السعودية والوحدة المأزق.. للقصة بقية
الأربعاء 06 نوفمبر ,2019 الساعة: 05:21 مساءً

ألقى الصراع القُطبي - نهاية ستينيات القرن الفائت - بظلالة على خارطة اليمن المُفخخة، سيطر السوفيت عبر وكلائهم المحليين على الجنوب، فيما دخل الشمال تحت مَظلة الوصاية «السعودية - الأمريكية»، وفي خضم ذلك التحول المُريع، لم يتبادل قادة الشطرين السفراء فيما بينهما؛ على اعتبار أنَّ الوحدة تبقى خياراً مفتوحاً، مع فارق أنَّ كل طرف يريدها مُفصلة على مقاسه.

انقلب «الرفاق» على الرئيس قحطان الشعبي «22 يونيو 1969م»، حلَّ سالم ربيع علي محله، هرب المقصيون شمالاً، انظموا إلى أقرانهم من أعضاء «جبهة التحرير»، ووصل عددهم إجمالاً إلى أكثر من «80,000» نازح، دعوا إلى تحقيق الوحدة بالقوة، وهددوا أمن أصدقائهم بالأمس، وحظو بدعم كبير من قبل المملكة العربية السعودية، والنظام الشمالي الذي خصص لهم «12» مقعداً في «المجلس الوطني»، وكانت منطقتا «الوديعة، والبيضاء» نقطة انطلاق عملياتهم العسكرية.

بازدياد تدفق المقصيين من الشمال صوب الجنوب، والعكس أيضاً صحيح؛ استعرت المناوشات الحدودية، لترتفع وتيرتها بعد تحقق المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين «مارس1970م»، وارتفعت أكثر بعد أن استدرجت القيادة الجنوبية «65» شيخاً من خولان، وقتلتهم جميعاً «21 فبراير 1972م». 

اكتفى الرئيس عبدالرحمن الإرياني بالإدانة، فيما أصر غالبية مشايخ «اليمن الأعلى» وبدعم سعودي كبير على الأخذ بالثأر، استغل الجنوبيون المقصيون ذلك؛ وأعلنوا بزعامة عبدالقوي مكاوي عن تأسيس «الجبهة الوطنية المتحدة»، ككيان موحد لـَّم شتاتهم «3 سبتمبر 1972م»، ودعوا بحماس إلى «سرعة وحدة الشطرين بالوسائل السلمية أو الحربية»، لتشتعل مطلع الشهر التالي الحرب الشاملة، قتل فيها كثير من هؤلاء المقصيين، وقتل أيضا بعض أفراد القبائل الشمالية بنيران صديقة؛ فكان النصر جنوبي.

استمراراً لمساعيها في التهدئة، عملت الجامعة العربية على رأب الصدع، وجمعت بعد «26» يوماً من استعار المواجهات بين رئيسا وزراء الشطرين علي ناصر محمد، ومحسن العيني؛ فكانت «اتفاقية الوحدة»، أفصحت القوى القبلية المـُسيرة من قبل السعودية عن معارضتها العلنية لتلك الاتفاقية دون طرح البديل، زادت ضغوطاتها على «العيني»؛ فقدم الأخير نهاية ذات العام استقالته، حلَّ عبدالله الحجرى - رجل السعودية الأول في اليمن، وأحد الملكيين العائدين - بدلاً عنه، فاتجهت الأمور صوب منحى انفصالي آخر. 
     
قام رئيس مجلس الوزراء الجديد بإيقاف أعمال اللجنة المكلفة بمناقشة بنود الوحدة، ودعا إلى إقامتها على أسس إسلامية، واتجه نحو إصلاح علاقات اليمن والسعودية، والتي توترت بفعل تلك الخطوات الوحدوية؛ بل ووصل به الأمر أن وافق أثناء زيارته للمملكة على أن تكون «اتفاقية الطائف» اتفاقية نهائية غير قابلة للتجديد «18 مارس 1973م»؛ الأمر الذي أغضب الرئيس الإرياني، وأثار سخطاً شعبياً عارماً. 

