هرولة بلا كوابح
الجمعة 14 يونيو ,2019 الساعة: 12:37 صباحاً

بعد مُقدمات خائبة، و«اتفاقية هشة» أبرمها الرئيسان علي عبدالله صالح، وعلي سالم البيض، تحققت الوحدة اليمنية ظهيرة يوم الثلاثاء «22 مايو 1990م»، بدت من الوهلة الأولى كمَخرج لـ «قيادة شمالية» طموحة تبحث عن برنامج يجمع الشعب حولها، ومَخرج لـ «قيادة جنوبية» مُنهكة، شارفت خزينها على الإفلاس، انحسرت شعاراتها وإنجازاتها مع تفكك منظومة داعميها، كان مأزقها أكبر بكثير من المأزق الآخر، فكانت هرولتها إلى الوحدة بلا كوابح.

ثمة عوامل كثيرة ساهمت في التعجيل بإعلان الوحدة اليمنية بستة أشهر عن المُدة المُتفق عليها، قيل بأن «البيض» هرب إليها خوفاً من أن يُطاح به من قبل بعض قيادات الحزب سلمياً، وقيل أنَّ قيادة الحزب هربت إليها خشيةً من قيام انقلاب عسكري مدعوماً من الخارج ضدها، وهي أمور نفاها سالم صالح محمد فيما بعد، حيث قال: «لم نكن نخشى الانقلاب من الجيش، فالجيش في الجنوب لم يدخل دوامة الانقلابات؛ لأنَّه شُكل على أساس وطني، ولم يكن يطمح بالسلطة، وما كنا نخشاه هو التآمر من قبل أطراف داخلية ليست راضية عن هذا المسار».
    
وما هو مؤكد أن ذلك التعجيل تمَّ بإيعاز من قبل الرئيس العراقي صدام حسين، الرجل الأقوى حينها، كانت علاقته مع «البيض» و«صالح» جيدة؛ بل أنَّ الأخير أرسل آلاف الجنود اليمنيين لدعمه في حربه مع إيران، وكان يُنعت بـ «صدام الصغير»، ليقع «صدام الكبير» بعد أقل من ثلاثة أشهر في مصيدة غزو الكويت، جاعلاً العرب قبل الغرب يسارعون للتخلص منه، وهي الأحداث التي أضرَّت دولة الوحدة الوليدة كثيراً.

كانت العراق أول دولة يزورها «صالح» و«البيض» معاً، وذلك لحضور «مؤتمر القمة العربية» في بغداد «28 مايو 1990م»، لم يرق للنائب - الذي كان إلى ما قبل ستة أيام رئيساً - البقاء خلف رئيس اليمن الموحد، كما هو العُرف الدبلوماسي السائد في هكذا مؤتمرات، وحين أدرك الرئيس تململه، ومحاولته الاقتراب بكرسيه إلى جانبه، أفسح له المجال على الفور، الأمر الذي أنبى بأنَّ الوفاق بين الرجلين لن يدوم طويلاً.

افتقر «شركاء الإنجاز» إلى حسن النية، والثقة بالآخر، ودخلا بعد أشهر عسل مَعدودة في صراع ليس «أيدلوجي» بقدر ما هو «مصلحي»؛ تاجروا من خلاله بأحلام البسطاء ومشاعرهم، وفصلوا الدولة على مقاساتهم، وكان همهم البقاء على رأسها، والتمتع بامتيازاتها، واستقطاب أكبر قدر ممكن من الأيادي النافذة خارجها، ظلت الوحدة - تبعاً لذلك - مَرهونة ببقائهم، وظل كل طرف يتربص بالأخر؛ بدليل عدم إدماج الجيشين، وسعي كل فريق إلى تعزيز قدراته العسكرية، وإلى تأمين دعم خارجي له، بما يشبه الاستعداد المُسبق لأي طارئ قد يزيح هذا الطرف أو ذاك، فكان الحال أشبه بـ «صراع الصبيان». 

أريد من الوحدة أن تكون مَدخلاً للتعددية السياسية والحزبية، إلا أنَّ النُخب الحاكمة لم تستطع أن تستوعب المـَرحلة الجديدة، أعاقت تطوير القوى السياسية المُستقلة، وأفسدت مُحاولات «المُجتمع المدني» الناشئ والمُتحفز للدخول إلى عالم السياسة بطريقة جدية؛ وفي ذات المنوال قال نصر طه مصطفى: «إن التوازن العسكري والتقاسم السياسي قد أفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها الحقيقي المُتمثل في بناء الدولة ومؤسساتها، حيث لا ديموقراطية من دون دولة مؤسسات، ولا دولة مؤسسات بلا ديموقراطية».   
    
