الإمام المسحور
الخميس 14 مارس ,2019 الساعة: 06:28 مساءً

تولى «المنصور» علي بن «المهدي» عبدالله ـ ذو الـ «35» عاماً ـ الإمامة بعد وفاة أبيه «7 شعبان 1251هـ / ديسمبر 1835م»، وهو كجده «المهدي» عباس، مولود من جارية حبشية، أتهم بالإسراف دون تدبير، والتساهل دون تفكير، واشتهر بـ «علي مقلى»، وضرب به وبسفاهته المثل، عارضه من صعدة «الناصر» حسين بن علي المؤيدي، لم يستمر الأخير طويلاً، توفي بعد شهور قليلة في حيدان، وقيل أنَّه مات مسموماً، دفن بجانب قبر الإمام أحمد بن سليمان.

    

كان «المنصور» علي عديم التصرف، سيئ الحظ، حدثت عام قيامه مجاعة شديدة، صعبت عليه الأمر، وأدت لتمرد الخاصة قبل العامة، وكان من جملة الخارجين عليه عمه قاسم بن منصور، الذي غادر صنعاء مُغاضباً، وتوجه إلى تعز، وأعلن من هناك نفسه إماماً، وتلقب بـ «الهادي»، لحق به خلق كثير، وجمعٌ من العساكر بأسلحتهم وخيولهم، وعندما أدركوا قلة ما في يده، عادوا أدراجهم، وتركوه وحيداً.

    

زار مدينة تعز خلال تلك الفترة عالم النبات الفرنسي «بوتا»، وقد وصف «الهادي» قاسم بقوله: «كان قاسم ـ وهو الذي يريد أن يلي الإمامة بدل ابن أخيه السكير علي بن المهدي ـ يسكن حجرة متواضعة، وهو يحاول بهذا أن يظهر أمام الملأ ما بين خُلقه وخُلق ابن أخيه من بون شاسع، ويعمل على كسب الرأي العام بالتهجد والصلاة المنتظمة والصيام.. وبدأ يلقي علي بعض الأسئلة في صوت حنون مُتواضع، وشرح لي ما تعانيه البلاد من بؤس وشقاء، ووصف حبه للشعب وعزمه على إعادة الأمن والنظام، وخدمة الدين ونشر مبادئه».

   

لم تدم إمامة «المنصور» علي في جولتها الأولى سوى سنة وثلاثة أشهر، قام ابن عمه عبدالله بن الحسن ـ ذو الـ «26» عاماً ـ بعزله، ذات أربعاء «3 ذو القعدة 1252هـ / فبراير1837م»، بمساعدة جماعة من غلاة «الزيدية»، وحشد من العساكر المـُـتذمرين من تأخر صرف مرتباتهم، وعزل قائدهم عنبر، أعلن عبدالله نفسه إماماً، وتلقب بـ «الناصر».

   

زج «الناصر» عبدالله بـ «المنصور» علي بالسجن، ومعه عمه محمد، وعدد كبير من علماء السنة المـُـجددين، كما حاول نبش قبر العلامة الشوكاني لإحراق رفاته، وتفنن في إذلال اليهود، وإشاعة التشيع، كما هي عادة من سبقه من الأئمة «الجاروديين»، وتساءل: «أيمكن لمساجد السنة أن تكون أماكن مقبولة لأداء الصلاة؟!!»، كما اشتهر بمخالفته الصريحة لنصيحة مُستشاريه، حتى وإن كانوا على صواب، وكان يحيى بن محمد ــ جد الإمام يحيى حميدالدين ـ ساعده الأيمن.

