قراءة في المشهد السياسي والإداري الراهن (١)
الإثنين 04 نوفمبر ,2019 الساعة: 08:54 مساءً

من المعروف عند قيام أي دولة، يبدأ بناء الدولة من الجيش والأمن ثم بقية الهيكل الإداري للدولة، حسب طبيعة النظام السياسي وحسب تركيبة المجتمع وثقافته وحضارته وظروف قيام الدولة والشواهد على ذلك كثيرة.

 

لما كانت الدولة في ظل الحكم العسكري لدولتي ما قبل الوحدة، كان الفساد المالي والإداري في حدوده الدنيا، وكان هناك تنمية متعددة القطاعات زراعيا وصناعيا في حدود الصناعات الإستهلاكية، سواء بالنظام الاشتراكي للجنوب أو نظام الاقتصاد الوطني بتوجه الإقتصاد القومي السائد في معظم بلدان ما بعد الإستقلال في العالم الثالث، بعيدا عن المصطلح الإزدرائي للساسة الغربيين(جمهوريات الموز ).

 

وبسبب طبيعة النظام المختلط بين الرئاسي والبرلماني، وهو نموذج خليط للحكم وفق النظام الفرنسي نجح فيه الفرنسيون وحدهم فيما أخفقت العديد من الدول التي اختطت هيكلها الإداري وفق هذا النظام الخليط للجمهوريات سالفة الذكر، سواء في أميركا اللاتينية أو أفريقيا وآسيا، يعالج النظام المختلط وضع الدولة الفرنسية مع المستعمرات أو الدول الخاضعة للوصاية الفرنسية، واعتبره قادة التحرر الوطني النموذج الأمثل لإقلاع الدولة الوطنية من مرحلة ما قبل الصناعة إلى الدولة الصناعية وفي ظلال الحرب الباردة، وقعت الدول الوطنية ضحية الصراع الدولي لنظام القطبين ما بين القطب الاشتراكي والقطب الرأسمالي، لتكون مرتعا للإنقلابات وباستمرار هذه التجاذبات، تكررت الآغتيالات والإنقلابات في الدول المعنية، هذا الوضع كان مستهلا لغياب التنمية الإقتصادية التي لا يمكن أن تتحقق في ظل غياب نظام ديموقراطي أو نظام ما قبل لديموقراطي(الديكتاتوري).

 

ولم يعد العالم يحبذ الديكتاتورية بسبب أنها سرعان ما تتحول أما للفرد المستبد والوراثي فيما بعد، أو الاوليجارشية، وهو حكم الأقلية الفاسدة وهذا ما حدث بعد صيف ١٩٩٤في اليمن وبسبب ظروف البلاد آنذاك وبسبب دخول اليمن ضمن ما يسمى بدول الممانعة، للتدخل الغربي في مشكلة الخليج ترتب عليها دفع ثمن الممانعة ناهيكم عن تحولات مابعد الحرب، إذ أصبح النظام الحاكم ،نظام الحزب الواحد ومجموعة أحزاب شكلية تبرر ديموقراطية صورية لجلب المساعدات والقروض، وهنا يكون لدينا عدة أسباب لقيام نظام فاسد بسبب تركيبته المزدوجة وبسبب الاوليجارشية الفاسدة، وتحالفها مع رجال الأعمال ورجال الدين وهذه أسباب إضافية لشرعنة الفساد بقوانين إضافية مثل قانون الإ ستثمار وقانون المناقصات وقانون الإصطياد البحري، إضافة للمصادقة على عشرات الإتفاقات وأسوأها اتفاقية الجات واتفاقيات أمنية إقليمية وثنائية دولية.

 

الفساد الحكومي له أوجه عدة، ويظهر في الدول المدينة للبنك الدولي بسبب طبيعة المعالجات الإقتصادية، التي يشترطها البنك قبل وجود البنك الدولي، أو بعده.

هناك أنظمة ذات طبيعة فاسدة مثل الثيوقراط والاوليجارشية الديماغوجية، كون أن اليمن تحديدا خضع لنظامين: القلة العسكرية القبلية والحزب الواحد، ثم تم دمج الكل بنظام ديموقراطي في دولة واحدة، تم إزاحة الحزب الاشتراكي وبقي لدينا الاوليجارشية الذين أضافوا لأنفسهم رجال الأعمال وشبكة علاقات تجارية سياسية خارجية إضافة لا استثمارات مالية لجماعات دينية ممولة هذا الخليط الواسع من الفساد أصبح نظاما حاكما في اليمن.