وفي المقابل هناك من أكد أنَّ التعارض بين مُقومات الوحدة، والدوافع التي قامت على أساسها، وكذا اختيار النموذج الاندماجي دون التدرج في الوحدة الاقتصادية، والسياسية، والشعبية عاملان ساهما في جعل المشروع الطموح يتحول إلى أزمة عاصفة، حيث عجزت الدولة الوليدة عن دمج المؤسسات القائمة، وإقامة مؤسسات وحدوية فاعلة، وهنا يرى المفكر السياسي لطفي الخولي: أن الوحدة بتلك الصيغة كانت شكلية وهشة؛ لأن الحركة الشعبية في البلدين لم تكن قد استكملت بناء قواها ومؤسساتها السياسية الوحدوية بعد، وذهب أبعد من ذلك، واصفاً إياها بـ «أنها لم تكن فعلاً بل رد فعل، وأنها ظلت فوقية مَعزولة عن الواقع، وعندما حانت لحظة بلورة الوحدة ودولتها في حضن الجماهير، تصادمت مصالح الشخصيات والعصب الحاكمة».
    
ساهم ظهور «التجمع اليمني للإصلاح» في تأجيج ذلك الصراع «13 سبتمبر 1990م»، بدا الأخير كأنه صنيعة سلطوية؛ بدليل ذلك الايعاز الذى اكتنف لحظات تأسيسه الأولى من «صالح» إلى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر - حسب مُذكرات الأخير - بلم شتات الاسلامين في «حزب ديني» يكون رديفاً لـ «المؤتمر الشعبي العام»؛ وخاطبه حينها قائلاً: «نحن وإياكم لن نفترق، وسنكون كتلة واحدة». 

كان بعض أعضاء «الإصلاح» المُتشددين من المُعارضين لفكرة الوحدة من الأساس؛ رفضاً لـ «علمانية» الدولة، وخوفاً من سيطرة «الشيوعيين» على البلاد، قادوا مسيرات مُعارضة لذات المسار قبل إعلان الوحدة، وقادوا مسيرات صاخبة فيما بعد رافضة للمادة الثالثة من دستورها، واتسمت مواقفهم بـ «الغوغائية» المشوبة بالتزمت، واختلط الكفاح السياسي لديهم بالجهاد لأجل الدين، والدفاع عنه، وقيل أنَّ تحرك هذا الفريق تمَّ بدعم وإيعاز من قبل السعودية، الجارة التي لم تجرؤ حتى تلك اللحظة على تحويل معارضتها للوحدة إلى سياسة مُعلنة.

وقف «الإصلاح» حينها كحجر عثرة أمام تمدد «الحزب الاشتراكي» في المناطق الشمالية؛ ساعياً في ذات الوقت إلى مد نفوذه في المناطق الجنوبية، لتعمل المعارك الإعلامية بين الجانبين على تأكيد حتمية ذلك الصراع، بدت علاقاتهما وجودية أكثر مما هي تنافسية، وبدا للمراقبين أنَّ أحدهما لن يرتاح ويهدأ إلا بزوال الآخر.

استفاد «صالح» من ذلك الصراع، عمل بادئ الأمر على تأجيجه؛ رغم إظهاره لنفسه كمُصلح مُحايد، ليجد نفسه فجأة وسط تلك الدوامة، ولم يستطع رغم مكره ودهائه الخروج منها؛ لأنَّ خصمه هذه المرة - أقصد «البيض» - كان صادقاً عنيداً، وأحمقاً مُتسرعا، وأبسط الأشياء تُخرجه عن طوره، لم يعد يفرق بين صديقه وعدوه، ولم تنطلي علية ـ تبعاً لذلك - بعض الألاعيب.

كما عمل «صالح» على استقطاب المُعارضين السابقين لنظام الحكم في الجنوب، من أصحاب علي ناصر محمد، ومن أعضاء «رابطة أبناء الجنوب اليمني» الذين انشقوا عن «الجبهة القومية»، ومن السلاطين، ومن أعضاء «جبهة التحرير»، ومن رجال الأعمال الذين تضرروا من الإجراءات الاقتصادية كالتأميم، والإصلاح الزراعي، وبالفعل استقدم كثير منهم، وبدأ يجتمع بهم ويدفعهم للمُطالبة بأن يكونوا شركاء في الدولة المُقبلة، بحيث يبدوا «البيض» وحزبه بأنَّهم لا يمثلون الجنوب، تعمق الخلاف أكثر بين الرجلين، خاصة مع استمرار عمليات الاغتيال لبعض قيادات وكوادر «الحزب الاشتراكي»، وهو الأمر الذي إلى بروز ما سمي بـ «سياسة الاعتكاف».
    
