حَربٌ وخَمر!!
السبت 06 يوليو ,2019 الساعة: 03:55 مساءً

أزمات مُعقَّدة وخطيرة لم تكن وليدة لحظتها السياسية، بقدر ما كانت تراكمات لإخفاقات مُستمرة، لم تصدق حينها النوايا؛ فانفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة مساء يوم الأربعاء «4 مايو 1994م»، ورغم الدعم المهول الذي حظي به «الحزب الاشتراكي - الكافر» من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المُتحدة «الرجعيتان»؛ حسم «الدحباشي» علي عبدالله صالح المعركة لصالحه خلال «65» يوماً، مُخيباً توقعات المُحللين العسكريين، وصار بذلك الحاكم الأوحد، وبيده مَقاليد كل شيء.

 

انتهت مُواجهات الساعات الأولى بهزيمة واستسلام قوات لواء «باصهيب الميكانيكي - جنوبي» في ذمار، وأسر قائده العقيد ثابت جواس، وهزيمة واستسلام قوات «الأمن المركزي - شمالية» في عدن، فيما استمرت مُحاولة تطويق لواء «العمالقة - شمالي» في أبين، وقصف اللواء «الثاني مُدرع - شمالي» في ردفان، لتبدأ في اليوم التالي طائرات حربية جنوبية بقصف عدد من الأهداف في صنعاء وتعز والحديدة وأبين، وذلك بالتزامن مع اشتعال المواجهات في «محور البيضاء».

 

كانت مُواجهات البيضاء هي الأكثر شراسة، وجد اللواء «العشرين مدفعية - جنوبي» المُرابط في «جبل ثرة» نفسه في مواجهة مع خمسة ألوية «شمالية / جنوبية»، وأقصد بالأخيرة القوات التابعة لعلي ناصر محمد، والتي هربت شمالاً بعد أحداث «13 يناير 1986م»، كانت الألوية الخمسة بقيادة «قائد المحور» العقيد الركن عبدربه منصور هادي، حسمت بعد أربع ساعات المَعركة لصالحها، وغنمت كثير من الأسلحة والعتاد، وأصبح الطريق أمامها سالكاً حتى مدينة زنجبار، فيما أصبح «هادي» بعد أربعة أيام وزيراً للدفاع.

 

قبل تعيين «هادي» بيومين، ألقى علي سالم البيض خطاباً حماسياً من عدن، أكد فيه أنَّ المَعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، وأنَّه على استعداد لنقل المَعركة إلى بوابة القصر الرئاسي في صنعاء، غير آبه بانضمام قواته المُرابطة على تخوم ذات المدينة إلى الطرف الآخر، أو بمعنى أصح دخولها في حماية القبائل المُحيطة، ومن ثم وقوفها على الحياد، وهي التي كان يؤمل عليها ومعها مجاميع من قبائل «بكيل» في محاصرة العاصمة، وإسقاطها، وحسم المعركة لصالحه.

 

باع بعض مشايخ «بكيل» الوهم لـ «الحزب الاشتراكي»، وذلك بعد أن استفذوا الكثير من أمواله، وثمة وثائق لمراسلات كثيرة بينهم وقيادة «الحزب» - تم الكشف عنها في حينه - أكدت أنَّ غاية مطالب هؤلاء تمثلت في الحصول على السيارات والسلاح ونفقات الأفراد، فقد «البيض» ومن ومعه الأمل في مُناصرتهم، وخرج بعد خمسة أيام عن صمته، سماهم بـ «المُرتزقة»، وقال بمرارة بـ «أنهم لم يُقرّحوا حتى طُماشة».