استغل «المجلس الجمهوري» حادثة اغتيال الشيخ محمد علي عثمان «31 مايو 1973م»، وأرسل في اليوم التالي وفدين رفيعي المستوى إلى عدد من الدول العربية، لشرح الموقف المتأزم، ولطلب الدعم السياسي، والمساندة العسكرية، وكما بدأ الوفد الأول جولته بالرياض ختمها أيضاً بالرياض، وهناك خاطب الأمير سلطان بن عبدالعزيز - مسؤول الملف اليمني - الشيخ سنان أبو لحوم قائلاً: «أنتم متناقضون وغير موحدين، وكل فئة منكم لها رأي، وعندكم أغلب المسؤولين مع الاشتراكيين، وأنتم الذين في الواجهة أيضاً مُنقسمين».
     
تعمق الخلاف بعد ذلك بين الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وبين الرئيس الإرياني، غادر الأخير اليمن صوب سوريا، وهدد من هناك بتقديم استقالته، ليتراجع بعد مرور ثلاثة أشهر عن موقفه، غادر اللاذقية إلى الجزائر، والتقى على هامش قمة «دول عدم الانحياز» بالرئيس سالم ربيع علي «4 سبتمبر 1973م»، وذلك بعد يومين من اغتيال عبدالعزيز الحروي، وحلَّت لغة تهيئة الأجواء بدلاً عن لغة التعجيل بقيام الوحدة اليمنية.
      
اليمنيون عبر تاريخهم الطويل أكثر قابلية للفرقة والانقسام، لم يكادوا يتعافوا من صراعاتهم المناطقية، والمذهبية، والسلالية، حتى أطلت عليهم العصبية الحزبية بوجهها القبيح، وهكذا صار الجنوب يسارياً، والشمال يمينياً، وصار لليسار يمين، ويسار انتهازي، ولليمين يسار، ويمين وسطي، استغل «اللاعب الخارجي» ذلك، ومن خلاله تسلل، صبَّ نفطه على النار، ووقف مع الجميع ضد الجميع، وتخلص من أصدقائه قبل أعدائه، وجعل جغرافية اليمن مُلتهبة بالصراعات، والجراحات الغائرة. 

حاول الرئيس الإرياني أن يتحرر من الهيمنة القبلية، أو بمعنى أصح تهذيبها، فناله من أذاها الكثير، اتهموه بتقريب عناصر يسارية، وتمكينها من وظائف حكومية على حسابهم، مُتناسين أنَّه وقف منذ بداية حكمه ضد الحزبية، ولم يكن تقريبه المحدود لتلك العناصر إلا لاعتبارات مهنية صرفة من ناحية، ولخلق توازن داخل كيان الدولة الهش من ناحية أخرى، وفي المحصلة النهائية لم ينل رضا هذا الفريق أو ذاك.

ولتلك الأسباب، ولأنه كان يتعامل مع السعودية كعدو واجب الحذر منها لا معاداتها؛ ارتفعت وتيرة مؤذاة المشايخ القبليون المدعومين من الأخيرة له، قدَّم بسببهم استقالته مرة أولى، وثانية، وثالثة، ليغادر بعد ذلك السلطة بانقلاب أبيض ظهيرة يوم «13 يونيو 1974م»، وانتهى به الأمر منفياً في «لاذقية سوريا»، بعد أن رفض الحكام الجدد عودته.

حلَّ إبراهيم الحمدي محله، أصدر أمراً عاجلاً بوقف الحملات الإعلامية ضد الجنوب، بادله الرئيس الجنوبي سالمين ذات الموقف؛ فأسسا لعلاقة ودية أخذت الطابع الشخصي أكثر من الرسمي، زار الأخير صنعاء «13 أغسطس 1977م»، وبالتزامن مع عودته تعرض المطار لقصف بقذائف «الكاتيوشا»، وقد اعتبر تقرير السفارة الأمريكية - الناقل لتلك الحادثة - ذلك بـ «أنَّه تعبير من المشايخ الموالين للسعودية عن عدم رضاهم من وجود الرئيس الاشتراكي في عاصمة الشمال».
          