كان «البيض» دائماً ما يلجأ في لحظة حنقه - المـُبرر، والغير مُبرر - إلى اعتزال الناس، والبقاء في منزله بصنعاء، لتأخذ تلك السياسة الجديدة التي انتهجها منحى تصعيدي آخر، خاصة بعد أن توجه إلى عدن «سبتمبر 1992م»، وآثر فيها الاستقرار قرابة «40» يوماً، مُلخصاً مَطالبه بـ «الوحدة والديموقراطية والحياة»، لا «الوحدة والموت»، لينهي اعتكافه ذاك بلقائه بـ «صالح» في مدينة الحديدة.
     
توجه «البيض» إلى الحديدة بموكب كبير قوامه «60» سيارة، الأمر الذي أغضب «صالح»، وأشعر المواطن العادي بفداحة ما بينهما من صراع، تدخل الوسطاء، وعاد الاثنان إلى صنعاء، النائب عبر طائرة خاصة، ليستقدم فور وصوله لواءً كاملاً لحمايته تحت مسمى «الحرس الخاص»، فيما سافر الرئيس براً عن طريق حجة، التقيا في منزل الأخير بـ «حي شعوب»، واتفقا على تمديد «الفترة الانتقالية» لخمسة أشهر، وعادا مُجدداً إلى عبارات الأخوة الأبدية، وما دار بينهما بعد «لقاء الحديدة» ظل - حسب توصيف «بول دريش» - لغزاً مُحيراً حتى بالنسبة للمسؤولين وذوي النفوذ أنفسهم.
     
لم يكد ذلك الصراع يهدأ حتى انفجر من جديد وبوتيرة اشد، خاصة بعد أحداث الشغب التي اجتاحت مدينة تعز وصنعاء والحديدة «9 – 10 ديسمبر 1992م»، والتي اثبتت أنَّ ثمة سخط كامن على السلطات الحاكمة، وعلى الرئيس تحديداً؛ بسبب الغلاء الفاحش، وانهيار العملة الوطنية أمام العُملة الصعبة، سقط خلال تلك الأحداث «15» قتيلاً، وأكثر من «280» جريح، وتضررت أملاك كثيرة لتجار ومواطنين، لا ناقة لهم في ذلك الصراع أو جمل.
     
قدم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات للوساطة، ولم يصل إلى نتيجة، لتخف حدة ذلك الخلاف بتوجه «صالح» لتعزية «البيض» بوفاة أخته، وكم كان الشيخ سنان أبو لحوم مُحقاً في توصيفه للرجلين، بـ « أنَّه لا يعرف أحد على أيش يختلفان، وعلى أيش يتفقان»، استغل «التجمع اليمني للإصلاح» تلك الأحداث، وعقد نهاية ذات الشهر مؤتمر «الوحدة والسلام»، تأكيداً لحضوره الجماهيري، واستعداداً لخوض الانتخابات القادمة.
     
بالتزامن مع اعتكاف «البيض» الثاني في مدينة عدن، والذي أخذ عدة أيام من مَطلع العام «1993م»، أعلن «الحزب الاشتراكي» عن تخوفه من الانتخابات المـُزمع إجراؤها، وبدأ في وضع شروطه التي تحفظ بقاءه في السلطة، رفض «المؤتمر الشعبي العام» تلك المطالب، واضعاً خيارين لا ثالث هما، إما اندماج الحزبين في حزبٍ واحد برئاسة «صالح»، وإما الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فكان الخيار الأخير.
      
انتهت «الفترة الانتقالية - الانتقامية» بحدوث الانتخابات التشريعية الأولى لدولة الوحدة «27 إبريل 1993م»، وهي انتخابات وصفتها مجلة «economist» بـ «الأكثر ديمقراطية في العالم العربي»، بلغ الصراع بعد إعلان نتيجتها مداه، أحس أحد شركاء الانجاز بهزيمة شبه مدوية أمام خيار «الديمقراطية» الذي كان محل رضاه، لتدخل منظومة الحكم مرحلة «ائتلاف ثلاثي» لم تدم طويلاً، برز فيها طرف ثالث تقليدي لم ينضج بعد، عادت «الايدلوجيا» لتطغى على «المصلحة»، وحضرت صراعات الماضي غير البعيد، وغابت الوحدة التي كانت حتى الأمس القريب «تَجبُ ما قبلها».
---------
مقال خاص للحرف 28


Create Account



Log In Your Account