الابن الضال
الثلاثاء 18 يونيو ,2019 الساعة: 09:44 مساءً

بعد قيامه برحلة علاجية إلى الولايات المُتحدة الأمريكية، وزيارتين سريعتين إلى كلٍ من فرنسا والأردن، عاد علي سالم البيض إلى عدن «19 أغسطس 1993م»، وفيها آثر الاعتكاف للمرة الثالثة خلال أقل من عام، ليُقدم في مُنتصف الشهر التالي مشروعاً إصلاحياً من «18» نقطة، تجاوز من خلالها الواقع بمسافات كبيرة، مُعلناً بدء الأزمة الحقيقة بين شركاء الوحدة، وهي من عُرفت بـ «الأزمة الثالثة».

    

في شهادته على تلك المرحلة قال جار الله عمر أنَّ الناس تجاوبوا حينها مع «الحزب الاشتراكي»؛ لأن النقاط الـ «18» قد نجحت في مُخاطبة وجدانهم، وألمحت الى مصالحهم الحقيقية المُفتقدة، كما تضمنت مُقترحات للكيفية التي يمكن بواسطتها حل العديد من التناقضات الاجتماعية والسياسية المزمنة، التي ظلت تتراكم عقوداً من الزمن، وتكبت بالقوة المَرَّة تلو الأخرى، وهكذا تحول الصراع - حد وصفه - إلى صراع على قضايا اليمن، وبناء الدولة، وليس اختلافاً على اقتسام الغنيمة، وتوزيع المناصب الوزارية.

 

تقمص «التجمع اليمني للإصلاح» - هذه المرة - دور المُصلح، عمل في البداية على إخمـاد مواضع الانفجار، مـع ميل خفي نحـو «صالح»، ليتحول فيما بعد إلى تابع مُطيع لهذا الأخيـر؛ بدليل تحميل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وعبدالوهاب الآنسي «الحزب الاشتراكي» وحده مُسؤولية افتعال الأزمة، رغم أنَّ أكثر من «150» من كوادر «الحزب» تعرضوا خلال العامين السابقين للاغتيال، دون أن تُفصح الجهات الأمنية عن أي غريم.  

 

كانت حينها رؤية «عودة الفرع للأصل» لا تزال مُسيطرة على الزعامات القبلية التي كانت وما تزال تلعب دور المُصلح التقليدي، وهو الدور الذي غاب وغُيب لحظتها، ما جعل قيادات «الحزب الاشتراكي» تشعر أنَّ دورها أصبح ثانوياً، وأنَّ هناك استعجالاً ورغبة جامحة في إخراجهم  من الحلبة، خاصة بعد أن قام حزبي «المؤتمر» و«الإصلاح» بإجراء تعديلات دستورية انفرادية، أو بمعنى أصح استفزازية، انتقصت من قيمة «البيض» كشريك رئيسي في تحقيق الوحدة، وساهمت في تأجيج الموقف، وحينما طرح سالم صالح محمد «الفيدرالية» كحل ناجع لإنهاء الأزمة، جوبه بحملة شعواء من قبل الطرف الأكثر تسلطاً.

 

كان الغرض من تلك التعديلات حسب رؤية الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر اعتبار «البيض» خارجاً على الشرعية الدستورية؛ ليصح بعد ذلك ردعه بالوسائل العسكرية، وهكذا تعمق الشرخ، وضاعت من جديد فرصة التفاهم، وصارت الاتهامات المدوية بين الفريقين حديث الناس والمجالس، ومحور اهتمام الأعداء قبل الأصدقاء، وإذا بهتافي الأمس، وراقصي البارحة يندبون حظ اليمن التعس، ومأزق الوحـدة المُتفجر، ويتناقلون الحديث عن التشطير القادم لا محالة، وكأنه نتيجة مَقطوعة عن أسبابها، ومولود غير شرعي لفراش الوحدة البائس.