سبق لـ «الحمدي» أن أزاح القوى القبلية والعسكرية التي أزاحت سلفه، ومهدت لتوليه الحكم، وأتى بهؤلاء النافذين، وجُلهم من «سنحان» ومن «همدان»، فكانت نهايته على أيدي الأخيرين «11 أكتوبر 1977م»، كان للسعودية الأثر الأكبر في انقلاب هؤلاء عليه، اشترتهم بالمال، ووعدتهم بالسلطة؛ بعد أن تأكد لها أنَّه ذاهب في اليوم التالي إلى عدن ليحتفي مع صديقه «سالمين» بالذكرى الرابعة عشرة لثورة «14أكتوبر»، ويعلنان الوحدة من هناك.

كي ينتقم من قتلة صديقه الرئيس الغشمي، طلب علي عبدالله صالح من المشايخ دعمه للوصول إلى السلطة، ومن السعودية أتت طائرة خاصة أقلت الشيخ الأحمر إلى جدة، وهناك أقنع «الأشقاء - مصدر شقائنا» الأخير بضرورة مُساندة الشاب الطامح، فيما تولى صالح الهديان المـُلحق العسكري في السفارة السعودية بصنعاء - الرجل الأول في اليمن حينها - مَهمة إقناع باقي المشايخ المُعترضين، وهكذا أصبح «صالح» رئيساً للشمال «17 يوليو 1978م»، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأن الكرسي المـُلتهب سيلفظه خلال أسابيع معدودة.
     
لم يلفظ الكرسي المـُلتهب «صالح»، ولم يبدأ حربه الانتقامية؛ بل بدأها الجنوبيون، وسيطرت قواتهم المُتحفزة على البيضاء وحريب وقعطبة وغيرها من القرى والمدن الشمالية «24 فبراير 1979م»، التقى الرئيسان «صالح» وعبدالفتاح إسماعيل نهاية الشهر التالي في الكويت، أصدرا «بيان الكويت»، ومن خلاله أعادا إحياء «اتفاقية القاهرة».
  
أقنع «صالح» المشايخ المُعترضين والمدعومين من قبل الرياض بضرورة المناورة، وكسب مزيد من الوقت، فيما وقفت الأخيرة ضد ذلك التقارب، قطعت الدعم الذي كانت تُقدمه لصنعاء؛ وترتب على ذلك عجز الحكومة عن دفع رواتب الموظفين، كما أوقفت تسليم الشمال بقية صفقة الأسلحة الأمريكية التي اتفق عليها في فترة سابقة، وبلغت قيمتها «400» مليون دولار؛ ليقوم «صالح» - رداً على ذلك - بإبرام اتفاقية تسلح مع الاتحاد السوفييتي «أغسطس 1979م»، بقيمة «600» مليون دولار.

كان «صالح» أكثر مُرونة في تعامله مع مُعارضيه، شكل لجنة للحوار الوطني تمهيداً لتأسيس «المؤتمر الشعبي العام»، فيما جاءت نافذة الوحدة المشرعة لتعزز مواقفه التصالحية، صحيح أنَّ عمليات الاغتيالات والملاحقات الأمنية استمرت في استهداف اليساريين الشماليين، إلا أن مُحللين موالين له عزوا ذلك لأذرع السعودية الخفية في جهاز «الأمن الوطني»، والتي كان يقودها محمد خميس، ليقوم «صالح» وبدعم من الرئيس العراقي صدام حسين بالتخلص من تلك الأذرع، ومن الوصاية السعودية تدريجياً.

بعد مُقدمات خائبة، و«اتفاقية هشة» أبرمها الرئيسان علي عبدالله صالح، وعلي سالم البيض، تحققت الوحدة اليمنية ظهيرة يوم الثلاثاء «22 مايو 1990م»، بدت من الوهلة الأولى كمَخرج لـ «قيادة شمالية» طموحة تبحث عن برنامج يجمع الشعب حولها، ومَخرج لـ «قيادة جنوبية» مُنهكة، شارفت خزينها على الإفلاس، انحسرت شعاراتها وإنجازاتها مع تفكك منظومة داعميها، كان مأزقها أكبر بكثير من المأزق الآخر، فكانت - تبعاً لذلك - هرولتها إلى الوحدة بلا كوابح.

