلَّت لعنة «مزقناهم كل مُمَزق»، استولى الثوار «المسيحيون» على العاصمة الحمْيرية ظفار، إلا أنَّ الملك الحميري يوسف ذا نـواس - الذي تَـهـوّد نكاية بالأحباش وداعميهم - كان لهم بالمرصاد، طاردهم، واقتحم معقلهم في نجران، وارتكب مَحرقة الأخدود الذائعة الإجرام «أكتوبر 523م»، استنجد اليمني المسيحي دوس ذو ثُعْلُبَان بملك الروم «جستنيان»، فأوكل الأخير إلى حلفائه الأحباش مهمة الإنقاذ.

             

ابتدأ الاحتلال الحبشي الثالث لليمن عام «525م»، ليأتي بعد «47» عاماً الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة الفُرس الذين رَغّبهم بالاستحواذ على بلاده كغَنِيمة، تاركاً لهم حُكم «اليمن الأعلى»، مُكتفياً بحكم «اليمن الأسفل» سهل الانقياد، وقيل غير ذلك، وحين تم قتله على يَد ثُلَّة من عساكرٍ له أحباش استبقاهم لخدمته «590م»، سيطر المُنقذون الجُدد - والذين كانوا في الأصل جزءًا من تلك المؤامرة - بسهولة ويُسر على أجزاء كثيرةٍ من البِلاد.

             

جـاء الإسـلام من الحجاز كمُنقذ، فانقدنا له، تـارة بـرسالة، وفي حالات نادرة بـالسيف، لنتلقف بعد ذاك كافة مَذاهبه، وتناقضـات فقهائـه، ومن الحجاز أيضاً، وبطلب من اليمنيين أنفسهم قَـدِم الإمام يحيى بن الحسين، ليلحق به آلاف المُقاتلين الأجانب، مُعظمهم من فارس، لتحـل الطامة الكبرى بانقياد «الخولانيين، والهمدانيين» لـمذهبه ودولته الدينية التي اختطفت المذهب «الزيدي»، وأفرغته من محتـواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن، والحسين»، شاهراً سيفه، عالمـا بالكتاب والسنة، في مخالفةٍ صريحةٍ لما جاء به الإمام زيد نفسه.

   

دول عديدة تعاقبت على حكم اليمن، وكانت جميعها مُلازمة لدولة «الإمامة الزيدية» التي انحصرت سيطرتها على المناطق الشمالية، ليبلغ التنافس ذروته بين الأخيرة و«الدولة الصليحية» التابعة أصلاً لـ «الدولة الفاطمية» في مصر، وحين أنهى «الأيوبيون» دور تلك الدولة، كانت اليمن ميراثًا سهلاً لتوسعاتهم «مايو 1174م».

     

ذكر المُؤرخون أكثر من سبب لذلك التواجد، منها أنَّ قاسم بن وهاس حاكم «المخلاف السليماني» استنجد بهم ضد توسعات عبدالنبي الحميري، وقيل - أيضاً - أنَّه ولذات السبب راسل الحسن النساخ الخليفة العباسي «المستضيء» الحسن بن يوسف، وأنَّ الأخير أوكل لـ «الأيوبيين» مهمة القضاء على دولة «ابن مهدي» وباقي الدول اليمنية المُتصارعة، والقول الأول هو الأرجح.

   

كرر المُؤرخون ذكر اسم الحسن النساخ في حادثة مُشابهة، وهي: حينما نكل الإمام عبدالله بن حمزة بجماعة «المُطرَّفية»، والتي كان النساخ أحد أشهر علمائها، توجه الأخير إلى بغداد، وطلب من «الناصر» أحمد بن الحسن النصرة، فأرسل الخليفة «العباسي» إلى «الأيوبيين» في مصر، وحثهم على نصرة اليمنيين المُستضعفين، وبالفعل توجه «المسعود» يوسف بحملة كبرى «1215م»، تعزيزًا للتواجد الأيوبي في اليمن الذي استمر لـ «57» عامًا، وما «الدولة الرسولية» ومن بعدها «الدولة الطاهرية» إلا امتداد لذلك التواجد.