 

صمَّ «صالح» أذنيه عن طبول الحرب مؤقتاً، وقرر أن يناور كعادته، انصاع إلى مطالب الأغلبية بحل الأزمة سلمياً، لتتشكل - تبعاً لذلك - لجنة حوار من جميع الأطياف، تسلمت جميع أوراق القضية، استمر عملها قرابة شهر، وعقدت «11» اجتماعاً، وذلك بالتزامن مع حدوث احتكاكات عسكرية بين طرفي الصراع، واستمرار عمليات اغتيال جنوبيين، مثل مُحاولة اغتيال أولاد «البيض» في عدن، ومَقتل أولاد أخته في ذات الحادثة؛ الأمر الذي خدم «الحزب الاشتراكي» في موقفه، وأدى إلى استدعاء وساطة «عُمانية - أردنية»، وتشكيل لجنة عسكرية من الطرفين بمشاركة الوسيطين، والمُلحقين العسكريين الأمريكي والفرنسي، الأخير ممثلاً للاتحاد الأوربي.

 

كان لبقاء حيدر أبو بكر العطاس - رئيس مجلس الوزراء - في صنعاء، واستمراره في تسيير أعمال الحكومة في تلك الأجواء المُفعمة بالريب، أثره الإيجابي على الرأي العام الداخلي والخارجي، وهو أمر عده جار الله عمر «تعبيراً عملياً عن سياسة الحزب الاشتراكي اليمني في الإبقاء على أكبر قدر ممكن من الروابط الوحدوية، وعدم خلق الأسباب التي تؤدي الى القطيعة وفشل الحوار».

 

لم يدم بقاء «العطاس» في صنعاء كثيراً؛ غادرها بعد أن تم الاعتداء على موكبه في مدخل ذات المدينة «17 ديسمبر 1993م»، وذلك من قبل بعض أطقم «الشرطة العسكرية»؛ ليوجه «الحزب الاشتراكي» اتهاماً إلى «قوات الأمن» - التي كانت تحت قيادة محمد عبدالله صالح «شقيق الرئيس» - بأنها لجأت مُتعمدة إلى استخدام تكتيك الترهيب والاستفزاز لدفع «الحزب» إلى اتخاذ موقف انفصالي، عقدَّت تلك الحادثة المشهد، إلا أنها لم توقف الحوار.

 

وقد علق جار الله عمر على تلك التطورات قائلاً: «وقد وفرت هذه التطورات والأفعال الشروط الضرورية للانتقال بالحوار السياسي وبالأزمة ذاتها الى المحطة الثالثة الأكثر أهمية وعمقاً، والتي شهدت صياغة وثيقة العهد والاتفاق في ظروف بدت أكثر توازناً وأكثر مؤاتاة للحوار الموضوعي العقلاني، واضطرار المؤتمر والإصلاح للتخلي عن مناوراتهما، والكف عن اختزال الأزمة بالخلاف بين الرئيس والنائب، أو بين الحزب والمؤتمر، والاعتراف بطابعها الوطني العام، وأنَّ لها ما يكفي من الأسباب الموضوعية التي ينبغي الاعتراف بها وتشخيصها بصورة واقعية، تمهيداً للبحث عن اقتراحات وحلول عملية تخرج البلاد من هذه الأزمة، وعدم الإبقاء على الأسباب التي من شأنها ان تنتج أزمات أخرى في المستقبل».

 

ظلت الاتهامات المُتبادلة - رغم استمرار الحوار - حاضرة وبقوة، تناولتها وسائل إعلام الطرفين بصورة مُبالغ فيها، تارة اُتهم هذا الفريق باستخدام خبراء عراقيين، واستيراد أسلحة كيماوية، وإجراء تدريبات مُكثفة لقواته العسكرية استعداداً للانقضاض على الجنوب، وتارة اُتهم الفريق الآخر باستقدام خبراء روس، واستيراد أسلحة وطائرات وأدوات تجسس استعداداً للانفصال عن الشمال، وغيرها الكثير. صحيح أنَّ بعضاً من تلك الاتهامات كانت حقيقية، إلا أنَّ الإشاعة المُظللة كانت سيدة الموقف، فيما تاهت الحقيقة بين هذا الاتهام وذاك.

