إتفاق بلا عهد
الأربعاء 26 يونيو ,2019 الساعة: 01:35 مساءً

في اليوم التالي «21 فبراير 1994م»، وأحبار من وقعوا «وثيقة العهد والاتفاق» لم تَجف بعد، بدأت المدافع في محافظة أبين تتبادل القصف بين قوات «لواء العمالقة - الشمالي»، وقوات «لواء مدرم - الجنوبي»، الأمر الذي دفع «الحزب الاشتراكي» لتعزيز وجوده العسكري هناك بإرسال ثلاثة ألوية، لتنجح اللجنة العسكرية بإيقاف تلك المواجهات بعد ساعتين من اندلاعها، فيما ظلت أصابع طرفي الصراع على الزناد؛ استعداداً لما هو أسوأ.

لم يكد ذلك الأسبوع ينتهي حتى اشتعلت المواجهات في مديرية «حرف سفيان» من جديد «27 فبراير 1994م»، وذلك بين قوات موالية لـ «البيض» مسنودة بلفيف من أبناء المنطقة «الإماميين»، وأخرى موالية لـ «صالح»، وجميعها مُنضوية ضمن إطار «اللواء الخامس مُشاة» التابع لـ «الفرقة الأولى مدرع»، وقد انتهت تلك المواجهات بسقوط «75» بين قتيل وجريح من الجانبين.

لبس «صالح» بزته العسكرية؛ وأثار بذلك غضب حلفائه قبل أعدائه، وقد كان الشيخ مجاهد أبو شوارب من جُملة أولئك المُستائين، ساهم - من قبل ومن بعد - في تقريب وجهات النظر، ونزع فتيل الانفجار، داعياً إلى مُغادرة النائب والرئيس السلطة، ليتهمه الأخير بأنَّه يطمح بالحلول محله، لم تتوقف - رغم ذلك - رحلاته المكوكية ما بين صنعاء وعدن، ليفقد الأمل في النهاية؛ خاصة وقرار الحرب قد اتخذ مُسبقاً، وكم كان «الشيخ الحاشدي» صادقاً في توصيفه حين شبه «لقاء عَمَّان» بالمواجهة الأخيرة التي تسبق الطلاق وفك الشراكة.

قرر «أبو شوارب» ورفيقه «شيخ بكيل» سنان أبو لحوم مُغادرة البلاد، وأصدرا بيانهما الشهير «2 مارس 1994م»، حملا فيه «صالح» مسؤولية الأزمة ضمنياً، ليصف الشيخ الأحمر تصرفهما بـ «الأحمق»، ومما جاء في ذلك البيان: «وحرصاً منا على سلامة البلاد؛ فقد بذلنا جُهوداً مُتواصلة بعد الفضيحة النكراء التي جرت في الأردن الشقيق، بعد ساعات من الفرح والابتهاج بتوقيع وثيقة العهد والاتفاق.. تأكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ المسار والمخطط له يسير في طريق الانفصال.. وإننا نناشد قواتنا المُسلحة الباسلة عدم الانسياق في أي عمل يؤدي إلى سفك دماء أباءهم وإخوانهم وأبنائهم من أجل مصالح أشخاص أو أحزاب».


كثيرون هم من تبنوا خيار «أبو شوارب» و«أبو لحوم»؛ خاصة في الجزئية المُتصلة بـ «وأد الحرب»، كان بعضهم من أعضاء «المؤتمر» و«الإصلاح»، وغالبيتهم من أعضاء «الحزب الاشتراكي»، لتبدأ - تبعاً لذلك - سلسلة من الاعتصامات الجماعية في كلاٍ من صنعاء وعدن وتعز والحديدة، وكان غاية مطلب المُعتصمين تنفيذ «وثيقة العهد والاتفاق»، وذلك بالتزامن مع حدوث مؤتمرات ومناظرات سياسية ومسيرات سلمية تحث المسؤولين على اجتناب العنف، والمحافظة على الوحدة.

وعن تلك التطورات قال عبدالولي الشميري: «لقد كانت حركة الاعتصامات من كلا الطرفين ترمي إلى إدانة الطرف الآخر، بأنه مُتهرب من تنفيذ وثيقة العهد والاتفاق، وتحمله مسؤولية المماطلة، وتبرزه داخلياً وخارجياً بمظهر المخطئ المُتعنت، فلما اختلط الحابل بالنابل، وصارت الاعتصامات أغنية يرقص على إيقاعها الطرفان؛ ملَّ المعتصمون ويئسوا من جدواها».

عادت بعد ذلك «لجنة الحوار» لتمارس دورها، وذلك بالتزامن مع عودة المُناكفات الإعلامية، والاستعدادات العسكرية - بين الجانبين - لسابق عهدها، وحين ارتفعت وتيرتها؛ وكان الوضع مهيأ في أي لحظة للانفجار؛ طلب «البيض» من السلطان قابوس بن سعيد التدخل، تدخل الأخير، والتقى «صالح» و«البيض» في صلالة «5 إبريل 1994م»، واتفق الرجلان - في لقاء مُغلق - على أن تلتقي شخصيات من الطرفين لإصدار بيان مُشترك، يتضمن التفاهم على «وأد الحرب»؛ عبر إعادة عمل اللجنة المُشتركة لتلافي أي احتكاكات بين القوات العسكرية المُتجاورة.