     

وحين تعاظم خطر «البرتغاليين» في البحر الأحمر، سارع السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب بالاستنجاد بالمماليك في مصر، وأذن لهم بإقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية، وحين تماطل في دعم الأخيرين اجتاحوا اليمن، وقتلوه على تخوم صنعاء «1517م»، وذلك بالتزامن مع أفول دولتهم بمصر والشام على يد الأتراك، فما كان من قادتهم هنا إلا أن أعلنوا ولائهم للسلطان العثماني سليم الأول.

     

وبطلب من الأمير الطاهري عامر بن داؤود المهزوم من قبل الإماميين، وبسبب تعاظم خطر البرتغاليين، أرسل الأتراك بعد «27» عامًا بِحملة كُبرى إلى تلك الجهة، وكانت نهاية ذلك الأمير القتل غدرًا على يد الوزير سليمان باشا الخادم قائد تلك الحملة، ليبدأ بذلك التواجد التركي الأول، والذي شمل مُعظم الأراضي اليمنية، واستمر لـ «100» عام وبضعة أشهر.

   

لم يكن التواجد التركي الثاني - هو الآخر - عفويًا «1849م»، فقد ذكر بعض المُؤرخين أنَّ الأمير حسين بن حيدر «صاحب أبي عريش» استنجد بهم ضد «إمام صنعاء» محمد بن يحي، وذكر آخرون أنَّ مُفتي تهامة محمد الأهدل استنجد بهم ضد القبائل الشمالية التي عاثت في بلاده نهباً وخراباً، وأنَّ السلطان العثماني وجه بتحريك حملة عسكرية من جدة لنجدة التهاميين.

 

كانت «الإمامة الزيدية» حينها تعيش أسوأ أيامها، تولى حكمها أئمة ضعاف، انصرفوا إلى شؤونهم الخاصة، حتى ضعفت سلطتهم، وسقطت هيبتهم، وانقسم أنصارهم شيعاً وأحزابا، تآمروا ضد بعضهم، وقضى المُنتصر على المُنكسر، وكثيراً ما كانوا يستنجدون برجال القبائل، مما عرَّض مدينة صنعاء وغيرها من المدن لغارات عديدة، كثرت فيها حوادث السلب، والنهب، والتخريب.  

     

دفعت تلك الأوضاع المضطربة عدداً من العلماء، والزعماء، والتجار للاستنجاد بالسلطان العثماني عبدالعزيز بن عبدالحميد، ودعوته لحكم اليمن، وكان عدد من الأئمة ضمن قائمة المُستنجدين، كغالب بن محمد، وعلي بن عبدالله، والحسين بن أحمد، فيما تولى «شريف مكة» محمد بن عون زمام الوساطة، وجاء في وثيقة الاستنجاد: «أنَّ العرب حول صنعاء قد شقوا عصا الطاعة، واستبدوا بالبلاد بالعتو والفساد، فنرجو أن تمدونا ببعض العساكر لإنقاذ اليمن»، عاود الأتراك استيلائهم على شمال اليمن «إبريل 1872م»، واستمر تواجدهم هذه المرة لـ «69» عامًا إلا بضعة أشهر.

     

«المصريون والسعوديون ينظرون إلى اليمن كمحضية يودون امتلاكها»، مقولة صادمة قالها «ترافيسكس» المُعتمد البريطاني لعدن ذات يوم، وبالعودة إلى نهاية أربعينيات القرن الفائت نجد أنَّ الإمام أحمد حميد الدين هو أول من استجلب الدعم والمُساندة من إحدى الدولتين، وما خيار المَحضيـة إلا وليد ناجز لذلك الاستجداء.

     

عندما عَلِم الإمام أحمد بمقتل والده الإمام يحيى «فبراير 1948م»، أرسل من فوره رسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود يُعلمه بخطورة الثورة التي قام بها من يُسَمون بـ «الأحرار، والإخوان المسلمين»، وأنَّ كليهما خطر على العروش وعلى الدين، مُستمداً منه النجدة والمؤازرة، وأنَّه سيكون له ابناً إذا رضي أن يكون له أباً.

      

مع وصـوله إلى مدينة حجة، وصلت للإمام أحمد الدُفعة الأولى من النجدة السعودية «ذخيرة، ومال، وجهاز لاسلكي»، ورسالة من الملك عبد العزيز تطمئنـه وتحثه على خوض معركة صنعاء باستبسال، واعداً إياه بالمساعدة حتى آخر نَـفـس وريـال، كما عمل الملك السعودي على إعاقة وصول وفد الجامعة العربية إلى صنعاء، ليتيح لحليفه - الإمام الجديد - إسقاط الحكومة الدستورية، والسيطرة على الوضع.