عملت السعودية على كبح الهرولة الجنوبية بكل ما أوتيت من مال ونفوذ، وقدمت إغراءاتها لـ «الحزب الاشتراكي» للخروج من أزمته مقابل التراجع عن مشروع الوحدة الطموح، كما أوفدت قبل إعلان الوحدة بأيام وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل إلى عدن؛ وذلك لمحاولة اقناع القادة الجنوبيين بفصل موضوع الحدود بين الجنوب وبينها عن موضوع حدودها مع الشمال، بحيث يبقى ذلك الجزء تحت سيطرة الجنوب لا الحكومة المركزية في الترتيبات الدستورية التي يجري إعدادها، إلا أنَّ التسريع بإعلان الوحدة أفشل ذلك، وقامت المملكة على الفور بتحشيد جيوشها العسكرية على حدودها الجنوبية، مُعلنة انزعاجها من قيام الوحدة التي اعتبرتها مُهددة لأمنها واستقرارها.
 
وكان «صالح» قد قام بزيارة للسعودية «26 فبراير 1990م»، وسعى خلال تلك الزيارة لإقناع صناع القرار في المملكة بتأييد الوحدة، على اعتبار أنها ستفصل قضية الحدود الشائكة بشكل نهائي، وصرح من «حفر الباطن» بـ «أنَّ المملكة تريد الوحدة اليمنية وتؤيدها بلا تحفظ»، إلا أنَّ مساعيه تلك باءت بالفشل، وأظهر له الأشقاء عكس ما كانوا يبطنون. 

وعلى النقيض من الموقف السعودي ثمة دور رئيسي وفاعل للجمهورية العراقية، وما هو مُؤكد أن التعجيل بإعلان الوحدة تم بإيعاز ودعم مالي من قبل الرئيس صدام حسين الرجل الأقوى حينها، كانت علاقته مع رئيسي الشطرين جيدة؛ بل أنَّ «صالح» أرسل آلاف الجنود اليمنيين لدعمه في حربه مع إيران، وكان يُنعت بـ «صدام الصغير»، ليقع «صدام الكبير» بعد أقل من ثلاثة أشهر في مَصيدة غزو الكويت، جاعلاً العرب قبل الغرب يسارعون للتخلص منه، وهي الأحداث التي أضرَّت دولة الوحدة الوليدة كثيراً.

ساهم ظهور «التجمع اليمني للإصلاح» في تأجيج الصراع بين شركاء الوحدة «13 سبتمبر 1990م»، وكان بعض أعضاءه المُتشددين من المُعارضين لفكرة الوحدة من الأساس؛ رفضاً لـ «علمانية» الدولة، وخوفاً من سيطرة «الشيوعيين» على البلاد، قادوا مسيرات مُعارضة لذات المسار قبل إعلان تحقيق الوحدة، وقادوا مسيرات صاخبة فيما بعد رافضة للمادة الثالثة من دستورها، وقيل أن تحرك هذا الفريق تمَّ بدعم وإيعاز كبيرين من قبل السعودية، الجارة التي لم تجرؤ حتى تلك اللحظة على تحويل معارضتها للوحدة إلى سياسة مُعلنة.
    
انتهت «الفترة الانتقالية - الانتقامية» بحدوث الانتخابات التشريعية الأولى «27 إبريل 1993م»، بلغ الصراع بعد إعلان نتيجتها مداه، أحس أحد شركاء الانجاز بهزيمة شبه مدوية أمام خيار «الديمقراطية» الذي كان محل رضاه، لتدخل منظومة الحكم مرحلة «ائتلاف ثلاثي» لم تدم طويلاً، برز فيها طرف ثالث تقليدي - «الإصلاح» - لم ينضج بعد، عادت «الايدولوجيا» لتطغى على «المصلحة»، وحضرت صراعات الماضي غير البعيد، وغابت الوحدة التي كانت حتى الأمس القريب «تَجبُ ما قبلها».

ذهب الجميع إلى الأردن للتوقيع على «وثيقة العهد والاتفاق»، تبادلا أثناء مراسم التوقيع الاتهامات«20 فبراير 1994م»، ليقوم «البيض» قبل عودته إلى عدن بزيارة سريعة إلى جدة، وحظي هناك باستقبال رسمي حافل من قبل الملك فهد بن عبدالعزيز وعدد من أفراد الأسرة الحاكمة، الأمر الذي جعل «صالح» يتهمه بأنَّه استلم ثمن تلك الأزمة من الخارج، في إشارة إلى السعودية، الجارة المُتسلطة التي تخلت فجأة عن عملائها الشماليين، وعملت خلال الثلاثة الأعوام الفائتة على استمالة بعض «القيادات الجنوبية»، وتحفيزها تدريجياً على إعلان الانفصال، ولولا ذلك التدخل لما وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه.