    

«الناصر» عبدالله، الشاب المـُتهور، والفقيه المـُتعجرف، والمدرس المـُتأفف، ألف القاضي أحمد بن إسماعيل العلفي كتاباً في سيرته، أسماه: «سلافة المعاصر، نبذه في سيرة الإمام الناصر»، فيما أسهب مؤرخو «الزيدية» المـُـتعصبين بالإشادة به، فهو حدّ وصفهم نهض لإصلاح العباد، وتشريد أهل العناد، وإعادة سيرة الأئمة الصالحين، وبالمقابل وجدنا هؤلاء ينعتون من سبقه من الأئمة ـ خلال تلك الحقبة ـ بأقذع الصفات، وأشنع المـُـسميات، اتهموهم بالتأثر بعلماء السنة، والانحراف عن نهج الإمامة، وسيرة الأئمة المـُعتبرين.

    

من اللحظات الأولى لتوليه الإمامة، واجه «الناصر» عبدالله عدة تمردات، كان أشهرها تمرد قبائل «بكيل» المـُحتلة لـ «اليمن الأسفل»، وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «وبلغ وصول ذي محمد من اليمن، وقد جمعوا ما قدروا يحملوه من الدّراهم، والعسل، والسمن، والملابس شيئاً واسعاً»، حطوا في «صافية باذان»، ولما علموا بخروج عساكر الإمام، مالوا إلى الصلح، وعادوا أدراجهم، بعد أن تركوا في صنعاء بعض كبرائهم كرهائن.

    

كان «اليمن الأسفل» تحت أيدي قبائل «بكيل» أشبه بالدولة المـُستقلة، توالت تمرداتهم، فيمم «الناصر» عبدالله خطاه نحوهم «7 محرم 1253هـ / 14 إبريل 1837م»، ومن يريم بادر بإرسال رسائله إلى كبرائهم، يطلب قدومهم إليه، لم يستجب منهم إلا القليل، فاضطر لإخضاعهم، بالقوة حيناً، وبالهبات والأموال حينا آخر.

    

في تلك الأثناء كانت قوات محمد علي باشا بقيادة ابن أخته إبراهيم يكن قد اتمت سيطرتها على سواحل تهامة، وميناء المخا، وتقدمت ــ بعد عامين من تواجدها في تلك المناطق ــ صوب مدينة تعز «ربيع الأول 1253هـ / يونيو1837م»، سلم لهم «الهادي» قاسم المدينة مقابل «10,000» ريال، وراتب شهري قدره «4,000» قرش، وقيل أنَّه استنجد بهم، بعد أن علم بتحرك «الناصر» عبدالله بعساكره نحوه، توجه إلى المخا، وفيها ـ وتحت حماية قوات محمد علي ــ آثر الاستقرار.

   

أما «الناصر» عبدالله فقد أستقر عدة أسابيع في مدينة إب، وحين دانت له تلك الجهة، واستتب له أمرها، قرر استعادة تعز من أيدي قوات محمد علي، أرسل عساكره للقتال، واستبقى البعض منهم بالقرب منه، خوفاً من غدر قبائل «بكيل»، لتدور أولى المواجهات في منطقة «القصيبة»، خارج مدينة تعز، انتصرت فيها قواته، ولإرهاب الناس علق رؤوس القتلى على باب مدينة إب.

    

شنَّت قوات محمد علي هجوماً مضاداً، دحروا عساكر «الناصر» عبدالله، وقتلوا الكثير منهم، لتتم لهم بعد ذلك السيطرة التامة على العدين وضواحيها، بعد أن أعلن الشيخ سعيد بن أحمد عامل «إمام صنعاء» عليها ولاءه لهم.

   

 زالت بعد ذلك هيبة «الناصر» عبدالله، وتبددت قوته، وأعلنت قبائل «بكيل» كعادتها تمردها عليه، سخطاً من الهزائم، وانتقاماً لقتلاها، وعاودت استيلائها على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، التي سبق وأخرجهم منها، ثم حاصروه في مدينة إب «جماد الأول 1253هـ / أغسطس1837م»، وقتلوا عدداً من رجاله، وساوموه بالإفراج عن أقارب لهم، سبق وأن استبقاهم لديه كرهائن، مقابل عودته إلى صنعاء سالماً.

