مسمار آل سعود
الخميس 28 فبراير ,2019 الساعة: 08:11 مساءً

جاء وصف الرحالة «اللورد فالنتيا» لـ «المنصور» علي بن «المهدي» عباس، بأنَّه ضعيف الإرادة، واهن العزيمة، لينعكس ذلك سلباً على مَسار «الدولة القاسمية»، التي دخلت مرحلة الضعف، والانكماشة الشديدة، في الوقت الذي كانت فيه «الدولة السعودية» في قمة عنفوانها، قامت الأخيرة بعد «61» عاماً من تأسيسها بِعدّة عمليات توسعية، شملت مُعظم مناطق الجزيرة العربية؛ وصلت في إحداها إلى مشارف صنعاء، وهددت دولة الإمامة بالزوال.

  

سيطر «آل سعود» أثناء توسعهم الكبير على مدينة كربلاء «1216هـ / 1801م»، وقتلوا «4,000» من سكانها، واستولوا بعد عامين على مكة المُكرمة، والمدينة المُنورة، كما امتدت سيطرتهم لتشمل جيزان وعسير، وبعضاً من الأراضي الحضرمية، خربوا الأضرحة والقباب في تلك المناطق، وعززوا حضورهم بمساندة بعض الزعامات المحلية، الذين رأوا فيهم فاتحون جدد، مُجددون للشرع الحنيف.

  

كان أهالي عسير سباقين في قبول دعوة «آل سعود ـ الوهابية»؛ لاعتبارات عدة، أهمها أنها صادفت هوى كثير من مشايخهم وعلمائهم، الذين عُرف عنهم بغضهم الشديد لـ «الزيدية»، وأئمتها المُختلفين معهم مذهبيا، وكان محمد بن عامر الشهير بـ «أبي نقطة»، وأخوه عبد الوهاب من أبرز المُنضمين لتلك الدعوة، وساهما إلى حد كبير بتوسعاتها في المناطق المجاورة.

  

قبل التوسع في تلك التفاصيل أكثر، وجب التذكير أنَّ «المخلاف السليماني» كان حينها تابعاً شكلياً لـ «الدولة القاسمية»، فيما كان «آل خيرات ـ أصحاب أبي عريش» حكامه الفعليين، وهم «علويون» سنيون، وكان الأمير حمود بن محمد أبو مسمار أقواهم جميعاً، أعلن بعد عام من توليه الحكم مُقاومة «آل سعود»، الذين غزوا بلاده بمساعدة قبائل عسير «1217هـ»، وانتصروا عليه بعد معارك شديدة، راح فيها مئات الضحايا من الجانبين.

  

طلب «أبو مسمار» - قبل ذلك ـ دعماً من «المنصور» علي، وحين لم يستجب الأخير لنجدته، أعلن من فوره ولائه لـ «آل سعود»، الذين دعموه كي يزحف جنوباً، فتمت له السيطرة التامة على «اللحية، وزبيد، وحيس»، استقطعها من خارطة «الدولة القاسمية»، فيما كانت سيطرة «الدولة السعودية» عليها وعليه شكلية.

  

لم يكتفِ «أبو مسمار» بذلك؛ بل وجه قواته نحو المناطق الجبلية، ليدخل بعض مشايخ حجة وبلاد الشرف وشهارة لبعض الوقت في طاعته «1219هـ»، كما امتدت سيطرته بعد أربع سنوات إلى كوكبان، أخضع أميرها شرف الدين بن أحمد لحكمه، وقيل أنَّ الأخير استنجد به، وحين حاولت قواته بقيادة ابن أخيه حيدر بن ظافر، التقدم صوب صنعاء المُحاصرة حينها من قبل قبائل برط، عرقل الأهالي وصولهم، أنهكهم الجوع، وأجبروا بعد وفاة قائدهم على العودة إلى تهامة خائبين.

  

رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتمردات القبلية المتتابعة، عمل «المنصور» علي، على إرسال الحملات العسكرية لاستعادة تهامة، كان أشهرها حملة بقيادة يحيى المُتوكل «رمضان 1221هـ / ديسمبر 1806م»، ذكر المؤرخ جحاف أنَّ القتلى التهاميين وصلوا فيها لحدود «410» قتيل، منهم «60» امرأة، عززها مع نهاية ذات العام بحملة أخرى، فكان مصيرها الفشل الذريع.