كل المُؤشرات حينها كانت تؤكد أنَّ الحرب قادمة لا محالة؛ فـ «صالح» لم يكن قادراً على تنفيذ «الوثيقة»؛ كونها في اعتقاده تهدف إلى تفكيك قواه، وخلق صراع بينه وبين حلفائه، في حين بدأ «البيض» وقلة من أعضاء «الحزب الاشتراكي» يمهدون للانفصال، بدعم وتحفيز كبيرين من قبل السعودية وبعض دول الخليج؛ بذرائع واهية، منها استحالة التعايش مع القوى السياسية في الشمال, وأنَّ الاستمرار في الوحدة الإندماجية سيؤدي إلى التخلص منهم نهائياً.

في شهادته على تلك المرحلة أفاد أنيس حسن يحيى أنَّ «البيض» لم يُحسن التصرف بعد توقيعه «وثيقة العهد والاتفاق»، مُضيفاً: «كان يجب أن نتصرف بذكاء بعد عمَّان.. كان يجب إنهاء الاعتكاف، وأن نتعامل مع مهماتنا بمسؤولية.. وكنت أقول للإخوة أن يطلعوا إلى صنعاء. نحن بالاعتكاف قدمنا للطرف الآخر أن يشن الحرب علينا».
             
للسياسة رجالها، ولم يكن «البيض» يوماً من مُجيديها، ولا من مُدركي ألاعيبها، كان عاطفياً حدَّ السذاجة، وأي ريح سموم وافدة كانت تَهُزُ كيانه، وتقلب مَداركه رأساً على عقب، وهي النافذة التي تسلل منها «اللاعب الخارجي»، واستغلها عبر أذرعه المعروفة بذكاء، صحيح أنَّه - أقصد اللاعب - استفاد منها لبعض الوقت، إلا أنَّ الاستفادة الكبيرة كانت من نصيب «صالح»، الذي صار يزبد ويرعد ويتوعد، ويُقدم نفسه بأنَّه «حامي الوحدة»، وحارسها الأمين، وبأنَّه مُستعد لأن يُقدم للدفاع عنها قوافل من الشهداء.       

وفي المُقابل كان «البيض» مُتناقضاً للغاية، يظهر كـ «وحدوي» أمام أصدقاءه الوحدويين، وكـ «انفصالي» أمام أصدقاءه الانفصاليين، ولو أنَّ الفريق الأول حدَّ من تواصله مع الأخيرين «عملاء السعودية»، أمثال عبدالله عبدالمجيد الأصنج، وعبدالرحمن الجفري، وأحمد بن فريد الصريمة؛ لما تزحزح عن موقفه الوحدوي قيد أنملة، ولما ركب حصان «آل سعود» الخاسر، ولما خسر المعركة سياسياً، ثم عسكرياً.

أزمات مُعقَّدة وخطيرة لم تكن وليدة لحظتها السياسية، بقدر ما كانت تراكمات لإخفاقات مُستمرة، لم تصدق حينها النوايا؛ فانفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة «4 مايو 1994م»، والمُواجهات العسكرية حول «قاعدة العند» على أوجها، غادر «البيض» عدن صوب مدينة المـُكلا «18 مايو 1994م»، لتسقط في اليوم التالي مُعظم مُعسكرات تلك القاعدة العنيدة، وهو السُقوط المُدوي الذي جعل الرئيسان محمد حسني مبارك وزايد بن سلطان يُحملان الرئيس صالح وحده مسؤولية استمرار الحرب، فيما تقمص الملك فهد بن عبدالعزيز دور المُصلح المُتحسر على إراقة الدماء، واكتفى بالدعوة لوقف إطلاق النار. 
      
تلبية لتلك الدعوة، وإحراجاً لصاحبها، واحتراماً لعيد الأضحى المبارك، أصدر «صالح» قراراً بوقف إطلاق النار، مدته ثلاثة أيام، لم يكد ينقضي اليوم الأول حتى أعلن «البيض» - بدعم وتحفيز سعودي - الانفصال، وذلك في ليلة العيد وحجاج بيت الله الحرام يقفون على صعيد «جبل عرفة» تجسيداً لوحدة الأمة «21 مايو 1994م».

