صنعاء المزدحمة دوما
الأحد 03 مارس ,2019 الساعة: 10:30 مساءً

بالأمس القريب ازدحمت صنعاء باليمنيين وغير اليمنيين، فكانت أقرب إلى ما يُشبَّهُ ببلبلة ألسنة مملكة بابل في نسقها الميثولوجي، فتعددت فيها اللهجات والأزياء و الأحلام.

 

ازدحمت بالمراجعين البائسين من المحافظات الأخرى، الذين كانت تضطرهم الظروف القاهرة التواجد فيها، لإنجاز أعمال بسيطة وعادية، جعلت منها المركزة ومزاج التسلط أفعال إذلال، تضخمت حتى صارت في الوعي الكلي قضية وطنية كبرى.

ازدحمت بالمكتبات وأكشاك الصحف، حين كانت المطابع تصدر عشر صحف يومية، تلوك نفس الأخبار أو تعيد تحريرها بما يشتهيه الناشرون والداعمون، وأسبوعيا تصدر ثلاثين مطبوعة نصفها ميتة، وتصدر بقوة القصور الذاتي، وتحسب معظمها على أطراف السياسة المشوهين.

إزدحمت بالأحزاب، التي وجدت في عشرات المنافذ طرقا لتصريف بضاعتها الكاسدة في البيانات، ووجدت من الأصباغ والمنشطات ما يمكن أن تلمع به قياداتها المُتحفية، وبث الحياة في أجسادها المعطوبة.

ازدحمت قاعات الفنادق بمئات الندوات والمؤتمرات والفعاليات، التي تنظمها المنظمات والمراكز المشبوهة وغير المشبوهة، و تجد من يمولها من الشرق ومن الغرب، في شغل دكاكيني عارٍمن المجمِّلات.

ازدحمت بالشقق والعمارات التي رُخِّصت لها كجامعات ومعاهد عليا، ليس لها من قريب أو بعيد بالتعليم، ولها علاقة فقط بالبزنس والتجهيل، حتى أن معظم ملاكها الحقيقين كانوا مشايخ وضباط أميين وأمنيين.

 

ازدحمت بمواكب المسئولين والوجهات والمشايخ، وازدحمت بعقارات ومباني الأموال المبيضة من الأعمال غير المشروعة وكذلك الأموال المنهوبة من خزانة الدولة، وازدحمت بشركاتهم ووكالاتهم، التي تتحايل على الضرائب، وعلى الجمارك بالتهريب المنظم والمُدار رسمياً.

 

ازدحمت بمشاريع البنى التحتية، ذات التكاليف الباهظة، التي كانت تُعطى كهدايا لمتنفذي الدولة ومشايخ القبائل وقادة الجيش، الذين يقومون بدورهم ببيعها لمقاولي الباطن، الذين يسلمونها مغشوشة ومعطوبة دون أن يحاسبهم أحد.

 

ازدحمت بالعمارات الحديثة والعقارات المحوَّطة في الأحياء الجديدة، التي نشأت على حمولات الأموال المبيضة، التي كانت البلاد واحدة من محطاتها الأكثر ميوعة في تهريب البشر والسلاح والمخدرات إلى الجوارين الأفريقي والنفطي.

 

ازدحمت بالمدارس، التي تكدست بالطلاب، الذين تُحشى أدمغتهم الصغيرة بخرافة المناهج، وتلقينهم ما يعتبرونه علما بأدوات أكل عليها الدهر وبال.

 

ازدحمت بالمساجد والمصليات في الحواري الفقيرة التي لم يتمايز مرتاديها، وأخرجت مئات المتدينين الجهلة، الذين انسدت أمامهم الآفاق فتحولوا الى أحزمة ناسفة في كل منعطف.

 

وازدحمت بعشوائيات الأحياء الفقيرة غير المخططة في حرم الجامعة ومراهق الأوقاف، التي بيعت من قبل نافذين لمن يستطيع الشراء والبناء بدون تراخيص ولا خدمات، فتشكلت "كنتونات "سكنية ريفية جديدة، عمقت من مآزق الإندماج.