     

في مُذكراته قال المناضل أحمد محمد نعمان إنَّ الأمير محمد البدر أوفده من حجة إلى المملكة العربية السعودية لحثها على التدخل، وحل الخلاف الذي حدث بين الأسرة الحاكمة إثر إنتفاضة «مارس 1955م»، أبلغ النعمان الملك سعود بن عبدالعزيز باستنجاد الإمام أحمد به، فكان رد الملك بأنَّه سيجهز «10,000» مُقاتل للمساعدة، وحين أتت الأخبار بإخماد تلك الانتفاضة، فرح الملك سعود بذلك، وقال للنعمان: «أخي الإمام أحمد انتصر على أعدائه، وخرج راكبًا فوق حصانه، وسيفه بيده»، وما يجدر ذكره أنَّ الإمام أحمد نفسه بعث - قبل ذلك - ببرقية للملك السعودي، وطالبه فيها بالتدخل الفوري، وقصف الثوار بالطائرات.

     

في العام التالي انضم الإمام أحمد إلى الحلف الثلاثي «المصري - السعودي - اليمني»، وبموجبه حصل على «3,000,000» دولار من السعودية، اشترى بها سلاحاً من الاتحاد السوفيتي، في صفقه وقعها عنه ولده الأمير البدر، وصار بذلك أكثر جبروتًا من ذي قبل، نظم حينها قصيدة طويلة رداً على جميل «آل سعود» تجاهه، جاء فيها:

ولا آلو لآلِ سعود شكراً

جميعهمُ فكلَّهمُ رعاني

بعطفٍ أو بنصحٍ أو بمالٍ

كذاك سلاحهم دوماً أتاني

     

الإمام محمد البدر هو الآخر عندما قامت الثورة ضده، لم يكتفِ بإرسال رسالة أو رسول؛ بل نفذ بجلده صوب السعودية، وأعلن من حدودها وبمؤتمر صحفي أنَّه زاحف بمساعدة الأشقاء لاستعادة مُلكه المسلوب، لتعلن المملكة بعد الثورة السبتمبرية بِشهر وسبعة أيام عن قيادتها لتحالفٍ داعم لـ «الإماميين»، مهمته القضاء على الانقلاب الجمهوري.

     

وفي نجران استقرت القياداتُ الإمامية، وأديرت العمليات العسكرية، كما تم تدريب بعض عنـاصر الجيش الإمامي فيها، وفي إيران الدولة التي انظمت إلى ذلك التحالف فيما بعد، وقدمت لـ «الإماميين» مساعـدات مالية وعسكرية مَهُـولة؛ بل وشارك بعض جنودها في المعارك، وتم أسر عدد منهم في منطقة حرض الحدودية، وأعلن عن ذلك في حينه.

    

بعد ثمان سنوات من الحَرب، تـَذمر القادة «الملكيون» من تَخلي السعودية عنهم، واتهم أحدهم ويدعى الشيخ ناجي الغادر النظام السعودي بالجُبن، وقال أنَّهم كانوا يقاتلون دفاعاً عنه، وأنَّ جمال عبد الناصر كان يريد السعودية لا اليمن، الأمر الذي أثار غضب الأمير سلطان بن عبدالعزيز «مسؤول الملف اليمني»، وقام بطرده من الاجتماع، ثم من البلد.

    

استسلم «الإماميون» حينها للأمر الواقع، ورضخوا للمصالحة الوطنية التي رعتها السعودية وباتفاق غير مكتوب «مارس 1970م»، ليعترف الملك فيصل بن عبدالعزيز بعدها بأربعة أشهر بالنظام الجمهوري، بعد أن ضمن لأغلب القيادات الإمامية مناصبهم ونصيبهم في النظام الجديد، وأبقى أسرة بيت «حميد الدين» في ضيافته.