أذاع تلفزيون «mbc» نبأ الانفصال قبل تلفزيون عدن بحوالي ساعة كاملة، وذلك بعد أن مهدتا صحيفتا «الحياة» و«الشرق الأوسط» له منذ ثلاثة أيام؛ وهذا وإن دل فإنما يدل على أنَّ ذلك القرار جاء بدعم وتحفيز كبيرين من قبل السعودية، التي جاهرت بعد ذلك بدعمها للانفصال، وألقت بثقلها السياسي والمالي والإعلامي في ذات الاتجاه، ولأن ديدنها خراب الدول لا إصلاحها، بائت جميع جهودها بالفشل، وأتت الرياح بما لا تشتهي سفنها.
     
سعى بندر بن سلطان - سفير الرياض في واشنطن - جاهداً لاستصدار قرار إلزامي من «مجلس الأمن» بوقف إطلاق النار، وإرسال بعثة لتقصي الحقائق، رفضت أمريكا تلك المسودة، وعدلتها إلى الدعوة لوقف إطلاق النار دون تحميل أي طرف المسؤولية، فكان القرار رقم «924»، والذي صدر مطلع الشهر التالي، وقد مثل ذلك الموقف ضربة قاصمة لجهود السعودية، ليتهم عبدالكريم الإرياني الأخيرة صراحة بدعمها الانفصاليين، وقال: «أن هناك دلائل على مساعدات غير محدودة من المال والسلاح تصل الجنوب جواً وبحراً من السعودية».
      
في غَمرة أحداث «صيف 1994م» المُلتهبة، وجدت القُوات الجنوبية نفسها فجأة أمام قيادة دخيلة، كانت حتى الأمس القريب مَنبُوذة، ومُتهمة بالعمالة والارتزاق، وأقصد بذلك عبدالرحمن الجفري - نائب «البيض» - وأصحابه المدعومين والمـَفروضين من قبل السعودية، والذين عادوا ليحلوا محل «الحزب الاشتراكي» لا ليشاركوه الحكم، كانت أوامر هؤلاء - خاصة في عدن وشبوة - غير مُطاعة، لتتوالى تبعاً لذلك الهزائم، وفي المُحصلة النهائية لم يخسر هذا الفريق العائد شيئاً مُقارنة بخسارة الفريق المُقيم، والذي كان حتى الأمس القريب في الصدارة.
     
خاضت القُوات الجنوبية مَعركتها الخاسرة بلا قيادة مُوحدة، وبلا قضية، وبلا أهداف واضحة تستحق الموت من أجلها، وطد زعماءها «التقدميون» علاقتهم مع السعودية، وهي دولة «رجعية» لم تحترم يوماً حقوق الجوار، ومَعروفة بعدائها التاريخي لليمن واليمنيين، كانوا يتلقون أوامرهم من قادتها وقادة دولة الإمارات، وحصلوا على أموال هائلة نظير تبعيتهم تلك، اهتزت صورتهم - بفعل ذلك - أمام قواتهم المـُنظمة، واهتزت أكثر حين لم يصل الأخيرين من مَغانم ذلك الارتزاق سوى الفُتات.

عاشت القيادة الانفصالية - تبعاً لذلك - أسوأ أيامها، ولإنقاذ موقفها المـُتشظي، وبعد يوم واحد من تشكيل حكومة «العطاس»، التقى في مدينة أبها وزراء خارجية دول «مجلس التعاون الخليجي»، ناقشوا في اجتماعهم كيفية الاعتراف بالدولة الجديدة، وبعد أخذ ورد ومشاورات عديدة، تحفظت قطر، فيما طالبت سلطنة عُمان الجميع بالتأني، فكان ما أرادت الأخيرة.