 

بسقوط منطقتي كرش والضالع «10 مايو 1994م»، باتت بوابة الجنوب مُشرعة أمام القوات الشمالية، وبدأ آلاف المُتطوعين - من أعضاء «التجمع اليمني للإصلاح» والقبائل - يتوافدون لمساندة تلك القوات، ليجتمع أعضاء المكتب السياسي لـ «الحزب الاشتراكي» في ذات اليوم بمدينة عدن لمناقشة تلك التداعيات، وقيل أنَّ جار الله عمر وياسين سعيد نعمان دعيا إلى تنحي «البيض»، وأن تتولى قيادة جديدة التفاوض مع صنعاء، وفي الأخيرة دعت خمسة أحزاب سياسية مُتعاطفة مع «الحزب» إلى وقف إطلاق النار، وإلغاء كل مؤسسات السُلطة القائمة لعجزها عن حل الأزمة، والإسراع في تشكيل حُكومة إنقاذ وطني ترتكز على بنود «وثيقة العهد والاتفاق».

 

والمُواجهات العسكرية حول «قاعدة العند» على أوجها، غادر «البيض» عدن صوب مدينة المُكلا «18 مايو 1994م»، لتسقط في اليوم التالي مُعظم مُعسكرات تلك القاعدة العنيدة، وهو السُقوط المُدوي الذي جعل الرئيسان محمد حسني مبارك وزايد بن سلطان يُحملان الرئيس صالح وحده مسؤولية استمرار الحرب، فيما اكتفى الملك فهد بن عبدالعزيز بالدعوة لوقف إطلاق النار.

 

تلبية لتلك الدعوة، واحتراماً لعيد الأضحى المبارك، أصدر «صالح» قراراً بوقف إطلاق النار، مدته ثلاثة أيام، لم يكد ينقضي اليوم الأول حتى أعلن «البيض» الانفصال، وذلك في ليلة العيد وحجاج بيت الله الحرام يقفون على صعيد «جبل عرفة» تجسيداً لوحدة الأمة «21 مايو 1994م»، وجاء في بيانه: «تسعى الدولة بفضل التحالفات الوطنية الواسعة وتعزيز الوحدة الوطنية إلى إعادة الوحدة اليمنية على أسس ديمقراطية وسليمة، ويعتبر دستور الجمهورية اليمنية هو دستور دولة جمهورية اليمن الديمقراطية».

 

شهد «صالح» في خطابٍ له سابق بأنَّ «البيض» هو الصانع الحقيقي للوحدة، والأعجب أنَّ الأخير أعلن الانفصال تحت ذريعة «إعادة تحقيق الوحدة بشكل صحيح»، كان قراره الارتجالي مُرحباً به عند بعض قيادات وأعضاء «الحزب الاشتراكي»، على اعتبار أنَّه نتيجة حتمية للحرب الدائرة لا سبباً لها، ساروا معه حتى النهاية، وتوالت تصريحات الأكثر وطنية منهم للتبرير لما حدث، وهذا أنيس حسن يحيى - رئيس كتلة «الحزب» البرلمانية - قال حينها لصحيفة «الشرق الأوسط» أنَّ ذلك الإعلان لا يعنى الانفصال، وإنما عودة لوضع سابق، مؤكداً تمسكهم بـ «وثيقة العهد والاتفاق».

 

وفي المُقابل عارض ذلك القرار كثير من قيادات وأعضاء «الحزب الاشتراكي»، أعلن بعضهم - وخاصة المُقيمون في صنعاء - تأييدهم للوحدة، كـ علي صالح عباد مُقبل وآخرون، فيما آثر البعض الآخر الاعتكاف في منازلهم أو مغادرة البلاد، وكان جار الله عمر أبرزهم، جعل الأخير من قاهرة المُعز محطة مؤقتة للبقاء، ليعمل ورفيقه «مقبل» - فيما بعد - على إعادة إحياء «الحزب»، وانتشاله من بين الركام.