 

ازدحمت بالمرضى الذين وجدوا في مشافيها الأكثر تجهيزاـ قياسا بغيرها من المشافي البائسة المهملة في الأطراف ـ وهم الإستشفاء، من أمرض صارت فتاكة، تتفشى وتسري في أجساد اليمنيين مثل نار في قش يابس ، بسبب المبيدات السامة الممنوعة التي يُدخلها الى البلاد تجار مرتبطين بدوائر الحكم.

 

ازدحمت بالمعسكرات العائلية التي راهن النظام على قواها البشرية وعتادها في تأبيد ستبداده وفساده، فتلاشت مع اول خضة.

 

ازدحمت بالمزاودين السياسيين، وشطار التجارة وبائعي الوهم من الصحافيين والكتاب ، مثلما ازدحمت بالفقراء والمتسولين وعاطلي الجولات التي، قذفتهم الى العراء ازمات المنطقة ومواقف النظام في حروب الخليج.

 

ازدحمت حتى صارت دُمَّلا خرافيا يشبه البلاد كلها، كان لابد ان ينفجر .....

فانفجر حين ازدحمت ساحتها بثوار فبراير، الذين أرادوا التغيير بالسلم ، فتكالب على حلمهم ضباع الدين والسياسة والعسكر.

 

(2)

وصنعاء الآن مزدحمة أيضا:

 

مزدحمة بنازحي مناطق النزاعات والتقاتل، التي نقلتها الميليشيات الى كل شبر في البلاد، و الذين يعيشون في ظروف فاجعة تصعب على كافري الديانات الثلاث.

 

مزدحمة بالمتسولين وأصحاب الحاجة " نساء ورجال وشيوخ وأطفال" ، و الذين تعج بهم الأسواق والشوارع والحواري، حتى يخيل لك أن المدينة كلها تتسول.

 

مزدحمة بطوابير البشر الطويلة أمام مراكز الإغاثة ومقرات المنظمات الإنسانية، من أجل الحصول على اغذية ردية وتالفة، تحسب عليهم في فواتير الفساد الأممي بمليارات الدولارات، ويتاجر بأكثرها متنفذو السلطة ومشرفوها.

 

مزدحمة بألوف الدرجات النارية، التي حولت المدينة إلى مرجل ضجيج وفوضى، ومزدحمة بمئات السيارات المشبوهة المعكَّسة وغير المرقمة، التي تخالف أنظمة السير دون أن يردع سائقيها الغلاظ.

 

مزدحمة بطوابير البترول والغاز المنزلي، وبالنساء المتعبات أمام أسبلة المياه في الحواري، وأمام أفران الكدم التي تُعطي الحق كصدقات، وأمام محلات الصرافة التي تناولهم منح مالية أشبه بصدقات لئيمي رمضان وزكواتهم السامة.

 

ازدحمت محلات سوق مدينتها القديمة بحوانيت بيع "الأكفان الجاهزة" ، بعد أن كانت مزدحمة بالسواح والزائرين ، أذ لم تكن تخلو أي من حواريها بقاطنين أجانب من الدارسين أو موظفي السفارات أو الباحثين في تراثها، الذي عشقه أكثرهم حد الجنون.

 

مزدحمة بالسجون وبمخبري الأمن الوقائي من "المثقفين المنحطين" الذين تكاثروا مثل فطر عفن على حافة مستنقع، فصاروا يحصون أنفاس الجميع في المقاهي ومقايل المنتديات، وصفحات التواصل.

 

مزدحمة بالمسلحين الذين يجوبون الشوارع والأحياء، دون أن تستدل على هوياتهم، ومزدحمة بكٌنى الحكام الخفيين الذين يُحكى عن تجاوزاتهم بألسنة تستعجم وصف أهوالها.

 

مزدحمة بأرتال القمامة، وطفح المجاري ، ومخلفات بناء العمارات الشاهقة التي تُشَّيد لحساب المتنفذين الجدد، الذين يتاجرون بكل شيء.

 

مزدحمة بأصباغ الشعارات السياسية والصور في الجدران والواجهات.

مزدحمة بصور ضحايا الحرب من صغار السن، الذين يساقون الى المحارق بغير ثمن، وبشهوات الدم التي تتركب أمرائها الفاسدين.

 

(3)

صنعاء مزدحمة بالفراغ والدموع والموت، ومثلها أيضا المدن التي اعتدت ونقَلت منها، ونسميها بهتانا بالمحررة ، إلا من أوهام الضغائن والدم .


Create Account



Log In Your Account