  

وفي موضوع غير مُتصل، تمرد أهالي الروضة، بإيعاز جماعة من «آل الكبسي»، و«آل أبي طالب»، ومعاضدة من الأمير الطامح أحمد بن عبد الله بن «المهدى» عباس، ومساعدة من بعض القبائل الشمالية «شوال 1222هـ»، وحين تقوى أمرهم، رام بعضهم خلع «إمام صنعاء»، وتنصيب الحسين بن عبدالله الكبسي بدلاً عنه، وكتبوا الى الاقطار اليمنية بذلك، فشلت جهود الوسطاء في إيقافهم، فخرج إليهم سيف الإسلام أحمد بن «المنصور» علي، بحشد كبير من العساكر، قبض على قادتهم، فيما تشفع لهم العلامة الشوكاني من موت مُحقق، أودعوا السجن، ليموت الكبسي مع بداية العام التالي في دهاليزه.

  

قبل دعوة الحسين الكبسي بأكثر من عام، أعلن قريبه إسماعيل بن أحمد بن عبدالله الكبسي الشهير بـ «المُغلس» من «ظفير ـ حجة» نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «المُتوكل»، وهو من «الحمزات»، بقي فيها ثلاث سنوات، إلى أن داهمه الأمير أحمد ـ الذي كان حينها إماماً ـ ضامراً أسره، فهرب إلى صعدة، ومَكث فيها «13» عاماً، ثم أتجه إلى برط لعله يجد عونا من أهلها، وحين خاب مسعاه، تخلى عن دعوته، وانقطع للعلم والوعظ إلى أن توفي.

  

وعلى ذكر برط وقبائلها العاتية، فقد قام «ذو محمد» بحصار مدينة صنعاء لأكثر من أربعة أشهر «1222هـ»، فـ «امتنع بهم دخول الأرزاق المجلوبة من جميع الآفاق، وزادت الشكاية إلى أنَّه لا يمكن خروج رجل من المدينة إلا برفيق من البغاة، يجعل له أماناً جُعلاً، وهو على خطر من سفك دمه، وإنما يخرج الرجل لا يدري ما يقع عليه من السلامة من عدمها»، كما أفاد المؤرخ جحاف في درره.

  

ضج العامة بالتذمر والشكوى، وتوجهوا إلى «المقام الشريف»، مُطالبين بفك ذلك الحصار، ولم تنقشع عنهم تلك الغُمة إلا بحلول شهر رمضان الفضيل، عاد الغزاة أدراجهم؛ وأعاد القاضي يحيى بن عبدالله العنسي في أواخر الشهر التالي الكرة على صنعاء زائراً، ومعه عدد من أفراد قبيلته «ذي حسين»، وهي زيارة ظاهرها مُراجعة «المنصور» علي، وباطنها اغتيال الوزير حسن العلفي، المُتهم الرئيس بإيقاف أعطياتهم.

   نجا الوزير العلفي من الموت بأعجوبة، فأصدر «المنصور» علي، في لحظة غضب أوامره بإهدار دم «ذي حسين» المُتواجدين حينها في شوارع المدينة المنكوبة، فتعرض لهم العامة في الطرقات والأزقة، وقتلوا «18» رجلاً، أما كبيرهم القاضي العنسي فقد احتمى بأحد المنازل، ولم يستسلم إلا بعد أن أعطي الأمان من قبل سيف الإسلام أحمد، ليوجه الإمام بإعدامه، وابنه صالح، وعمه يحيى، الأمر الذي أغضب «ولي العهد» كثيراً، ومهد لانقلابه الأبيض كما سيأتي.

   بعد تسعة أشهر من مقتل ولده، قاد القاضي عبدالله بن حسن العنسي قبيلته «ذو حسين» صوب صنعاء، طلباً للثأر والغنيمة، عسكروا في عصر، وبصحبتهم الأطفال والنساء، أحكموا في باب اليمن حصارهم للمدينة، ومارسوا في ضواحيها سلوكهم المُحبب في القتل والتخريب والنهب.

حدث ذلك بالتزامن مع حصول مجاعة شديدة، فتكت بالكثير من البشر، وكثرت بسببها حوادث القتل والسلب، وعمَّ بلاها اليمن، نقل المؤرخ جحاف جانباً من نتائجها الكارثية، قائلاً: «وكثر القتل بالطرقات، واختل أمر الحدا وانتقض، فقتلوا كل مسافر.. وكانت تُعَدّ قتلاهم في كل يوم اثني عشر رجلاً.. إلى عشرين، ورأى أهل ضوران ما صنع أهل الحدا، فتشددوا في الفساد، وانتهبوا طرق عديدة».

   اشتهر «المنصور» علي، بإيكال أموره إلى وزراءه، حتى اضطربت أحوال دولته، وكاد زمامها أن يفلت من تحت يديه، خاصة عندما تولى الوزارة حسن العُلفى، الذي استبد وتحكم في كل شيء، واستخف بالأمراء، وقصر في أرزاق الأجناد، وأعطيات المشايخ، الأمر الذي شجع القبائل الشمالية على التمرد، فكثرت حوادث القتل والنهب، وحوصرت صنعاء أكثر من مرة، ومات كثير من سكانها جوعاً، وأنهك من تبقى في انتظار المجهول.