     

بعد نجاح الثورة الإيرانية «فبراير 1979م»، انتعشت آمال «الإماميين» في إعادة دولتهم الدينية، ليتوجه في العام التالي وفد رفيع من قبلهم إلى طهران، في زيارة ظاهرها التهنئة، وباطنها طموحات إمامية ستتبدى تباعاً، كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز أعضاء ذلك الوفد، وقد كُللت تلك الزيارة بولادة تحالف بصيغة جديدة ومختلفة عنوانه: «توارى البدر، وعاد بدر».

     

كان ذلك الوفد برئاسة الشاعر أحمد بن محمد الشامي، وقد قاده حماسه بعد نجاح تلك الزيارة لمخاطبة ولي عهد السعودية الأمير فهد بن عبدالعزيز بأبيات شعرية مدلولها «لسنا بحاجة إليكم»، جاء فيها:

قل لفهدٍ والقصور العوانسْ

إننا سادةٌ أباةٌ أشاوسْ

سنعيدَ الحُكمَ للإمامةِ إمَّا

بثوب النبي أو بأثوابِ ماركسْ

وإذا خابتِ الحجازُ ونجدٌ

فلنا إخوةٌ كرامٌ بفارسْ

 

تبعاً لذلك، تم في «ديسمبر» من العام «1981م» طرد السفير الإيراني من اليمن، بعد أن تبدى للحكومة نشاطه المعادي، ليبدأ النشاط التعليمي لجماعة «الحوثي» في العام التالي، حيث تشكلت على يد محمد بدر الدين الحوثي، وصلاح فليته نواة حركة «الشباب المؤمن».

     

عادت «الإمامة الزيدية» وبدعم إيراني إلى تمددها العسكري الكارثي بقيادة حسين بدر الدين الحوثي «2004م»، ومن بعده أخيه عبدالملك، اختطف «الإماميون» الجدد الدولة والأرض، وهددوا أمن حلفائهم بالأمس، لتقود السعودية هذه المرة تحالفاً داعماً للجمهورية، عنوانه المُعلن القضاء على الانقلاب «الحوثي - الإمامي»، وعنوانه الخفي القضاء على كل«جمهوري، وإمامي».

    

بعد هذا الاستعراض الموجز، يبقى ظلم الأئمة «الزيود» وأنصارهم هو الأقسى، والمُتسبب الرئيس في ذلك التدخل الخُماسي، سعوا طوال فترة حُكمهم لاحتلال مناطق «اليمن الأسفل»، وتركيعها بكل ما أوتوا من حقدٍ وقوة، وقد تصدى لهم في كل مُحاولة المُنقذ الخارجي - من «أيوبيين، ورسوليين، ومماليك، وأتراك»، وحين تأتى لهم ذلك بمراحل مُتأخرة، وفي غَفلة من التاريخ، أهلكوا الحرث والنسل، وحولوا «الشوافع» إلى عبيد ورعايا لا حول لهم ولا زرع.

     

ومما لا شك فيه أنَّ المصلحة كانت وما تزال القاسم المشترك لتلك الخُماسية الدَخِيلة، إلا أنَّ أبناء البلد لهم نظرة مُتباينة ومُختلفة باختلاف مفهـوم الوطنية لـدى كل فَـريق، وإذا ما عـُـدنا إلى مـوروثنا المـُـثقل بالدم والصراعات، لتبدى لنا ذلك وبوضوح، عَمِدَ غالبية مؤرخي «اليمن الأسفل» مثلاً  على وصم «الأيوبيين» - القادمين من مصر - ومن بعدهم «الرسوليين، والعثمانيين» بأحسن الصفات، فهم المُنقذون، وحماة الأرض، والعرض، والدين، وبصورة مُبالغ فيها أحياناً كما فعل المؤرخ الموزعي في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان».

     

ذات الشعور طال «المصريين» الذين قدموا إلى اليمن في ستينيات القرن المنصرم، وناصروا الثورة السبتمبرية في مهدها، وكانوا أساس صمودها، و«السعوديين» الذين قدموا مُؤخراً لإنقاذ اليمن من الوصاية الفـارسيـة حدَّ زعمهم، مع اختلاف بسيط في الصيـاغة والتشبيـه، وهي النظرة التي تغيرت مؤخراً لأسباب يطول شرحها، ولسان حال هؤلاء - قديمهم والجديد - يلخصه قول الشاعر عبدالله البردوني:

وبرغمي يصبح الغازي أخي

بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي

    

