هاني بن بريك ..أول عفافيش الجنوب وآخر مناضليه
الإثنين 30 ديسمبر ,2019 الساعة: 08:13 مساءً

لم يكن ظهور الشيخ المتزمت هاني بن بريك في إحدى الحفلات الماجنة في فرنسا، إلا حلقة في مسلسل تناقضاته العقائدية والسياسية، والتي تكشف جانباً من بواطن التيارات السلفية المحافظة في الظاهر فحسب.

فضيحة فرنسا لم تكن صادمة إلا لمريديه الصغار وبعض “جنوبيي الصرفة” لا أكثر، أمّا الراسخون في السياسة، فيدركون بالضبط حقيقة بن بريك وتياره المتعصب الذي أنشأته السعودية قبل عقود، وبدأت بالتخلي عنه خلال السنوات الأخيرة.

وكما أنشأت السعودية ذلك التيار لأغراض سياسية بحتة، فهي تتخلص منه اليوم للأسباب ذاتها، وما تبنّي الكثير من شيوخ السلفية لمواقف كانوا يحرمونها سابقاً، إلا لتشجيع قاعدتهم على التفسخ الأخلاقي والعلمانية المفرطة، المُروّج لها من قبل العائلة الحاكمة في السعودية في الوقت الراهن.

وباعتبار هاني بن بريك نموذجاً لتلك التضاربات، فقد تنقل بين المواقف المتناقضة منذ تبنيه للفكر السلفي الوهابي على يد نظام عفاش في الشمال، قبل قرابة الثلاثة عقود.

فقد استعان نظام صالح بالجيل المتطرف في الجنوب لتصفية خصومه اليساريين هناك، وعلى رأسهم قيادات الحزب الاشتراكي، خاصة في الفترة ما بين مايو 90 ومايو 94، وبعد اندلاع الحرب، شارك بن بريك وزملاؤه في قتال “الكفرة الاشتراكيين”، بفتاوي مسيسة أشرفت عليها قيادة النظام في حينه.

فقد أدرك عفاش أن منتسبي التنظيمات اليسارية بشكل عام يخشون رجال المؤسسات الدينية أياً كان انتماؤها، وباعتباره أحد القادة المرعوبين من التيارات العقائدية، قرر عفاش مصالحتها وتبنيها، بدلاً من مواجهتها كما كان فعل نظام الحزب الواحد فيما كان يُعرف بـ”جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.

ونجح إلى حد كبير في تدجين الفكر السلفي بمباركة القيادة السعودية، وأنشأ بتمويل منها مركزاً ضخماً لتدريس الفكر السلفي في دماج صعدة، ضم الآلاف من الطلاب اليمنيين والأجانب.

وقد تركز منهج دماج على تكفير كل من يخالف الفكر السلفي، بما في ذلك الإخوان المسلمين، إضافة إلى تحريم مظاهر الحداثة والتشديد على انتهاج نمط موحد في المأكل والملبس أُسوةً بشيوخ الطريقة الوهابية في نجد.

إلا أن الأهم هو تحريمهم لكل أشكال الخروج على الحاكم، باعتباره ولي أمر المسلمين وخليفة الله في أرضه، وكانت هذه هي النقطة التي أسعدت عفاش، وجعلته يطمئن لذلك المساق، ويبالغ في دعمه وتيسير تمدده في طول البلاد وعرضها.

ولأن السلفية لا تكترث للعرق والمنطقة، فقد وجد الشاب اليافع هاني بن بريك، فيها مفراً من واقعه المثبّط، كونه من مواليد الحبشة، ومن أم أمهرية “يُعتقد أنها مسيحية”، وقد تعرض، ولايزال، لمضايقات شديدة بسبب عقدة “المولد” أو ما يُعرف في عدن بعقدة “الورية”، وهي نوع من التمييز العرقي المتفشي في كثير من مناطق الجنوب والشمال على حدٍ سواء.

نجح نظام صالح في اسقاط الاشتراكية بوسائل متعددة، ومنها الإرهاب السلفي، وقد حمل هاني سلاحه أسوة بزملائه والتحق بركب قوات صنعاء المتوجه إلى عدن، والتي نجحت في إسقاط عدن وإنهاء الاشتراكية خلال مدة زمنية لم تتجاوز الألف ساعة من المواجهات.

وبعدها تم تمكينه هو وزملاؤه من مساجد عدن، وعملوا بتوجيهات من وزارة أوقاف صالح على تقريب النظام من الجنوبيين، والترويج لصالح باعتباره ولي أمر الأمة، ووجوب اتباعه حتى لو فعل الأفاعيل.

ومع اندلاع مسيرات الحراك الجنوبي، والمناداة بعودة استقلال الجنوب، هاجم الشيخ هاني بن بريك وبتوجيهات عليا، تلك الدعوات، معتبراً أنها منافية للشرع والدين، وأن يمنية عدن وحضرموت مثبتة في السنة النبوية، ووصف الدعوات الانفصالية بأنها امتداد للإرث الاستعماري البريطاني، الذي ابتدع تسمية “الجنوب العربي”.

ولأن التيار السلفي ظل يؤمن بأن عفاش هو الحاكم حتى بعد خروجه من السلطة، فقد انحاز بن بريك لأوامره الجديدة والتي تقتضي المصادقة على البدعة البريطانية، والوقوف إلى جانب الدعوات الانفصالية المدعومة من دولة الإمارات العربية المتحدة، وبذلك تم الزواج بين التيار السلفي وحكام أبوظبي، بمباركة وموافقة ولي الأمر الشرعي.

فعفاش كان مع الوحدة عندما كانت ثرواتها لصالحه، لكن وبعد خروجه من الحكم، لجأ إلى القيام بسلسلة من التناقضات بغية الانتقام من خصومه السياسيين الذين نجحوا في إقصائه من السلطة عام 2011.

ومن ضمن تناقضاته تلك، الانقلاب على الوحدة نفسها، وتسليم الجنوب طواعيةً للإمارات، والانحياز لصالح دعاة الانفصال والتشطير، خدمة لنزواته ومصالحه الشخصية.

وقد واكب التيار السلفي، وعلى رأسه الشيخ هاني بن بريك، تلك التناقضات، واندمجوا مع القوات الإماراتية قولاً وفعلاً، وباتوا أكثر الناس دتبنيا لدعاوى فصل الجنوب عن الشمال ولو بالقوة.

كما كان بن بريك من أوائل الذين احتضنوا طارق عفاش وأنصاره بعد فرارهم من الشمال، واستخدموا الدين مرة أخرى لتبرير ذلك، رغم معارضة الشارع الجنوبي لهذه الخطوة، كون عفاش الصغير هو وارث نظام الاحتلال الذي أذاق عدن والجنوب مآسي لا تغتفر ولا تسقط بالتقادم.

وتحول العفافيش بفضل فتاوى بن بريك وزمرته، من محتلين قدامى إلى مناضلين جدد، وصاروا يقاتلون جنباً إلى جنب مع دعاة الانفصال، واستعادة ما كان يُسمى بالجنوب العربي.

وقد يقود انجرار بقية أعضاء الانتقالي خلف فتاوى بن بريك إلى خروجهم من المشهد السياسي في الجنوب إلى الأبد. فالإمارات اليوم تبحث عن بديل ناجح في الجنوب، خلفاً لعيدروس وتنظيمه، وليس هناك من هو أفضل لها من حليفها التقليدي المتمثل في نظام عفاش، وستساهم تناقضات الشيخ الجليل في تمرير الموقف لأنه يضمن مقعده في الحالتين، سواءً دامت الوحدة أو اندثرت.


Create Account



Log In Your Account