ذكرى ميتة ووطن مختطف
الخميس 23 مايو ,2019 الساعة: 11:19 مساءً

مثل كل شيئ مشلول ومجمد ومصيره بيد الخارج، لا الوحدة مازالت قائمة ولا الإنفصال تم!

خليط من وضعين متضادين، بانتظار ما ستقرره إرادات الفاعلين الأجانب، لصياغة مستقبل بلد، تركه أبناؤه نهبا للأمزجة الإقليمية والدولية المتقلبة واللئيمة.. وتفرغوا لبعضهم، مخلصين للأحقاد والمصالح الضيقة.

 

ماتت وحدة عام 90 وصارت كجثة علي عبدالله صالح، تنتظر الدفن!

 

أما خيط مشروع الإنفصال فيمتد بين صنعاء وعدن، تتحكم طهران وأبوظبي بشده وإرخائه،وفي الوسط خيار الدولة الإتحادية يترنح، فاقدا الوزن، مرهون بالحالة النفسية للنظام السعودي، ومتأثرا بأزماته وضبابية سلوكه المحير!

 

لقد إختطف صالح ونظامه الوحدة بالقوة، وبعد حرب 94 تفرغ للإستحواذ العائلي على اليمن، كما الاستحواذ على المشروع الذي طالما داعب أحلام ونضالات الحركة الوطنية في الشمال والجنوب.

 

أخلص صالح لمشروعه الخاص الذي سيطر على عقله وقلبه، وقد سنحت له كل الفرص، ليكون أبا مؤسسا لنظام ودولة يمنية مهابة، لكن فاقد الشيئ لايعطيه، وتبدد شبح"الدولة" التي يزعم أنصاره أنه بناها، وذابت كقطعة ثلج.

 

دار الرجل حول نفسه وعائلته، وسيطرت عليه نزوات تملك البلاد كمهووس بالتسلط، فقرر إرداء الجميع، قبل أن يلمس هو شخصيا في لحظة حقيقة نادرة، أنها رقصته الأخيرة، ليسقط بلدغة الثعبان الذي تعهده بالرعاية.

 

بحلفه الطائفي مع مليشيا عنصرية، أطلق صالح والحوثي في 21 سبتمبر الرصاصات الأخيرة على ما تبقى من شبح الوحدة.

 

فعلا ذلك مسنودين بدعم خليجي مدفوع بهواجس الثورة المضادة، وأطماعه الخاصة في الخريطة اليمنية المنكوبة.

 

بدلالاته السياسية وبما رتبه على الأرض، كان الإنقلاب بمثابة إعلان إنفصال شمالي وتعبير عن رفض أي سلطة تتشكل خارج هيمنة "المركز المقدس".

 

بتعبير أدق، كان انفصالا طائفيا عن جميع اليمنيين: فقد قرر "آخر رئيس زيدي" - كما كان يحلو لصالح وصف نفسه لاستثارة طائفته عند كل مأزق- التحالف مع حركة عنصرية كهنوتية يشاركها ذات الإنتماء الطائفي، وسلمها زمام الجيش والأمن.

 

قبلها كان قد فعل كل شيئ لمنع الرئيس التوافقي من إخضاع الجيش والأمن لسلطته المفترضة، مع أن هادي كان نائبه المطيع لقرابة عشرين عام وأمين عام حزبه!

 

واحتفظ صالح بشيفرة البنية المناطقية والطائفية لجيش "الزنة" في جيبه حتى آخر لحظة وهو يصدر التوجيهات:"اغلقوا المطارات والموانئ والأجواء".

 

بعد تصفية صالح، باتت مليشيا الحوثي كذراع إيرانية، تركض خلف الإنفصال،وتمارسه على الأرض بفرض مناطق جمركية.

لطالما بعثت برسائل طمأنة لنظيرها الجنوبي، بأنها ستكتفي بالتموضع على الشريط الحدودي السابق بين الشمال والجنوب، ومازالت تقاتل لتحقيق مشروعها كدولة شمالية مستقلة!

 

في هجماتها الأخيرة على المديريات الحدودية، تندفع بكامل طاقتها خلف معركة وضع لمسات أخيرة لمشروع تقسيم، وتستميت لإنضاج شروط تفاهمات، قد تنتهي بإيقاف الحرب على الحدود السابقة.

 

في المقابل، لم يعد الإنفصال خيارا جنوبيا أصيلا، بل أداة مؤجرة لطرف إقليمي، أخذ الورقة الى جيبه ومضى يخوض معارك السيطرة على المناطق الحيوية في البلاد، ويطلق يد المجلس الإنتقالي متى أراد إبتزاز الرياض والشرعية.

 

بعبارة أخرى، تعرض نضال الحركة الشعبية الجنوبية للخطف أيضا، على مدى سنوات الحرب.

 

اللاعب الإقليمي الوافد الذي التحق به جنوبيون شاركوا صالح الفيد هناك، يريد فرض مفهومه الخاص للإنفصال، تبعا لرغباته ومصالحه وعلاقاته واحتكر حتى تحديد ساعة الصفر، إن كان هناك ساعة صفر أصلا!