وفي المُقـابـل كانت نظرة غالبية مُؤرخي «اليمن الأعلى» عكس ذلك تماماً، فهؤلاء الأجانب كـُفـار بغاة، واليمن كانت وما تزال مَقبرة لكل غازٍ ومُحتل، فيما تُهَم العَمَالة لإخوانهم في الأرض جاهزة ومُفصلة لتتنـاسب وحجم الصـراع الدائر، والأهم من ذلك تحفيز القبائل المُوالية على رصِّ الصفوف، والاستعداد لقتل كـل غازٍ وعميل، أما إيران فهي - حد وصفهم إماميهم الجدد - دولة ذات مشروع مناهض للمُستكبرين، تناصر المظلومين على الأرض، وما داموا كذلك على مرَّ العصور، فلا ضير - هنا - إن ناصرتهم.

     

والمُفارقة الصَادمة أن الإمام  يحيى بن الحسين الذي صارت لذريته وذرية من قـدموا معه مِيـزة وحقوق أكثر من سكان البلد الأصليين، لم يكن من وجهة نظرهم مُحتـلاً؛ بل صـاحب حـق، وله ولذريته السيادة والملك، وما عليهم سوى الطَـاعة والانصيـاع.

    

لا أسوأ من أن يتمادى الظالم في غيه؛ حتى يُجبر المظلوم على الاستعانة بمن ينقذه، وفي تاريخنا شواهد كثيرة تدور في ذات المسار، ذكرنا معظمها اختزالًا، لتُصبح «العُقدة اليزنية» عُقدة كل اليمنيين، وبمعنى أشمل عُقدة كل المـُستضعفين، وغير بعيد قال «تشرشل»: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، وبمعنى أشمل الغريق لا تُهمه جنسية من يُنقذه.

     

وفي المُحصلة التراجيدية، قد تكون عواقب هذه الاستعانة وخيمة، وسبق لنيقولا مكيافيللي أنْ أشار إلى ذلك قائلاً: «عندما يطلبُ حاكم من دولة أخرى القدوم بقواتها لمساعدته وحمايته؛ قد تكون هذه الفكرةُ جيدة في حد ذاتها، لكنَّها تكون في غاية الخطورة بالنسبة لمن يطلب عونها؛ لأنَّها إن خسرت تجرُّهُ معها إلى وكر الهزيمة، وإن انتصرت فإنَّه يُصبح تحت رحمتها، وباختصار أقول: إنَّ سلاح الغير إمّا يسقط على كتفيك، أو يثقل كاهلك، أو يشل حركتك».

       

تاريخنا موصولٌ غير مقطوعٍ، وواقعنا أكثرُ غُموضاً من مـاضينا، ومُسقبلنا تائهٌ بـلا ملامح، عنوان عَـريض لمعاناة لا تـنتـهي، مُمتـد كامتداد «مزقناهم كل مُمزق»، تلك اللعنة الأزلية التي طالت أبناء هذا البلد التعيس، ومن يقترب منه، وجعلتنا حديث كل لسان، وبنظرة فاحصة نجد أنَّ من تحالفوا على اليمن بالأمس القريب، صاروا أعداء، ومن اختلفوا بسببه، صاروا أصدقاء، ولولا ظُلم ذوي القُربى، واستقواء القَـوي على الضعيف، و«الأعلى» على «الأسفل»، وإشراك السمـاء في صراعات الأرض، ما اختلف وتَدخل هـؤلاء.

     

نحن إذاً وعلى مـدى التاريخ أعـداء أنفسنـا، ووطننـا، وديننا، وحيـن صاغ شـاعر اليمن الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان «الفضـول» النشيد الوطني الذي يحفظه أغلب اليمنيين، كان يـُدرك ذلك جيداً، وما قوله: «وسيبقى نبض قلبي يمنيا»، إلا دعوة إلى الحب والتآخي والوحدة كقـلب رجـل واحد، تتجسد فيه روح الوطنية والانتماء، أما قوله: «لن ترى الدنيا على أرضي وصيا»، ففيه تمرد على الماضي والحاضر، واستشراف للمُستقبـل، ودعـوة إلى عـَدم الاختلاف، واستجـلاب المُنقذين والأوصياء مَـرة أخرى.

 -------
خاص بالحرف 28

 


Create Account



Log In Your Account