أحفاد عبهلة وابن إسحاق
الأحد 17 فبراير ,2019 الساعة: 10:23 مساءً

شهدت «الإمامة الزيدية» - بعد وفاة «المنصور» الحسين بن «المتوكل» القاسم - تغيراً نوعياً في مَسارها السياسي، استقرت وراثة في ذريته، فعمل الأخيرون على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من علماء السنة المُجددين، ليس حباً فيهم؛ وإنما حفاظاً على عروشهم، مُستفيدين من عدم إجازة هؤلاء للخروج على الحكام.

  

عاشت صنعاء خلال تلك الحقبة حراكاً فكرياً وثقافياً، برز فيه عدد من العلماء المُجتهدين، كان العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والعلامة محمد بن علي الشوكاني أبرزهما على الإطلاق، وكانت لجهودهما أثرها البارز في تنامي ذلك الحراك، كانا قريبين من الحكام، وساهما إلى حد ما، في تهذيب سلوكياتهم، وصناعة أحداث وصمت بالإيجابية، لم يحدث لها أن تكررت خلال تاريخ الإمامة الطويل.

  

برع العلامة ابن الأمير الصنعاني في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرَّد برئاسة العلم، وعمل بالأدلة والاجتهاد، ووهب نفسه لإعلاء كلمة الحق، وناضل في سبيل ذلك في شجاعة نادرة، حتى جرت له مع مُتعصبي «الزيدية» مناظرات كثيرة، وصلت ذروتها خلال العام «1182هـ / 1768م»، عام وفاته.

  

قال عنهم: «جعلوا الحق تبعاً لأهوائهم، ومايزوا بين الناس بأنسابهم لا بأعمالهم»، فاتهموه بهدم المذهب، وعملوا على تشويه سمعته، ثم ناصبوه العداء، وهموا بقتله، وحين لم تنجح مُحاولاتهم في القضاء عليه، عملوا على مُراسلة القبائل الشمالية، واستثارتها لإنقاذ المذهب «الزيدي»، فيما تولى القضاة من «آل العنسي» في برط مهمة التحشيد، والأخيرون من سلالة عبهلة بن كعب بن عوف «الأسود العنسي»، طالبوا صراحة بإخراجه من صنعاء، ثم بدأوا بشن غاراتهم على تلك المدينة وضواحيها، مُتذرعين بذات السبب.

  

كانت تلك القبائل شبه خاضعة لحكمها الذاتي، ولم يكن لـ «المهدي» عباس أي سلطة عليها، شنَّ «ابن الأمير» هجوماً حاداً عليها، وأرخ لغزواتها الجنونية قائلاً: «فإنهم يخرجون مرة أو مرتين من سنة ألف ومئة وثلاثة عشر، ولم تبق جهة من الجهات اليمنية والتهامية إلا هتكوها ونهبوها، وقتلوا من قاومهم»، وزاد على ذلك شعراً، نقتطف منه:

كم أباحوا من كل ما حرم الله

وكم أيتموا من الأطفال

وكم وكم من محارم هتكوها

واستباحوا النفوس والأموال

ولكم يعبثون بالناس دهراً

بقبيح الأفعال والأقوال

  

تعود آخر الغزوات القبلية التي أرخ لها العلامة ابن الأمير الصنعاني إلى ما قبل عشر سنوات من وفاته، قال عنها: «خرجت طائفة كبيرة من جبل برط، من ذي محمد، وذي حسين، قاصدين نهب الرعايا كعادتهم كل عام»، ثم مضى ناقلاً تفاصيلها، مُتحدثاً عن بطولة النقيب الماس، وكيف نكل بهم بقاع جهران «27 ذو القعدة 1172هـ»، قائلاً: «فقتل منهم قتلاً ذريعاً، قيل وصل قريب المائتين، وأسر طائفة من كبارهم، وأرسل إلى صنعاء ستين رأساً من رؤوس قتلاهم أو زيادة على الستين».

  

وفي العام «1174هـ»، قاد القاضي حسن العنسي مجاميع كبيرة من قبيلة برط لغزو صنعاء، أرسل «المهدي» عباس الأمير سندروس بجيش كبير لملاقاتهم، إلا أنهم سلكوا طريقاً آخر، فلم يشعر بهم الأهالي إلا وهم في سعوان، وهنا برزت بطولة الأمير علي بن «المهدي» عباس، «والي صنعاء» الجديد، ذو الـ «23» ربيعاً، تصدى بـ «500» مقاتل لهم، وأجبرهم على المغادرة.

  

أرخ العلامة الشوكاني لتلك الغزوة، وقال عن «المهدي» عباس: «كان يدفع الرعايا ما ينوبهم من البغاة الذين يخرجون في الصورة على الخليفة، وفي الحقيقة لإهلاك الرعية، فكان تارة يتألفهم بالعطاء، وتارة يرسل طائفة من أجناده تحول بينهم وبين الرعية».

