الأصل هو الإنتحار
الجمعة 31 مايو ,2019 الساعة: 09:44 مساءً

فكرة الخلاص من الألم، ربما هي المزيد من الألم، ذلك أن الإمعان الرهيب بفكرة الخلاص، هو التعذيب المطلق، ونقيض ذلك، السلاسة والتجاهل للمنغصات، فلماذا عجز محمد عثمان دجيرة عن فكرة التجاوز وتخطي الآلام التى قادته الى تلك الفكرة المرعبة؟

 

التخلص من الحياة فكرة شجاعة حد الرعب، كفكرة مجردة دون الوصول الى الفعل، إنها إحدى أقصى درجات المواجهة مع الحياة، ليس جبانا من يواجه فكرة الزيف ووهم الأمل بالمقاطعة الكلية.

 

لكن الأكيد أن هذه ليست دعوة لتجاوز لعنة القرف الجمعي التي نعيشها، ومن البداهة الأولية أن ذاك فعل مُجرم شرعاً وإنسانيةً، إلا أن فلسفة الأمر مغرية لأنها تقود ولو جزئيا الى تلك المنطقة من النفس الخَبِيَة التي غالباً نحكامها بخفة ونتآله ونطلق الأحكام بالصواب والخطأ وبما هو فضيل وخطيئة، وكأن محمد دجيرة فكر في لحظة طيش وملل الذهاب في رحلة للموت.

 

لربما أن ذلك كان سيكون منطقيا لو أنا سمعنا أن ذلك حدث في منتجع وسبا "تاج إكزوتيكا" في جزر المالديف لأغميرة في فندق الشانزليزيه في باريس بعد أن أضاعت أو سرقت معظم مجوهراتها، منطقيا أن تلك الرفاه المعبأة بالفراغ تمنح الهشاشة مساحة للتصرف، وليس الانتحار إلا أكثر السلوكيات هشاشة في تلك الحالة، وهذا لا يناقض حالته الأولى عند ذروة الألم والصراعات الداخلية.

 

لكن أن يقدم شاب، الكفاح والطموح هو كل عدته، هنا يغدو الأمر جليلا وحزينا، ذلك أن هؤلاء الفئة من عامة الناس عدتهم في الحياة اليقين والإصرار والعزيمة، أشياء لا تهزمها طوارئ الحياة اليومية مثل انقطاع المنحة المالية للطالب والتي غالبا تذهب بالخطأ إلى أحد أبناء المسؤولين أو انتهاء إقامته والتي انشغل عنها القنصل والسفير بالفعاليات الشكلية أو متابعة تغريداته كأقصى واجب في دولة تعصف بها الحرب.

 

فأي لحظة رهيبة تلك التي بلغت ذروتها عند محمد حتي خارت عزيمتة؟!

 

أجزم يقينا أن الذل أحد عناوين تلك المأساة، الذل الإنساني يقتل الأحياء، أليس هناك في هذا الزمن اللعين للحكام الفاسدين الكثير من الجثث التي تسير على أقدامها، ما قتل محمد في الهند، الخوف من إيقاف البوليس، قتلته رحلة التخفي، قتله سؤال الكريم للئيم، قتله السفير والقنصل بإهمال الأغبياء وتوحش اللامبالاة.

 

إن هؤلاء، مَن قوتهم الإصرار والكفاح، تصبح المتلازمة الآخرى هي الكرامة جل رأسمالهم، وكل ما يملكون ولأجله يضحون ولو بالحياة ذاتها.

 

لا تفاصيل لحثييات التحقيق لانتحار محمد لدي، فلا شك ان هناك عوامل متداخلة، لكن صور الموت المعنوي التي تهدد حياة الملايين تمنح بعض التفسير المنطقي لشاب يمني قرر بكل تراجيديا الحياة إنهاء مأساتة الخاصة.

 

فأكثر من 80% حسب تصينف الأمم المتحدة يعايشون اوضاعًا مأساوية، وما صورة طفل من جلد وعظم تذوي روحه أمام نظر الأم إلا لحظة موت متبادلة تتوق فيها الام للخلاص، وما انقطاع الكهرباء وتعطل المستشفيات عن إسعاف نزيف حمل جراحه، ووصل كي يموت في إحدي غرف المستشفيات شحيحة التجهيز، إلا مواجهة قاسية للموت، ما أتخذ صحفي من البحر سبيلاً للهروب الى بلدان بلا حرب وبلا زعيم تخلي عن ناسه، فقتله البحر، إلا دمعة كبرياء عالقة بلا قرار.

 

ما أطفال بلا أطراف يسيرون الى المستقبل بالعجز والخذلان، إلا عارا لا يشعر به أحد ..

 

بلد معظم مواطنيه حياتهم اليومية هي انتحار جماعي، طاقة الظلم السائب والعدالة الغائبة تفتك بالروح والوجدان، نهبا للمال العام في زمن الحرب والناس جوعى، فقدان للمسؤولية ورخاوة في زمن القذائف تحصد الأطفال أكثر من مقاتلي الجبهات، طلاب يتسولون المنح لمواصلة التحصيل العلمي فى مقابل تخمة وزراء بلا عمل وبلا شرف وبلا ضمير.

 

مسؤولية من يا رئيس البلاد، يا رئيس الحكومة، يا وزير الخارجية يا سفراء الغفلة ؟!!

 

إن جل آلامنا وقيحنا، منبعه هؤلاء.


Create Account



Log In Your Account