 

كان «حُكام صنعاء» سباقون بالتهدئة الإعلامية؛ ظلوا يترقبون عودة على سالم البيض - «الابن الضال» حد توصيف أحدهم - للتوقيع على «وثيقة العهد والاتفاق» - خُلاصة ما توصلت إليه لجنة الحوار السابق تشكيلها - وحين لم يعد؛ ذهبوا إلى الأردن، ووقعوا على بنودها «20 فبراير 1994م»، بعد تلكؤ شديد من قبلهم، وإصرار كبير من قبل «الحزب الاشتراكي»، تبادل الطرفان أثناء مراسم التوقيع الاتهامات، وغادرا عَمَّان بروح مشحونة، وعداء أشد، وحقد أعمق، وعادا بعد زيارات محدودة لبعض دول الجوار كلا إلى عاصمته.

 

قبل عودته إلى عدن، قام «البيض» بزيارة السعودية، وحظي هناك باستقبال رسمي حافل من قبل الملك فهد بن عبدالعزيز وعدد من أفراد الأسرة الحاكمة، الأمر الذي جعل «صالح» يتهمه بأنَّه استلم ثمن تلك الأزمة من الخارج، في إشارة إلى المملكة، الجارة المُتسلطة التي كانت قد تخلت عن عملائها الشماليين، وعملت خلال الثلاثة الأعوام الفائتة على استمالة بعض «القيادات الجنوبية»، وتحفيزها تدريجياً لإعلان الانفصال، ولولا ذلك التدخل السافر لما وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه.

 

تحمس «البيض» لـ «وثيقة العهد والاتفاق» أكثر من غيره، واعتبرها بمثابة انتصار له؛ كونها ارتكزت على بعض النقاط الـ «18» الطموحة التي سبق وقدمها، وقال عنها: «الوثيقة تحمل مضامين فيدرالية، لكن من موقعي كطرف سار إلى الوحدة الاندماجية وتحمس لها أكثر من الرئيس علي عبدالله، لا أستطيع أن أتراجع عنها؛ لأنها صارت ملك الناس، ولم تعد ملكاً لصانعها.. وعلى رغم قناعتي أنَّ الحرب آتية، وسوف تشن باسم الحفاظ على الوحدة، فإن الوحدة بالنسبة لي تشكل قضية مُقدسة لا يمكن المساس بها، ومن موقعي كشخص في قمة المسئولية فإني على استعداد للاستقالة والانسحاب؛ شريطة أن نحفظ المشروع الوحدوي، ونصونه من عبث العابثين والمُتسلطين».

 

 

رغم التباينات التي اكتنفت بعض أعضاء «الحزب الاشتراكي» حول «الوثيقة» وطريقة تنفيذها، على اعتبار «أنها لم تعالج مُشكلة الوحدة، وإنما عالجت أزمة السلطة ومُستقبل السلطة في البلاد»، فقد استفاد «الحزب» منها استفادة كبيرة، حيث استطاع تجاوز البرلمان الذي لا وجود له مؤثر فيه، كما وضع كافة شروطه ومطالبه التي تضمن له النفوذ والبقاء في السلطة، سواءً أكان ذلك عن طريق تجريد الرئيس من كثير من مهامه وإعطائها لرئيس الوزراء، أو عن طريق فرض «نظام اللامركزية»، وتجريد الطرف الآخر من أبرز وسائل قوته، بإخراج وحدات الجيش من المدن، وإلغاء وزارة الإعلام، وتقليص صلاحيات البرلمان بإنشاء مجلس للشورى يختار أعضاؤه من أبناء المحافظات بالتساوي، كما أبرز بعض القضايا التي تخدمه في صراعه، كالجانب الأمني، ومنع حيازة السلاح، والعمل على إنهاء الوجود المُسلح غير الرسمي، في إشارة إلى أسلحة القبائل، ومحاربة التطرف والإرهاب كبند أول من بنودها.

