نزهة الكلب.. الروائي الذي بدأ من القمة
الأحد 16 يونيو ,2019 الساعة: 08:29 مساءً
محمد أحمد عثمان *

هنالك روائيون يبدأون مسيرتهم الإبداعية بأعمال عادية ثم ما يلبثون يتدرجون على سلم الفن نحو قمم عالية. وهنالك آخرون يبدأون من قمة عالية ثم لا يسهل عليهم بعد ذلك /أو قد يسهل/ أن يجدوا قمما أرفع يعتلونها!
لدي أكثر من سبب يدعوني إلى الإعتقاد بأن رواية "نزهة الكلب" هي من النوع الأخير.

هنالك أيضا نوعان من الروائيين، روائيون منشغلون بتتبع أخبار الجوائز وآخرون منشغلون بكتابة روايات جيدة.

يقال أن الكاتب الأمريكي ادجار آلن بو صاحب قصيدة "الغراب" أطلق تحد للأدباء في زمنه: من يقدر أن يكتب كتابا ويجدر بهذا الكتاب أن يحمل عنوان "قلبي العاري"؟ وبالفعل فقد بادر هو نفسه إلى كتابة كتاب أعطاه العنوان ذاته: قلبي عاريا!
للعلم فإن مترجم أدجار آلن بو إلى الفرنسية هو شارل بودلير ويقال إن هذا الأخير ألف ديوانه الشهير "أزهار الشر" كرد على التحدي الذي أطلقه الأول. ذلك يعني ان "أزهار الشر" هو "قلبي العاري" الخاص ببودلير.
على نفس المنوال يمكنني أن أقول أن "نزهة الكلب" -سواء قصد كاتبها أم لم يقصد- هي "قلبي العاري" الخاص بريان الشيباني. وذلك لما تحتويه هذه الرواية من نزوع إلى التعبير العاري عن تجربة الكاتب الشخصية في أثناء الحرب الأخيرة.

حينما دخلت إلى دار أروقة للنشر للمرة الاولى، كان أول شيء لفت انتباهي منظر الجدران المغطاة بالكتب. كان معظمها وربما أجودها قد صدر في سنوات الحرب الأخيرة حيث ما من فرصة لوصولها إلى الداخل اليمني المحاصر حيث أعيش. ولا أخفي عليكم أن مجرد التفكير بأن كل هذا الكم من الكتب قد فاتني أمر اصابني بالإحباط. لذا فما أن وقعت نظراتي على الرفوف المغطاة بالكتب حتى هتفت على مسامع الحاضرين:
_ كم هي عدد الكتب التي لم أقرأها!
على غرار هتاف سقراط عقب دخوله أحد المتاجر:
_ كم هي عدد السلع التي لا أحتاجها!
كان دافع سقراط زهديا بالطبع أما دافعي فقد كان على العكس: نهم الكتب!
طبعا مش كل الكتب محل اهتمام المرء
ولا كل الكتب اللي محل اهتمام المرء جديرة بان تقرأ!
في زيارتي الثانية أو الثالثة وقعت نظراتي على كتاب "نزهة الكلب" وكان يستلقي بدعة على احد الأكداس. ولا ادري لما بدا لي العنوان واسم المؤلف (ربما بسبب معرفتي بالمؤلف شخصيا) مشدودان إلى بعضهما بحميمية مثل كلب وصاحبه في بلد أوربي. تناولت الرواية قائلا لنفسي هاهي ذي رواية مؤلفها لا يهتم بتتبع أخبار الجوائز وأستأذنت مدير الدار لأخذها.
كما سيجيء في الحوار الذي يدور في إحدى صفحات الرواية بين سالم الريح (كنية الشخصية الرئيسية للرواية لأن اسمه الفعلي هو بسام) و"الكبير" (كنية رب العمل الذي كان سالم الريح يعمل لديه) ينحدرعنوان الرواية "نزهة الكلب" من المنطوق الموارب "خذ كلبك في نزهة!" الذي جرت العادة في بعض البلدان (لعلها الأوروبية) أن يقوله صاحب العمل لمستخدمه إذا ما أراد صاحب العمل أن يسرح الأخير من عمله.