وقع «الناصر» عبدالله بين سندان قوات محمد علي، وكماشة قبائل «بكيل»، ولخروجه من هذه المـُـعضلة، أفرج عن الرهائن، وعاد إلى صنعاء مُنكسر القوة والخاطر، وقد لخص «صاحب الحوليات» ذلك المشهد بقوله: «وكان يوم خروجه يوماً عبوسا، فكل فرد من أصحابه أيقن بالهلاك، بسبب انقطاع جميع المسالك، وما وصل إلى المخادر إلا بشق الأنفس، وكثرة الأثقال بقيت في إب، ورجع بخفي حنين، ونعق بينه وبين اليمن غراب البين، ولم يزل الخوف والفساد وراءه حتى وصل صنعاء».

    

كتب إبراهيم يكن رسالة إلى خاله محمد علي باشا شرح فيها تفاصيل ما حدث، جاء فيها: «بعد ست معارك قاتل الجيش المصري فيها قتال الأبطال، والآن تحتل جنودنا المنصورة كل الأماكن التي استولت عليها، حيث يرابطون مُعتزين بما أحرزوا من مجد وشهرة، بعدما ولى الإمام الناصر الفرار إلى صنعاء، مدحوراً خائب الرجاء».

    

بعد وصوله صنعاء بعدة أشهر، همَّ «الناصر» عبدالله بقتل سلفه «المنصور» علي، وعمه محمد، إلا أنَّه تراجع عن ذلك في اللحظات الأخيرة، خوفاً من ثورة العامة، ليسرف بعد ذلك في أذية موظفي دولته، بذرائع واهية، نقلها له أصدقاؤه المـُـتعصبون، من هم على شاكلته، وكانوا حسب توصيف «صاحب الحوليات»: «تارة يعيبوا الحكام بأن هذا يعرف سنة رسول الله، وتارة بأن هذا يحب الصحابة».

    

أيقن حينها المؤرخ المجهول، الذي عاش تفاصيل تلك الأحداث، بـ «إدبار دولة هذا الإمام»، مُضيفاً: «وخالفت أطراف البلاد، واضطرب أمر ريمة ووصاب، وانقطع الرجاء والأمل من بلاد رداع»، أما «اليمن الأسفل»، فقد «نظم الترك أموره، وعمروا المدن والأسواق، وأمنت البلاد، وكثر المال في أيدي الأراذل».

   

 أوشك «الناصر» عبدالله حينها أن يعترف بسيادة محمد علي باشا على اليمن، وفتح أبواب صنعاء للقوات المصرية، على أن تظل ذات المدينة تحت حكمه، وأرسل لأجل ذلك رسالة إلى أحمد باشا يكن «حاكم عسير»، يلتمس منه تسهيل سفره إلى مصر «جماد أول 1254هـ»، إلا أنَّ الأمر وبسبب الضغوطات الانجليزية لم يتم.

    

احتل الانجليز مدينة عدن «28 شوال 1254هـ / 16 يناير 1839م»، فاضطر محمد علي باشا لسحب قواته من اليمن «صفر 1256هـ / مايو 1840م»، بعد أن حددت «معاهدة لندن» نفوذه وحكمه في ولاية مصر، سُلمت تهامة للأمير حسين بن علي بن حيدر «صاحب أبي عريش»، وصار حاكماً لها باسم «الدولة العثمانية»، أما «اليمن الأسفل» فقد ظل مسكوناً بالفوضى، محكوماً بالفراغ.

     

بسبب محاربته لهم، وملاحقته لأنصارهم، تمرد «الاسماعليون» على «الناصر» عبدالله، وقاموا بطرد عامله على حراز، وامتدت أيديهم لقتله ومجموعة من عساكره في وادي ظهر «ربيع الآخر 1256هـ / يونيو 1840م»، ولو كان سمع نصيحة مُستشاريه بتغير طريق مروره، لكان نجا من ذلك الموت المـُحقق.