تشكلت لجنة ثنائية من الطرفين، مثلَّ فيها «صالح» عبدالكريم الإرياني، وعبدالوهاب الآنسي، ومثلَّ «البيض» صالح أحمد عبيد، وياسين سعيد نعمان، وحين اقترح الأخير صياغة البيان المُشترك، رفض «الإرياني» و«الآنسي» الفكرة من أساسها، ومما قاله الأول أنَّه لا علم له بالأمر، مُصرحاً لجريدة «المصور» المصرية: «ولي الشرف أنني كنت سبباً رئيسياً في إفشال ذلك اللقاء»، - يقصد «لقاء صلالة» - أما الأخير فقد اعتبر المسألة من قبيل التآمر ضد حزبه، وفسر ذلك - فيما بعد - بأنَّ «المؤتمر» و«الاشتراكي» عقدا صفقة سرية لإعادة تقاسم السلطة، وإبعاد «الإصلاح»، وهكذا انفض الاجتماع بدون أن يخرج بنتيجة. 

انفجر الموقف بعد ذلك في مدينة ذمار «8 إبريل 1994م»، وذلك بين معسكر «باصهيب الميكانيكي - جنوبي» وقوات «الحرس الجمهوري - شمالي»، واستمرت المواجهات لمدة ساعتين تقريباً، ولولا تدخل اللجنة العسكرية المُشتركة لتحولت تلك التحرشات الاستفزازية إلى معركة شاملة لا تبقي ولا تذر.

ناشد المثقفون والكتاب العرب طرفي الصراع لـ «وأد الحرب»، وكتبوا المقالات الداعية لذلك، وهذا فهمي هويدي كتب مقالاً عنونه بـ «وحدة اليمن لا تقوم على جثة شعبه»، جاء فيه: «يتعين استبعاد الخيار العسكري فوراً، لتكلفته الباهظة أولاً، ولأنه من شأنه إطالة أمد الحرب ثانياً، حيث القوتان مُتعادلتان تقريباً من الناحية العسكرية، ومن ناحية ثالثة فإن ذلك قد يفتح الباب لاستدراج القبائل للمشاركة في الصراع، الأمر الذي يهدد بتوسيع نطاق الحرب وإشعال الحريق في البلادِ كلها».   

وكتب عثمان ميرغني مقالاً عنونه بـ «بناء الثقة قبل بناء الوحدة»، نقتطف منه: «الوحدة اليمنية بشكلها الحالي فشلت في امتحان التطبيق مثلما فشلت في تحقيق المناخ المناسب لنموها شعبياً، والأفضل الآن اتخاذ إجراءات سريعة لفصل القوات، وتبني نهج فيدرالي أو حتى كونفدرالي في الحكم، بحيث يمهد كل ذلك لتدابير أخرى تساعد في بناء جسور الثقة، والبناء عليها تدريجياً وصولاً إلى وحدة حقيقية، لا وحدة شعارات أو مزايدات سياسية».

بُحت حينها أصوات أطراف الوساطة العربية مُجتمعة «الأردن، عُمان، مصر، الإمارات» وهي تناشد «صالح» أن يلتزم المنطق، وأن يسير في طريق «وثيقة العهد والاتفاق»؛ كي يجنب البلاد مخاطر الحرب والدمار، وقد تعهد الأخير بالفعل بعدم اللجوء إلى الخيار العسكري مهما كانت الأسباب، ولأن تلك الأطراف اكتفت بالمناشدة عن بُعد، ولم تضغط على الجميع بما فيه الكفاية، عادت المواجهات لتشتعل من جديد.
     
ألقى الرئيس خطاباً نارياً من ميدان السبعين «27 إبريل 1994م»، أسمى فيه مُعارضيه الجنوبيين بـ «الانفصاليين»، ودعا إلى تشكيل لجان شعبية في كل المحافظات والمديريات والأحياء للدفاع عن الوحدة، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأنَّ «صالح» لن يتمكن من تحقيق نصر سريع وحاسم في حال تجرأ وأشعل الحرب.
      
بعد ساعات من إلقاء ذلك الخطاب، انفجر الموقف في مدينة عمران، وحصلت معارك دموية استمرت لأكثر من «19» ساعة، وذلك بين قوات «اللواء الأول مدرع - شمالي»، بقيادة العقيد حميد القشيبي، والمدعوم بقواتٍ من «الحرس الجمهوري»، و«الأمن المركزي»، وبين قوات «اللواء الثالث مدرع - جنوبي»، - أحد الألوية التي حسمت أحداث يناير لصالح «البيض» بقيادة هيثم قاسم - وكانت المُحصلة من الجانبين «73» قتيل، و«113» جريح غالبيتهم شماليين، وتدمير «200» دبابة وعربة مُدرعة.
     
وكان الشيخ الأحمر قد سبق «صالح» بتصريحات مُستفزة أدلى بها في مقيل عام حضره عدد كبير من أنصاره، وصف فيه «الحزب الاشتراكي» بالكافر والمُلحد، وأكد أنَّ الفرز الحاصل في اليمن أثبت لهم سهولة التخلص من ذات الحزب، وأنَّ قلوب المُجاهدين المسلمين تهفوا إلى اليمن للظفر بالشهادة في معارك الإسلام ضد العلمانية، مُعتبراً أن الوحدة أعادت الفرع إلى الأصل، والجزء إلى الكل، والابن الضال إلى أبيه الشرعي.
     
لا يمكننا الجزم أو الخوض في تفاصيل مبادئة طرفي الصراع، سواءً في «أبين أو حرف سفيان أو ذمار أو عمران»، كونه «ورقة خفية» من مهازل التآمر السياسي المحفور بعناية في تاريخنا وواقعنا المأزوم، ونتيجة حتمية لفشل الصيغة السياسية السرية التي صنعت الوحدة المأزق، ومن حقنا أن نتسأل: هل «الحزب الاشتراكي» المُنتصر لحظتها من خلال «وثيقة العهد والاتفاق» أحمق ليجازف بنسفها، أم أنَّ المُستفيد طرف آخر نعرفه جيداً؟!.
----
مقال خاص بالحرف 28


Create Account



Log In Your Account