  

وكان العلامة الشوكاني قد قدم نصيحته الصادقة لـ «المنصور» علي بعزل الوزير المذكور، وعبر عن ذلك شعراً، جاء فيه:

فقل لأمير المؤمنين إلى متى

يدبر أمر المُلك من ليس يفهم

تدارك أمير المؤمنين الذي بقى

فعما قريب ليس يغني التندم

  

بعد يومين من حصار قبيلة «ذي حسين» لمدينة صنعاء، ثار سيف الإسلام أحمد، على ذلك الوضع المُزري «26 رجب 1223هـ»، قبض على الوزير العُلفي، وزج به في السجن، الأمر الذي أغضب والده الإمام، فأرسل «ولي العهد» جماعة من عساكره، أحاطوا بـ «المقام الشريف»، ودارت مناوشات محدودة، تدخل المصلحون بسرعة لإخمادها.

  

كان العلامة الشوكاني واحدٌ من أولئك المصلحين، وظّف ثقله السياسي بمساندة الأمير أحمد في انقلابه الأبيض، وكانت نتيجة مساعيه أن سُلمت السلطة إلى الابن، على أن يحكم باسم أبيه، وكان أول تصرف قام به الحاكم الجديد أن تواصل مع القاضي العنسي، ووعده خيراً، وضمه وقبيلته إلى قوات قبلية أخرى، وجهها لإخضاع كوكبان المُحتلة حينها ـ وكما سبق وأشرنا ـ من قِبل قوات «أبي مسمار»، ولكن دون جدوى.

  

كانت كوكبان خلال تلك الحقبة أشبه بإمارة مُستقلة، تعاقب على ولايتها أمراء من بيت «شرف الدين»، تحت مظلة «الدولة القاسمية»، والمفارقة العجيبة أنَّ أميرها شرف الدين بن أحمد عمل على تدريس الفقه السني في مناطق حكمه، وهدد بالاستنجاد بـ «آل سعود» حين اختلف مع الأمير أحمد، كما سيأتي.

  

بدأت الأوضاع بعد ذلك تتوتر بين «آل سعود» و«أبي مسمار»، ليفتح الأخير خط تواصل مع «الدولة القاسمية»، اعترف له سيف الإسلام أحمد بما تحت يديه، واتفقا على أن يكونا يداً واحدة لمواجهة الخطر «السعودي ـ الوهابي»، شريطة أن يُعيد الأمير حمود له إحدى المناطق القريبة من ميناء المخا، وهو ما كان.

  

بعد وفاة «المنصور» علي، «15 رمضان 1224هـ / 25 أكتوبر 1809م»، آلت الأمور بسلاسة لولده الأمير أحمد، ذي الـ «55» عاماً، تلقب الأخير بـ «المُتوكل»، وهو أحد أبرز تلاميذ العلامة الشوكاني، أعاد للدولة جزءاً من هيبتها، وتخلص من بطانة والده، وأظهر الحزم وبعد النظر، وخفض الضرائب، وأحسن للفقراء، وأخضع القبائل الغازية، وعفا عن كثير من المُتمردين.

  

توجهت قبائل «بكيل» - في العام التالي - صوب «اليمن الأسفل»، وعاثت فيه كالعادة نهباً وخراباً، لم يغض «المُتوكل» أحمد، كوالده عنهم الطرف؛ بل توجه على رأس حملة عسكرية كبرى لمطاردتهم، طهر عدداً من الحصون، وتنقل - وعلى مدى ثمانية أشهر - من منطقة إلى أخرى، قضى شهرين منها في مدينة تعز، وبصحبته العلامة الشوكاني، الذي أشاد به لتصرفه ذاك كثيراً.

  

أعجب العلامة الشوكاني بمدينة تعز، ومدحها بقصيدة شاعرية، نقتطف منها:

أما ترى تعز في الليل غدا

يرتقص الجو بها من الطرب

كأنما القات المؤاتي بها

قضبانُ ياقوت وأقراطُ ذهب

وماؤها يحكي الهواء رقة

كما حكى ذوب اللجين في الصبب

  

لم تتوقف الحرب ـ في الجانب الآخر ـ بين «آل سعود» و«آل خيرات»، فيما استمر «المُتوكل» أحمد، على عهده، مُنفذاً للاتفاق المُبرم بينه و«أبي مسمار»، وقام بالفعل بإرسال قوات قبلية لمساندة هذا الأخير، كان لها الدور الكبير في صموده، وتحقيقه بعض الانتصارات، إلا أنَّه سريعاً ما تصالح مع «آل سعود»، راضياً بوضعه كمسمار يغرسونه في خاصرة أعدائهم وأعدائه.


Create Account



Log In Your Account