 

أذاع تلفزيون «mbc» نبأ الانفصال قبل تلفزيون عدن بحوالي ساعة كاملة، وذلك بعد أن مهدتا صحيفتا «الحياة» و«الشرق الأوسط» له منذ ثلاثة أيام؛ وهذا وإن دل فإنما يدل على أنَّ ذلك القرار جاء بدعم وتحفيز كبيرين من قبل المملكة العربية السعودية، التي جاهرت بعد ذلك بدعمها للانفصال، وألقت بثقلها السياسي والمالي والإعلامي في ذات الاتجاه، ولأن ديدنها خراب الدول لا إصلاحها، بائت جميع جهودها بالفشل، وأتت الرياح بما لا تشتهي سفنها.

 

سعى بندر بن سلطان - سفير الرياض في واشنطن - جاهداً لاستصدار قرار من «مجلس الأمن» بوقف إطلاق النار، وإرسال بعثة لتقصي الحقائق، رفضت أمريكا تلك المُسودة، وعدلتها إلى الدعوة لوقف إطلاق النار دون تحميل أي طرف المسؤولية، فكان القرار رقم «924»، والذي صدر مطلع الشهر التالي، وقد مثل ذلك الموقف ضربة قاصمة لجهود الرياض، ليتهم عبدالكريم الإرياني الأخيرة صراحة بدعمها الانفصاليين، وقال: «أن هناك دلائل على مساعدات غير محدودة من المال والسلاح تصل الجنوب جواً وبحراً من السعودية».

 

أثبتت تلك التطورات وما سبقها من أحداث أنَّ ضمانة استمرار الوحدة «أمريكية - أوروبية»، وظهر ذلك جلياً من خلال التصريحات الرسمية لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين بضرورة إنهاء الأزمة سلمياً، ومن خلال التحرك الواضح للسفير الأمريكي في صنعاء، ومُشاركة المُلحقين الأمريكي والفرنسي - الأخير مُمثل للمفوضية الأوروبية - في اللجنة المُكلفة بمنع استمرار التداعيات العسكرية، كان حيادهما طول الأزمة إيجابياً، ليتحولا بعد اندلاع الحرب وإعلان الانفصال إلى جانب صنعاء، واضعين ثقلهم الدبلوماسي وخصوصاً في مجلس الأمن في ذات المسار.

 

وإلى جانب أمريكا وفرنسا أعلنت مُعظم الدول العربية والأجنبية وقوفها مع الوحدة، كروسيا، وألمانيا، وبريطانيا فيما بعد، وألغت ليبيا احتفالاتها بعيد الأضحى حداداً، فيما اعترفت دولة الإمارات العربية المتحدة إعلاميا بالدولة الجديدة، وسبقت صفة «فخامة الرئيس» اسم «البيض» في وسائلها الإعلامية، ومن مُفارقات القدر أنَّ الدولة الوحيدة التي اعترفت رسمياً بدولة الجنوب كانت «جمهورية أرض الصومال»، وهي الأخرى غير مُعترف بها دولياً؛ بل أنَّ الانفصاليين - هنا - لم يعطوا أهمية لاعترافها ذاك، ولم يكلفوا أنفسهم عناء رد الجميل.

 

والموقف الأبرز تمثل بوقوف طهران إلى جانب صنعاء نكاية بالرياض، وبدأ الحديث حينها: أنها والدوحة وبغداد وعَمَّان والخرطوم يُقدِّمن دعماً للشمال، وصرح عبدالملك سعيد القائم بأعمال سفارة اليمن بالقاهرة بـ «أنَّه لا توجد أية آثار للدور الإيراني في اليمن، وإذا وجد فإنه ضعيف للغاية سواء قبل الأزمة أو خلالها»، ونفى في المُقابل علي أكبر ولايتي - وزير خارجية إيران - أن تكون بلاده قد أرسلت أسلحة إلى الشمال، وقال: «هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة».

