انكسر العالم اليوم على رصيف التحرير
الثلاثاء 26 فبراير ,2019 الساعة: 10:19 مساءً

العالم والحياة كلها كانت مختزلة في ميزان بأربعة الاف ريال يحمله طفل لم يتجاوز العاشرة كأنه يحمل مصيره على كتفيه.

أراد أن يأخذ مكانه أمام رصيف البنك ، هناك حيث كائنات سمينة تحرص بين الحين والآخر على التأكد من أوزانها خوف الظغط والسكر والأمراض الحديثة.

إنكسر الميزان وتطاير الزجاج على الرصيف كقطع بللورية شكلت لوحة مأساوية حول مربع معدني تتوسطه شوكتان مختلتان.

انكسر ميزان العالم. انكسر ميزان الوجود. ومعه انكسرت نافذة الحياة الوحيدة لطفل لم يتجاوز العاشرة.

هو طفل لا أصدقاء له ولا مدرسة ولا معلمين ولا زملاء دراسة.

لا ساحة مدرسة يلعب فيها ولا واجبات يومية ولا مصروف جيب يضعه والده في جيبه ولا سندوتشات تضعها والدته في شنطة المدرسة وتؤكد عليه أن لا ينساها مثل كل يوم حين يعود وهي متيبسة ناقصة نصف سندويتش هو ما قدرت عليه شهيته المطمئنة. شهية مطمئنة لم تتعود على الحاجة والفقدان. شهية مطمئنة تختزن ذاكرتها مطبخ احتياطي يمكن ان تذهب اليه اذا ما قرصها الجوع ودق جرس معدتها الغفلية بنداء الطعام.

طفل هو لا أحد له في هذا العالم سوى ميزان مربع بشاشة زجاجية يضعه كل صباح على الرصيف ليقرر مصيره.

ميزان العابرين على الرصيف هو وجوده كاملا.

هو حربه وسلامه ودولته وحياته وحصته من هذا العالم وحضنه الحنون في الليالي الباردة.

انكسر الميزان فانكسر العالم.

وقف طفل لم يتجاوز العاشرة مذهولاً من حظ سيء لم يتردد في ان يصدمه هكذا في مستهل صباح ربيعي لا يخطر على البال ان ياتي بهكذا انكسار.

انكسر الميزان فقفز سؤال الوجود دفعة واحدة الى وجه طفل لم يتجاوز العاشرة.

اقتعد الأرض مقرفصاً بجانب ميزانه المكسور ومخفيا وجهه ودموعه بين ذراعيه. أدار وجهه للعالم محدقا في الارض وفاقدا للحيلة امام انكسار مفاجيء على حافة التيه الفائض بالقسوة.

تجمع المارة كان اقل من ان يعيد طفل لم يتجاوز العاشرة الى الوجود على رصيف التحرير في صباح ربيعي لا جديد فيه سوى انكسار الميزان.

حتى وقد تجمعت في قبضته التي تخفي وجهه أوراق نقدية ربما تقوق الأربعة الاف قيمة الميزان المكسور بقي وجهه مغروساً بين ذراعيه ومحدقا في اللاشيء وكأنه في عالم آخر.

كان فعل الانكسار اكبر بما لا يقاس من قيمة الميزان المكسور.

كان ليالٍ قاتمة ترتسم في ذهن لا شيء فيه سوى ميزان مكسور هو كل العالم.

كان اللاشيء الذي يحدق فيه طفل لم يتجاوز العاشرة هو ذاته الكامنة في الأعماق. كان اللاشيء هو الوجود الحقيقي الرحب خارج رصيف مدينة متصحرة يتناثر في احد ارصفتها ميزان مكسور ووجوه متحلقة حول طفل لم يتجاوز العاشرة يقعد مقرفصاً على حافة عالمه المهدور وحصته المتناثرة وحظه العاثر.

 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك


Create Account



Log In Your Account