 

بعد الدخول في معترك الإقتصاد المفتوح وبدون تنمية متوازنة للقطاعات الإقتصادية للدولة وفق أسس النظام الرأسمالي تحولت اليمن لنظام السوق المفتوح مباشرة ووفق توصيات الصندوق الدولي والبنك الدولي، تم وضع حلول ووصفات البنك الدولي والتي من أهمها الخصخصة للقطاعين العام والمختلط وفتح البلاد للإستيراد الحر والإستثمار الحر والإنصاف يقتضي أيضا أن لا نحمل صندوق النقد الدولي جريرة ما حدث لوحده، ففي كل مرة كان الصندوق يقدم وصفته الإقتصادية، كان ما ينفذ منها هو ما يخدم القلة العسكرية القبلية ورجال الأعمال وحفنة من السياسيين فقط، وبالتأكيد أصر الصندوق على تعيين فرج بن غانم رئيسا للوزراء والذي عمل لفترة وجيزة ثم مالبث أن قدم استقالته رحمة الله عليه ومضى في سبيل حاله.

 

وبسبب خلافات سياسية عميقة بين الأقلية الحاكمة إثر مؤشرات سياسية وعسكرية للتوريث وحول استثمارات ومبالغ مالية سحبت اثر عمليات بيع أذون الخزانة والتي سحبت من البنك لتوزع على عدد من الموالين لأبناء الرئيس السابق واستثمارها باسمهم شخصيا، ظهر العديد من رجال الأعمال الجدد بين ليلة وضحاها ما بعد انتخابات ٢٠٠٦ مايقارب ٧٣شركة خدمية نفطية وشركات أمنية إضافة لشركات اتصالات منافسة الشركتين الرائدتين آنذاك "سبيستل" و"سبافون" رغم العقود البخسة لهما والمماطلة في دفع إيراداتهما الضخمة، هذا الصراع القوي كان احتباسا قويا لغليان شديد تحت السطح وخفي، عن كثير من المواطنين المنهمكين في حياتهم اليومية.

 

وفي ظل تغول الفساد وقيام التمرد المسلح في شمال اليمن بقيادة الحوثي، كان برميل البارود على وشك الانفجار إضافة لقيام الحراك السلمي الجنوبي ٢٠٠٧، أصبح الوضع مهيأ للثورة أو الإنهيار الكامل للدولة، وبسبب اندلاع الإحتجاجات الشعبية في تونس، ثم قيام ثورة شعبية عارمة، أدت لسقوط أول رئيس عربي دون انقلاب، تلاه محمد حسني مبارك في مصر وهذا ما أدى لقيام ثورة الحادي عشر من فبراير إنطلاقا من جنوب غرب اليمن(تعز) ومنها إلى صنعاء، وبسبب تعقيدات الوضع المحلي والدولي، تم احتواء ثالث ثورة عربية بتسوية سياسية تحافظ على النظام مع تغيير الرجل الأول فيه، وكانت أصدق لوحات إرشادية في ساحة التغيير للأحزاب والقيادات العسكرية والقبلية المنظمة للمتظاهرين(الشعب يريد إسقاط الرئيس بدلا من الشعب يريد إسقاط النظام ) وهذا ماحدث بعد قيام الثورة السلمية ٢٠١١ اذ تم تجميع أوراق اللعبة في حل مؤقت واعتباطي(المبادرة الخليجية) ،ونتاجا لكل ذلك، كان من المرجح أن يحاول المركز الأول للقوة في اليمن بالتحالف مع المركز الثالث كما يفترض وبدعم إقليمي و موافقة بعض الدول الكبرى لحماية اتفاقات مبرمة، تم الإطاحة بعدد منها فسارعوا للإنقضاض على القيادة الإنتقالية حتى يتسنى لمراكز القوى المحلية والإقليمية إعادة ترتيب المشهد لما سبق.