لم تنكر السعودية حينها دعمها للانفصاليين، إلا أن عبدالله بن حسين الأحمر  نفى ذلك، وقال في مُذكراته أنها - أي السعودية - لم تكن ضد الوحدة، وأنها لو كانت كذلك لمنعتها في مهدها، والحقيقة التي جهلها «شيخ حاشد» أنَّ الوحدة تحققت بدعم من الرئيس العراقي صدام حسين كما سبق وأشرنا، رحلَّت المملكة حينها «850,000» مُغترب يمني، وهددت شركات النفط العاملة في الأراضي اليمنية بوقف التنقيب على أساس أنها أراض سعودية، وما ذلك إلا جزء يسير من اعتراضها السافر على الوحدة اليمنية.

 وقف «الإماميون» - أثناء تلك الحرب وقبلها - ضد «صالح»، وساندت القبائل المُوالية لهم القوات الجنوبية عسكرياً في عمران وحرف سفيان، وسياسياً ارتمى «حزب الحق» - والذي كان حسين بدر الدين الحوثي أحد أبرز قاداته - في أحضان الانفصاليين، تقوى أمرهم فيما بعد، وتخلصوا بدعم «سعودي - إيراني» من قادة حرب «صيف 1994م» المُنتصرين، حاول «صالح» من خلالهم أن ينتقم ممن ثاروا عليه في «11 فبراير 2011م»، وأن يعيد انتصاراته وخطاباته القديمة، إلا أنهم كانوا الأذكى، استفادوا منه أيما استفادة، وعلى وقع إيقاعاتهم المُتسارعة كانت نهايته، أو بمعنى أصح رقصته الأخيرة.

انتجت حرب «صيف 1994م» طرفاً سياسياً يريد الانتقام، ويسعى للثأر، لتأتي الانتكاسات الاقتصادية المُتلاحقة وترفع من وتيرة ذلك الشعور أكثر فأكثر، وأدت في النهاية إلى اندلاع مظاهرات الحراك السياسي كرد فعل على فشل الوحدة المأزق، وذلك بعد «17» عاماً من تحقيقها.

أسس العميد المتقاعد ناصر علي النوبة «الحراك الجنوبي»، وقاد ورفاقه في منتصف العام «2007م» عدة مسيرات مطلبية، كانت في البداية احتجاجاً على إخفاق الحكومة في مُعالجة أوضاع المتضررين من مُتقاعدين ومنقطعين عن الخدمة في القطاعين العسكري والأمني، ثم تحولت إلى مسيرات صاخبة داعية إلى المساواة، وإزالة عوامل التهميش والنظرة الفوقية، ومنح الجنوب سلطة أكبر في عملية صنع القرارات المحلية، والمزيد من السيطرة على موارده الاقتصادية، ومعالجة المشاكل العالقة والمتراكمة منذ إعلان الوحدة، وبعد حرب «صيف 1994م» تحديداً.

تحولت «القضية الجنوبية» بفعل التحركات الميدانية إلى مشروع مُسيطر، يمسك بزمامه أكثر من طرف - «أصلي»، و«تقليد» - واتجه «الحراك الجنوبي» بشكل مُطَّرد، وبفعل سياسات النظام الخاطئة نحو التجذّر والاستقواء بالداخل والخارج، ووصل إلى أقصى درجات الخطورة بتجاوزه ذلك التأطير المطلبي إلى رفع شعارات انفصالية ذات بعد مناطقي مقيت، واستهداف مُباشر ومقصود لمواطنين شماليين، وهكذا صار البعد الانفصالي جلياً تحت مسمى «الجنوب العربي».

كان «الحراكيون» ينظرون لعلي سالم البيض على أنَّه بطل قضيتهم في المنفى، يرفعون صوره في مسيراتهم كرئيس لجمهوريتهم المُستلبة، استغل الأخير ذلك، وعاود الظهور بدعم من جمهورية إيران الإسلامية، رافعاً شعار «فك الارتباط»، وما هي إلا سنوات معدودة حتى خفت ذكره؛ وتلاشت طموحاته مع بروز قيادات جنوبية جديدة مدعومة ومَفروضة من قبل الإمارات والسعودية - داعميه بالأمس، والتي انتهجتا سياسة «النفس الطويل»، وهي سياسة استحواذية مضمونها الانفصال - أو بمعنى أصح تقسيم الجنوب - بشكل مرحلي؛ كي لا يتحد فرقاء اليمن حول خيار الوحدة كما اتحدوا من قبل، وللقصة بقية.


Create Account



Log In Your Account