  

توفي «المهدي» عباس «19 رجب 1189هـ / 7 سبتمبر 1775م»، تولى ولده علي الإمامة بوصية منه، وتلقب بـ «المنصور»، لم يكد يستقر في كرسي الحكم، حتى جدد رجال قبائل «بكيل» غزواتهم المُعتادة، وصلوا إلى مشارف صنعاء، وطلبوا ما لهم من مقررات، وحينما سمعوا باستعدادات إمامها لمواجهتهم، أظهروا الطاعة، وقالوا: «أنهم إنما وصلوا لغرض السلام على الإمام، وتقبيل أكفه والأقدام»، وعادوا من حيث أتوا.

  

وفي «شعبان 1193هـ / يونيو 1779م» أعاد «ذو محمد» الكرة على صنعاء، وصلوا إلى مشارفها، وظلوا إياما، ثم يمموا خطاهم صوب تهامة، وقد نقل المؤرخ لطف الله جحاف تفاصيل غزوتهم قائلاً: «وراحوا من عصر فقتلوا من وجدوه في الطريق، واستباحوا المسافرين.. حتى هجموا جميعهم خارج بيت الفقيه، فانتهبوا عشاشاً من خوارجه فأثقلوا».

  

حدث ذلك بالتزامن مع تمرد الأمير حسين بن علي «صاحب صعدة»، الذي استغل رفض «إمام صنعاء» إعطاءه الأعطيات، فخرج مسنوداً بقبائل «سحار» صوب تهامة، وهناك انضم «ذو محمد» لنصرته، وعلى أحراش وادي مور دارت مواجهات محدودة بينهم والقوات الإمامية، كانت الأخيرة بقيادة الأمير يحيى بن محسن، انتهت بالصلح، وعلى أن يعودوا أدراجهم.

  

لم يكد ينتهي ذلك العام حتى أعلن الشيخ علي بن راجح الخولاني تمرده، وخرج بأفراد من قبيلته «خولان العالية» إلى آنس، وعاث فيها نهباً وخراباً، أرسل له «إمام صنعاء» بحشد من العساكر بقيادة الأمير فيروز، التقاهم الأخير أثناء رجوعهم بقاع جهران، نكل بهم، وأخذ ما بحوزتهم من منهوبات، وعاد إلى سيده مزهواً بانتصاره.

  

عمل «المنصور» علي، طوال فترة حكمه على رمي القبائل الغازية بقبائل أخرى موالية له، وحين جدد الأمير حسين بن علي، «صاحب صعدة» في بداية العام التالي تمرده، وخرج قاصداً صنعاء بـ «1,300» مقاتل، جلهم من «ذو محمد»، رماهم بقبيلة «همدان»، التقى الفريقان بـ «أم سَرْجَيْن»، انهزم الغزاة بعد أن خسروا عددا من الضحايا، ثم توجهوا إلى جبل النبي شعيب، وفيه تحصنوا لعدة أيام.

  

لمواجهة ذلك الخطر المُتربص، أرسل «المنصور» علي، بجيش آخر قوامه «1,000» مقاتل، جلهم من نهم وأرحب، بقيادة الأمير عباس بن إسماعيل، وفي «بوعان ـ بني مطر» كانت المواجهة، هزم الغزاة، وخسروا هذه المرة أكثر من «70» قتيلاً، احتزت رؤوس بعضهم، وتم إرسالها إلى صنعاء.

طالب «الهمدانيون» من «المنصور» علي بتعويضات مالية نضير مساندتهم له، وحين لم يجبهم؛ تصالحوا مع «ذي محمد»، وعقدوا حلفاً لمواجهة أي خطر يهددهم، ليخرج في منتصف ذات العام «1194هـ» القاضي عبدالله بن حسن العنسي بمجاميع من «ذي حسين ـ برط»، وأفراد من «ذي محمد»، لغزو صنعاء.

  

حط الغزاة رحالهم في «ذهبان ـ بني الحارث»، وعاثوا فيها نهباً وخراباً، ثم توجهوا صوب منطقة «بير العزب»، ومارسوا فيها ذات التصرف، وباقي التفاصيل أتركها للمؤرخ جحاف، حيث قال: «ثم راحوا عن عصر وقصدوا دار سلم، فوجدوها حصينة، فعطفوا على سناع وحدة، ووجدوا جمالاً للوقف محملة فراش جامع سنع ومسجد السيالي فنهبوها، واستقروا بهذه المحلات بعد أن أخرجوا أهلها من بيوتهم نحواً من عشرة أيام، وأحرقوا أبواب البيوت وطاقاتها، وأتوا على ثمار الجوز، ثم وقع الصلح من الإمام على ترحلهم وتسليم بعض ما هو لهم معتاد، وتأخير البعض».

  

كانت غالبية الغزوات القبلية التي حدثت خلال تلك الحقبة انفرادية، وبدوافع اقتصادية بحتة، لا تتعدى الرغبة بالفيد والغنيمة، حاول متعصبو «الزيدية» وبعض الأمراء «القاسميين» استغلال ذلك التوجه المشين، ولم يعدموا المبررات الدينية المحفزة له، وتجييره سياسياً بما يخدم هواهم، ويجاري طموحاتهم، تماما كما فعل «الهادي» يحيى بن الحسين ومن تبعه من الأئمة من قبل.