 

كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر من جُملة المُوقعين على تلك «الوثيقة»، واشترط أمام توقيعه على «إنهاء الأزمة، وعودة المسؤولين عليها»، رغم أنَّ تلك العودة مرهونة بتنفيذ شقها الأمني، واعتقال مُرتكبي الاغتيالات السياسية التي استهدفت مُسئولي «الحزب الاشتراكي» وعناصره، والأدهى والأمر من ذلك أنَّه اعتبرها - أي «الوثيقة» - بأنها أسوأ من الانفصال، وأن تطبيقها سيؤدي إلى تمزيق اليمن، وتحيلها إلى كيانات هزيلة ومُنفصلة عن مركز الدولة الأم.

 

علق «البيض» على دعوات عودته إلى صنعاء قائلاً: «خلال ستة أشهر هززنا البلاد وتركناها تعيش على أعصابها، وليس من المنطقي النظر للمسألة من زاوية تبسيطية، لأن البلاد لم تعد تحتمل الخلافات، فبالأمس كانوا يقولون أين الأزمة؟ ثم اعترفوا بها، وجاءت الوثيقة لتشخصها، والآن يشترطون العودة إلى صنعاء، إلى أين نعود؟ إلى بيت الطاعة»، وأضاف: «نؤسس العقد الجديد معاً بطرق وخطوات نتفق عليها، وربما احتاج الوضع إلى تنفيذ تدريجي، وتطبيع تدريجي».

 

كل المُؤشرات حينها كانت تؤكد أنَّ الحرب قادمة لا محالة؛ فـ «صالح» لم يكن قادراً على تنفيذ «الوثيقة»؛ كونها في اعتقاده تهدف إلى تفكيك قواه، وخلق صراع بينه وبين حلفائه، في حين بدأ «البيض» وقلة من أعضاء «الحزب الاشتراكي» يمهدون للانفصال، بدعم وتحفيز كبيرين من قبل السعودية وبعض دول الخليج؛ بذرائع واهية، منها استحالة التعايش مع القوى السياسية في الشمال، وأنَّ الاستمرار في الوحدة الاندماجية سيؤدي إلى التخلص منهم نهائياً.

 

وأختم هه الجزئية بالقول: للسياسة رجالها، ولم يكن «البيض» يوماً من مُجيديها، ولا من مُدركي ألاعيبها، كان عاطفياً حدَّ السذاجة، وأي ريح سموم وافدة كانت تَهُزُ كيانه، وتقلب مَداركه رأساً على عقب، وهي النافذة التي تسلل منها «اللاعب الخارجي»، واستغلها عبر أذرعه المعروفة بذكاء، صحيح أنَّه - أقصد اللاعب - استفاد منها لبعض الوقت، إلا أنَّ الاستفادة الكبيرة كانت من نصيب «صالح»، الذي صار يزبد ويرعد ويتوعد، ويُقدم نفسه صباح مساء بأنه «حامي الوحدة»، وحارسها الأمين، وبأنَّه مستعد لأن يقدم للدفاع عنها قوافل من الشهداء.

 

وفي المُقابل كان «البيض» مُتناقضاً للغاية، يظهر كـ «وحدوي» أمام أصدقاءه الوحدويين، وكـ «انفصالي» أمام أصدقاءه الانفصاليين، ولو أنَّ الفريق الأول حدَّ من تواصله مع الأخيرين «عملاء السعودية»، أمثال عبدالله عبدالمجيد الأصنج، وعبدالرحمن الجفري، وأحمد بن فريد الصريمة؛ لما تزحزح عن موقفه الوحدوي قيد أنملة، ولما ركب حصان «آل سعود» الخاسر، ولما خسر المعركة سياسياً، ثم عسكرياً، ولما انتهى به الأمر منفياً خارج وطنٍ قَدَّم لأجله الكثير.


Create Account



Log In Your Account