تحكي الرواية المصير المؤلم الذي آل إليه "سالم الريح" (نموذج لمصير الآلاف إن لم يكن الملايين من اليمنيين أثناء الحرب الحالية). وسالم الريح هو صحفي وفنان تشكيلي. كان لديه قبل الحرب أسرة وعمل.
على خلفية الحرب جرى تسريحه من عمله. ومنذ ذاك تبدأ مسيرة انحداره السريع نحو الجوع والتشرد والضياع، عبر سلسلة طويلة من المواقف الفنتازية وعبر محطات متتالية من انهيار العائلة وتمزق روابط الصداقة والطرد من الشقة والاستثمار المجحف لأعماله الفنية (إلى جانب كونه صحفيا فهو فنان تشكيلي) من قبل مؤسسات لا يكلف أصحابها أنفسهم سؤال الفنان عما إذا كان لديه في جيبه أجرة الاوتوبيس، واللجوء إلى كتاب "الجفر" لتفسير بعض المسائل المستعصية على العقل الذي انهكته الحرب.

والتردد على مجالس المهدي المنتظر وجلسات التحشيش ليجد نفسه أخيرا يعمل ممرضا خاصا في منزل أحد العجائز.

ويجري وصف كل ذلك (وهذا المهم في رأي) بلغة خاصة طازجة وصادمة، لغة تتراوح بين المرارة والتهكم المثيران للضحك والبكاء في آن. ناهيك عن المفارقات المبكية المضحكة التي تتضمنها الرواية من قبيل رسالة الحب التي يستلمها سالم الريح من ساكنة الشقة المجاورة لشقته في نفس الليلة التي يطرد فيها من شقته، أو صيغة التهذيب "أي خدمات؟" التي يقولها المالك له بعد ان ينتهي من طرده من الشقة مباشرة.
ما المثير للاهتمام في هذه الرواية أيضا؟
ما الجديد وغير المألوف الذي تضيفه؟

يمكنني من وجهة نظر معينة أن أميز اتجاهين في الرواية اليمنية التي تكتب اليوم. الأول روايات مهجوسة بكتابة الذات، ذات الكاتب وتجربته الخاصة. والنوع الثاني مهجوس بكتابة أشياء تتجاوز هذه الذات، كأن تكون أشياء مستمدة من التاريخ أو من جغرافيات أخرى غير الجغرافيا التي يقيم عليها الكاتب أو من تجارب متخيلة لا تنتمي لواقع الكاتب الخاص.
معظم نتاجات السنوات الأخيرة ينتمي إلى النوع الثاني. وقليلا ما تجد رواية يمنية هي انعكاس لاستغراق صاحبها في تجربته الخاصة وتأملها. وهذا الأمر ليس عيبا في ذاته. إذ أن كثير من الأعمال الجيدة تنتمي لهذا النوع. لكن بشرط أن يكون الكاتب قد أشبع موضوع روايته تخيلا واحتضانا ومعايشة داخلية قبل أن ينزلها على الورق وهو ما لا يتوفر إلا لعدد قليل من الأعمال اليمنية المكتوبة تحت تأثير هذا المزاج.

رواية ريان تنتمي إلى النوع الأول. إنها نوع من كتابة الذات حتى إن كان السرد فيها بضمير الغائب. نوع من الخطاب الموجه من الذات إلى ذاتها أو في أبعد الحدود إلى أقرانها ممن يتقاسمون معها همومها وانشغالاتها الوجودية والجمالية. سواء كان ذلك من ناحية اللغة التي قلنا سابقا انها خاصة أو من ناحية الموضوعات المطروقة أو زاوية النظر الساخطة والمتهكمة من كل شيء. رواية ذات ممزقة ينفلت الزمن والأشياء من بين يديها فتدوم مثل ريشة في الفراغ الاجتماعي والنفسي للشخصية. أكثر من ذلك أن الذات في هذه الرواية تعيش ظرفا استثنائيا هو ظرف الحرب بما يرافقه من تمزق للروابط وتعري للخلائق. ظرف لم يعد يجدي معه لغة اللياقة المتواضع عليها. ولكن هل هناك أكثر نفاقا من ان تظل لائقا في واقع كل شيء فيه يدهسك. هل تقدر مثلا ان تحافظ على لياقتك مع مؤجر بعد أن ينتهي من طردك من مسكنك يقول لك:
_أية خدمات؟
حينئذ لست ملوما إن صرخت في وجهه أو بينك وبين نفسك كما فعل سالم الريح:
_ كس أمك يا ابن الكلب! 
--------
*قاص ومترجم يمني 
-نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك والعنوان بتصرف الموقع 


Create Account



Log In Your Account