 

ولما كان القوى السياسية المعبرة عن الثورة هو اللقاء المشترك نفسه كجزء من التوليفة السياسية للنظام كما أسلفنا فإن أداءه السياسي منذ سنوات ما قبل الثورة، كان ضعيفا و تحالف انتخابي لتكريس (الهامش الديموقراطي)*

 

وبسبب طبيعة تركيبته السياسية والإجتماعية، كان يعاني كثيرا من تأثير السلطة عليه، أقصد تحالفات الأقلية الفاسدة داخل الأحزاب السياسية والنقابات وحتى المنظمات الحقوقية، وكان حضورها كجزء من ديكور واكسسوارات ديموقراطية الحزب الواحد وامتداد الفساد حتى للتصويت لقرارات تخدم مصالح طبقة تجارية معينة وتقليص عدد من المؤسسات والوكالات التي قامت لعقود وتصعيد طبقة تجارية جديدة.

 

كان حضور مناطق معينة في العمل التجاري المفاجئ، يترافق مع يوميات الخصخصة وتشليح المصانع والمؤسسات في الشمال والجنوب ، وكان الإعلام المطبوع: الصحف الحزبية والأهلية قد ارتفع صوتها عاليا في وجه الفساد، وبدأت الخلافات تدب بين الجماعة الحاكمة بين الضباط القدامى، رفاق انقلاب تشرين ١٩٧٧ ،وبين الضباط الجدد والموالين لعائلة الصالح، وبدأ الضخ الإعلامي والجماهيري لمشاريع الصالح ومكرمة الصالح وما إلى ذلك.

 

عند بدء المظاهرات في صنعاء ١٥ يناير ٢٠١١ والتي استمرت لأسابيع في عدد محدود من طلبة جامعة صنعاء وناشطين سياسيين، لم تنجح بسبب تردد قواعد أحزاب المشترك في الانخراط بالثورة والمطالبة بإسقاط النظام، وكان المشترك في ٣فبراير قد احتشد جماهيريا بالآلاف في حي مذبح ودعا لاصلاحات إدارية واقتصادية وتجاهل الحضور جوار جامعة صنعاء، في إشارة تفاهم واضحة بين السلطة والمعارضة، وهذه إملاءات تقتضيها مصالح الأقلية الحاكمة والتي تشكل مجاميع وخلايا تبدأ من دار الرئاسة وتنتهي داخل ما يفترض أنها أحزاب معارضة وكان هذا التوجه يتعارض مع توجه كبار ضباط الجيش القديم وعدد من رجال الأعمال الجدد، ويمكن اختصار الجماعتين المتربصتين بالفريق علي محسن ورجل الأعمال حميد الأحمر ، وكان سقوط الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك حافزا قويا لخروج عشرات الناشطين وبأكثرية يسارية في تعز، واستمرارهم حد القدرة على التجمع في مكان ثابت أطلق عليها اسم ساحة الحرية ١١فبراير ٢٠١١ بينما ظل المتظاهرين في صنعاء يحاولون باستماتة الوصول إلى ميدان التحرير صنعاء دون جدوى، وبعد تهديد كتله صغيرة من النواب المستقلين بالخروج إلى أمام الجامعة والاعتصام شجعنا هذا على البقاء والتجمع أمام جامعة صنعاء وبدأت ساحة الحرية والتغيير بالتوسع والنمو بعشرات الطلاب والناشطين السياسين والمدنيين والطلاب و حضور رمزي لقبيلة مراد مارب ثم همدان، هذه المجموعة البرلمانية كانت، بحسب اعتقادي وليس حتميا ، كانت إشارة تحرك الشق المناؤي لصالح وجماعته وبتشجيع من رجل الأعمال حميد الأحمر وجاء انضمام أحزاب المشترك متأخرا في شهر مارس وقبل جمعة الكرامة.

 

كان الحضور اليساري طاغيا في ظل اعتصام المئات وحتى بعد جمعة الكرامة، حرص المشترك على بقاء المتظاهرين في ساحة الاعتصام وعدم التحرك الجماهيري باتجاه القصور الرئاسية والمقرات الحكومية، الأخرى هذه الطبيعة المترددة لدى قيادة المشترك هي سمة بارزة فيه منذ قيامه وحتى تفككه فيما بعد وذلك لسببين أساسيين: ضعف الثقة بجماهير الشعب كون معظم القيادات السياسية المعارضة مطبوعة بطابع العمل السري لدى اليسار ،تحالفات المصالح المشتركة للأقلية الحاكمة والتي تشكل مجاميع كبيرة من الشيوخ الدينيين والقبليين وحتى رجال الأعمال في اليمين المعارض للنظام والذي يتدرج من حزب الحق والقوى الشعبية وصولا للتجمع اليمني للاصلاح والمؤتمر الشعبي العام.