 

لقد أعادت الإمارات هندسة خارطة القوى التي أفرزتها الحرب، فلاحقت تشكيلات المقاومة من أبناء عدن التي تصدت لمليشيا الحوثي في العاصمة المؤقتة ، وجرى تصفية العديد من القيادات.

 

في المقابل،نشطت ابوظبي لبناء وتمكين قوة مهيمنة، هي خليط من سلفيين متطرفين يتبعون خطها ومشاريعها المناهضة للعمل السياسي والحزبي، تديرها أجهزة الأمن والإستخبارات، وحراك ارتبط قسم منه بإيران في فترات سابقة.

 

لم يعد الحراك هو نفسه الذي تصدر مشهد الإحتجاجات عام 2007م، وقد نزحت معظم قياداته الى الظل والتغييب وبعضهم التحق بالرئيس هادي، لتصنع الإمارات حراكها الخاص.

 

بالسلاح والتشكيلات المفخخة بالنزعات المناطقية، وضعت أبوظبي حراكها في المقدمة، لكن قراره قراره الأخير ليس بيد الجنوبيين، بل بيد الإمارات. إنه ليوي آخر يرتدي هذه المرة دشداشة!

 

لقد تحول الإنفصال "مشروع الخلاص الجنوبي" إلى كابوس، يعيد إنتاج خبرات وممارسات النظام العنصري المناطقي، الذي خرج الناس لرفضه، واضعا الجنوب أمام مشاهد ماضي الصراع المرير بأصباغه المختلفة، وخيار وحيد ومغلق : أنا الجنوب وأنا الشعب أيضا!

 

يحدث ذلك بينما تنعم الإمارات بالإختلاء بالسواحل والجزر والموانئ، وتركت ذراعها يخوض معارك مواجهة أطراف جنوبية أخرى، كما حدث في 28 يناير العام الفائت.

 

برغم الحاجة لمراجعة مخرجات الحوار مع ما أفرزته الحرب، يبدو خيار الدولة الفيدرالية، أكثر المشاريع قدرة على الإستجابة للمعضلات اليمنية التاريخية شمالا وجنوبا.

كما يستطيع المشروع معالجة التمزق الناجم عن الحرب المدمرة القائمة.

 

جذر المعضلة اليمنية التاريخية، نزعة الإستحواذ على السلطة وممارسة الهيمنة والإقصاء، وإستئثار أقلية بمزاعم عنصرية كهنوتية أو عصبوية قبلية أو مناطقية على الحكم بمايعنيه من هيمنة واستئثار بالثروة أيضا.

 

هذا الشكل الفيدرالي الذي تقترحه المخرجات، سيضمن إعادة توزيع السلطة والثروة وسيحد من صراعات الهيمنة وطيش الأيدي العصبوية في خارطة البلاد.

 

سيساعد هذا النمط حتما على تفتيت العصبويات المركزية التي تأخذ غالبا طابعا طائفيا أو مناطقيا، بتوجيهها نحو صراعات بينية محلية، ستتهذب مع مرور الوقت لتغدو صراعات برامج واتجاهات سياسية.

 

من سوء الحظ أن هذا الخيار تمثله نخبة سياسية مترهلة وفاشلة،وسلطة شرعية ضعيفة ومنقسمة، هي آخر الفاعلين في الميدان والقرار.

رهنت هذه النخبة نفسها للمزاج السعودي وسياساته المتناقضة، ولازمها الضعف والتبعية التي تعتري أداء الرياض حيال الحرب، وأهدافها وتداعياتها والموقف من سياسات الطرف الثاني الأكثر فاعلية في التحالف وفي تحديد مسار المعركة.

 

إجمالا، تحضر مصالح الخارج، وتضيع مصلحة اليمنيين شمالا وجنوبا.

 

تغيب اليمن، وتحضر إيران والإمارات والسعودية، كما لو كانت هذه الدول أقدارا، يجب الإذعان لها وانتظار المستقبل الذي ستقرره، وسط حالة موات نخبوية وشعبية محبطة.

 

الماثل أمامنا الآن ليس الوطن الذي حافظ على واحديته ،وهو مشطور، إلى دولتين شمالا وجنوبا قبل 22 مايو 1990م.

 

هذا الذي يطهى بنار الحقد الإقليمي ونزعات التسلط المحلية وأطماع الجوار وذكريات المستعمر القديم الجديد، هو أقرب مايكون الآن لجنوب ماقبل 30 نوفمبر 1967، وشمال ما قبل 26 سبتمبر 1962م.

 

هكذا يبدو الماضي، دوما، هو صديق اليمني،كلما حاول التحليق حالما بالمستقبل الذي لا يريد أن يجيئ بتعبير الراحل محمد حسنين هيكل.

 

هل هي خيارات ومصائر مغلقة؟

 

عندما تتوفر الإرادة والقيادة الفذة والمشروع، لاشيئ يقف أمام طوفان الشعوب.


*المقال خاص بموقع الحرف 28


Create Account



Log In Your Account