 

كما أعلن زعماء الأحزاب السياسية اليمنية رفضهم للانفصال، وعبر غالبية المواطنين اليمنيين عن استياءهم الشديد من ذلك القرار، حتى أولئك الذين كانوا حتى الأمس القريب مُتعاطفين مع «البيض»، أضحت الوحدة والحفاظ عليها همّ الجميع الشاغل، وكنتاج فعلي لذلك التعاطف العابر، سير الأكثر حماساً قوافل مُحملة بالمواد الغذائية دعماً للمجهود الحربي، وصدر قرار جمهوري بتكليف عبدالمجيد الزنداني رئيساً لـ «اللجنة الشعبية لجمع التبرعات».

 

استفاد «صالح» من كل ما سبق استفادة كبيرة، دعا من فوره لاستئناف عمليات القتال، وألقى خُطبه الرنانة بحماس بالغ، وقال في مؤتمر صحفي: «إن التعاطف مع قرار البيض الانفصالي من أي قطر عربي أو دولة صديقة دخول مُباشر في عداء مع اليمن، وتدخل سافر في شئونها الداخلية»، وأضاف، «خشينا دخول القوات المُسلحة إلى عدن، ولكن بعد إعلان الانفصال سنضطر إلى دخولها بشتى الوسائل، وسنطارد الانفصاليين أينما وجدوا»، ليصدر «النائب العام» أمراً بالقبض القهري على «16» من القيادات الجنوبية.

 

ترك عدم الاعتراف بدولة الجنوب هوامش كثيرة للمناورة، وأضحت قوات صنعاء تُقاتل بحماس كبير تحت مُسمى «الشرعية الدستورية»، رفعت شعار «الوحدة أو الموت»، وصارت معركتها - وفق منطق الحق والباطل الذي تم تكريسه - مُقدسة، على اعتبار أنها تواجه شرذمة انفصالية مُرتدة، كما ساهم بعض رجال الدين في تغذية ذلك الشعور، من خلال التركيز على مثالب الطرف الآخر، وأنَّه مُلحد وكافر، وما ذكر قناني الخمر في أخبار المواجهات، وأنَّ العثور عليها بكميات كبيرة تمَّ مع كل تقدم، إلا غيض من فيض، ليأتي تصريح عبدالله بن حسين الأحمر بأن «قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار» ليوضح تلك الصورة السوداوية أكثر.

 

ارتفعت - تبعاً لذلك - وتيرة المُواجهات العسكرية في أكثر من جبهة، وبدأت القوات في «محور حضرموت شبوة» تتحرك بسرعة لافتة، سيطرت بعد يومين من إعلان الانفصال على مدينة عتق، لتواصل قوات «محور عدن» - في الاتجاه الآخر - تقدمها حتى مدينة الحوطة، وقوات «محور البيضاء أبين» تقدمها حتى «نقطة العلم»، ليعلن ناطق صنعاء العسكري بـ «أن الكثير من الأهداف العسكرية في عدن باتت تحت مرمى قذائفهم».

 

أطلق «صالح» لشعر ذقنه العنان، تماماً كما فعلها - فيما بعد - أثناء تحالفه مع «الحوثيين»، وتمكينهم من مفاصل الجيش والدولة، وكان دائماً ما يردد بأنَّه يُحارب «دفاعاً عن الوحدة والعقيدة»، وأذاعت وسائل إعلامه الرسمية أوامره بقصف «مصنع صيرة للكحوليات»؛ ليُثبت للرأي العام المحلي بأنَّ معركته دفاعاً عن الدين، ومن أجل إزالة المنكرات، فما كان من عبدالرحمن الجفري - نائب الرئيس الجنوبي ـ إلا أن أصدر قبل انتهاء الحرب بيومين قراراً باسم «البيض»، نص على إقفال محلات بيع الخمور، ومنع تداولها وتعاطيها؛ علَّه بذلك يخفف من حدة الهجوم على مدينة عدن، ولو أنه أصدر ذلك القرار مُبكراً؛ لفوت على الطرف الآخر فرصة استغلال الدين في تحقيق مآرب دنيوية.

 

.. يتبع


Create Account



Log In Your Account