    

كان لسيطرة قبائل «بكيل» الغازية ـ على أجزاء واسعة من «اليمن الأسفل»، خلال الـ «35» عاماً الفائتة ـ أثره البالغ في تفشي حوادث النهب والسلب، وقطع الطرق، فانتشر الخوف، وبث الرعب، وبلغت القلوب الحناجر، لتتشكل وسط تلك الظروف العصيبة، حركة تحررية صوفية بقيادة الفقيه الثائر سعيد بن صالح بن ياسين، الذي أعلن نفسه إماماً للشرع، وابتدأ ثورته بإخراج تلك القبائل المـُتوحشة، من أراضي إب وحصونها، وامتدت سلطاته لتشمل جميع مناطق «اليمن الأسفل».

    

أخرج «القاسميون» محمد بن «المـُـتوكل» أحمد من السجن، ونصبوه إماماً، تلقب بـ «المـُـتوكل» تيمناً بأبيه، ثم غيره بعد ثلاثة أشهر إلى «الهادي»، اتهمه معاصروه بالجهل، والسفه، والتبذير، والإخلاد إلى الراحة، وبأنَّه كان ألعوبة بيد عبده «المسيحي» فيروز.

  

 توجه «الهادي» محمد لمحاربة الفقيه سعيد، انتصر بفعل الخيانة عليه، سيطر على إب، فيما نجح عبده الماس بَلَسَه في إخضاع «تعز، والمخا، والحجرية»، وهي سيطرة لم تدم طويلاً، انتهت باستدعاء العبد وحبسه، كان للشيخ الشرجبي بعد ذلك شبه سيطرة على معظم تلك النواحي، نجح الانجليز في استقطابه، وبمساعدته حولوا تجارة البن إلى ميناء عدن، وهي الطريقة التي أصابت ميناء المخا في مقتل. 

   

لم يعترض «الهادي» محمد على وجود الإنجليز في عدن؛ بل طلب منهم المساعدة من أجل استعادة تهامة من الأمير «ابن حيدر»، وقد تواصل بالفعل عبر وسطاء محليين مع القبطان هينس، وأبلغه استعداده تسليمه «تعز، والمخا، والحجرية»؛ إن هو ساعده بالقضاء على «صاحب أبي عريش»، وقد أرسل عبده فيروز لذات الغرض، إلا أنَّ «بني ظبيان» اعترضوا طريق العبد، ونهبوا هداياه، وساموه سوء العذاب.

    

برأ «صاحب الحوليات» الإمام من تهمة التواصل مع الانجليز، وحمل عبده مسؤولية ذلك، قائلاً: «حتى أنَّ الكلب فيروز كاتب الفرنجي إلى عدن، وكان يهاديه بما جمعه من النفائس بأموال المسلمين ظلماً، وكان السفير الساعي بينهم الحاج إسماعيل الوعلاني»، وأضاف: «وخرج الإمام لتجهيز العبد ودمعته جارية على خده، حزناً على فرقته».   

    

اتهم المؤرخ المجهول العبد فيروز بالسيطرة على سيده الإمام بالسحر، وأنَّه بذلك صار المــُـتحكم الرئيس بالدولة، المـُـتصرف بأمورها، أهان العلماء والأعيان، وأذل السكان، وأنَّ تواصله المـُستمر مع الانجليز، لم يكن إلا لتمهيد وصولهم إلى صنعاء، والقبض على الإمام؛ في مؤامرة كبيره دبرها «النصارى» للقضاء على المسلمين، إلا أن الله أنقذ اليمن من شرهم، حد تعبير ذات المؤرخ.

    

وفي المقابل كشفت وثائق انجليزية ـ أرخت لحوادث لتلك الفترة ـ أنَّ القبطان هينس المشغول حينها بتثبيت دعائم سيطرته على عدن وضواحيها، لم يكن باستطاعته تقديم أي دعم حربي لـ «الهادي» محمد، المـُـسيطر سيطرة شكلية على «تعز، والمخا، والحجرية»، وإنَّما كان همه تشجيعه على غزو لحج؛ ليضمن سلامة عدن من القبائل المـُجاورة.

 


Create Account



Log In Your Account