 

رغم انضمام تشكيلات عسكرية وأمنية واسعة للثورة ورغم توسع الاحتجاجات من الجنوب في عدن وتعز إلى الشمال في صعدة، لم يوظف المشترك هذا الزخم الشعبي المتعاظم لنفس السببين اللذين أشرت إليهما سابقا وعوامل أخرى، فإن اللقاء المشترك نفسه، وقع على مسودة المبادرة الخليجية مايقارب ثمان مرات مقابل توقيع واحد لمرة واحدة في الرياض بشهر نوفمبر ٢٠١١.

 

مسارعة المشترك للتوقيع على المبادرة في أوج الغليان الثوري في مطلع أبريل ٢٠١١ كان حالة مغايرة لماحدث في مصر، حيث كان الرئيس وأركان النظام هم من يقدمون التنازلات وهذا يشير بجلاء لامتدادات الأقلية الحاكمة الاوليجارشية في تركيبة النظام نفسه، وهذا العامل خلق حالة واسعة من الرفض والتذمر لدى قطاعات واسعة من جمهور الثورة ، وهو ما سيعمل عبدالملك الحوثي وجماعته السياسية والإجتماعية في شمال اليمن على استغلاله أقصى درجات الاستغلال ، حد إسقاط دولة بأكملها، احتجاجا على جرعة سعرية وبمظاهرات مسلحة، بخلاف تحالف صالح ومن تبقى من معاونيه وقيادات عديدة سياسية وعسكرية وأمنية، مهدت للحوثة إسقاط مؤسسات الدولة في صنعاء وبقية المحافظات وفرض الإقامة الجبرية على رئيس الجمهورية عبدربه منصور في مقر إقامته؛ وبذلك يكون النظام في شقه العسكري القبلي اثنيا قد انقلب على نفسه ليسقط الحكومة الإنتقالية والرئيس التوافقي في خطوة متوقعة للثورة المضادة؛ وتهربا من تحقيق توصيات الحوار الوطني والذي كان أهم ما خرج به هو إعادة صياغة نظام الدولة من النظام المختلط بتوليفته الاوليجارشية، بقيادة اثنية، كما ذكرت إلى نظام الدولة الاتحادية و بقي الخلاف حول عدد الأقاليم وحول هل سيكون النظام رئاسيا ام برلمانيا ، وكان هذا التوجه أهم ما توصلت إليه الثورة في معالجة الأزمة السياسية للبلاد.

 

و لإرباك المشهد السياسي وإسقاط الثورة والهروب من الاستحقاقات الوطنية تجاه مختلف قطاعات وجماهير الشعب، تحالف المذهب مع المركز الأول للقوى بشخص علي عبدالله صالح والذي راح ضحية خطته الجهنمية ليقع في شبكة الجماعة الإسلامية المتشددة (جماعة الحوثي -انصار الله ) وهي حركة يمينية متطرفة تؤمن بالعنف وسيلة وحيدة للحكم على أساس عرقي، وهو الإنتساب لسلالة الحسين، ورغم سخرية المشهد الدامي فإن هذه الجماعة الشيعية الطائفية حكمت البلاد منذ قرون حتى قيام ثورة ٢٦سبتمبر ١٩٦٢ ليسقط نظامها الثيوقراطي، ثم يعود أنصاره لمهاجمة صنعاء وبقيادة المرتزق الدولي الشهير بوب دينار، ورغم هزيمتهم في إسقاط الجمهورية إلا أن تسوية سياسية سمحت لفلولهم بالعودة إلى صنعاء والمشاركة بالحكم.

 

كان تواجدهم داخل الدولة يتنامى وصولا للمشهد الحالي وبعد سيطرتهم على صنعاء كاملة ومحافظات أخرى باتجاه الجنوب مثل البيضاء، إب، هرب الرئيس المعتقل في منزله تحت الحراسة المشددة إلى مدينة عدن، وإثر سقوط تعز ولحج والضالع بيد الإنقلابيين، فإن محاولة الطيران قصف منزل الرئيس المحظوظ بالهرب قد نجا من ضربة عسكرية لمنزله ليستمر في الهرب ثانية أثناء اشتباكات متداخلة بين أنصاره والانقلابيين داخل المدينة وبعد وصوله إلى سلطنة عمان الشقيقة كانت الحرب قد أصبحت حرب إقليمية.


Create Account



Log In Your Account