  

كان القضاة من «آل العنسي» ـ أحفاد عبهلة ـ السباقين في ذلك، وهم من عرفوا بتعصبهم المذهبي، وتشيعهم لأي طامح «علوي» يستنجد بهم، لتبرز بمساندة منهم حركة معارضة قوية تبناها الأمير علي بن أحمد بن محمد بن إسحاق، كبير «بيت إسحاق»، كان الأخير «جارودياً» مُتعصباً، غادر صنعاء وعدد من أفراد أسرته إلى أرحب «رجب 1194هـ»، خلع فيها بيعة «المنصور» علي، وقيل أنَّه أعلن نفسه إماماً.

 

اقضت دعوة الأمير أحمد مضاجع «المنصور» علي، في البداية، وحين رأى أنها لم تلق من باقي القبائل أي استجابة، وبعد معارك محدودة، غض الطرف عنها، ووجه عساكره بقيادة الأمير زياد لإخماد تمرد قبيلة «خولان»، التي جددت هي الأخرى خروجها إلى بلاد آنس، وعاثت فيها نهباً وخرابا.

  

التقى الأمير زياد «الخولانيين» في منطقة «الشرزة ـ سنحان»، تمكنوا من قتله، فيما دخل أغلبهم بواسطة أصحابه مذلة الأسر، وفي صنعاء أمر «المنصور» علي، بضرب أعناق «30» منهم، علقت في «باب اليمن»، الأمر الذي ولد مزيداً من الضغائن والثارات، سنأتي على تناولها تباعاً.

  

وفي «شوال» من العام «1196» خرجت قبائل «بكيل» خروجها المُعتاد، حطوا رحالهم خارج مدينة صنعاء، و«المنصور» علي، يجري لهم الأرزاق، اجتاحوا بعد ثلاثة أشهر منطقة «الرحبة»، فـ «أهلكوا زرائعها، وأعنابها، وأخربوا بيوتها، وملكوا حصوناً»، استغل الأمير علي بن أحمد تمردهم، وتوجه إليهم طامعاً بنصرتهم، تدارك «إمام صنعاء» الأمر، بذل لهم الأموال، فعادوا إلى بلدانهم، وعاد «ابن إسحاق» إلى أرحب خائباً.

 

جدد «البكيليون» في منتصف العام التالي خروجهم إلى «الرحبة»، بقيادة القاضي عبدالله بن حسن العنسي، ناصروا «ابن إسحاق» هذه المرة؛ بدعوى حماية المذهب «الزيدي»، انكسروا عند أسوار مدينة صنعاء، فتوجهوا إلى المناطق المجاورة، «قطعوا الطرق، ونهبوا الأموال، وسفكوا الدماء»، خرجت قوات إمامية كبرى لملاقاتهم، لتدور في أحراش منطقة حدة معارك شديدة «22 جماد الثاني 1196هـ / 7 يونيو 1782م»، أسفرت عن قتل العشرات من الجانبين، من ضمنهم قيادات عليا في الدولة.

  

بعد هزيمتهم، أكمل «البكيليون» مسيرهم جنوباً، وفي الطريق مارسوا سلوكهم المحبب في النهب والتخريب، ليتعرضوا في يريم لهزيمة مُذله، خسروا فيها «15» رجلاً، كانت بعدان وجهتهم التالية، استقروا فيها لثلاث سنوات، وقاموا بعدة محاولات هجومية غير ناجحة على المناطق المجاورة، دفع السكان المسالمون ثمنها كثيراً.

 

وفي المقابل، كانت هناك محاولة يتيمة من قبل «المنصور» علي، لإخضاعهم، أرسل قوات قبلية من «نهم، وخولان» بقياده الأمير مرجان صنعاني، إلا أن القاضي العنسي نجح في شراء ولائهم، انضم بعضهم إلى صفه، فيما عاد مرجان إلى سيده خائباً، مطالباً إياه بأموال خسرها على تلك الحملة، فكان مصيره السجن.

  

ضاق «ابن إسحاق» ذرعاً من صاحبه العنسي، وتصرفاته الانفرادية، وبدأ بمراسلة قريبه «المنصور» علي، طالباً عفوه، وتمكن وولده إسماعيل وعدد من أنصاره من الهروب ليلاً، دخل صنعاء وسط ترحيب كبير من إمامها وسكانها «2 ربيع الآخر 1199هـ / 1 يناير 1785م»، استقر في الروضة مدة، وإليه بدأ متعصبو «الزيدية» بالتوافد.

  

استمرت قبائل برط بشقيها «ذي حسين، وذي محمد» بغزواتها الجنونية، وحين توافد جماعة من الأخيرة على «ابن إسحاق»، استشعر «المنصور» علي بالخطر، وقبض من فوره على قريبه «1210هـ»، ووضعه وولده إسماعيل في قصر صنعاء تحت الإقامة الجبرية، أفرج بعد ثمان سنوات عنه، وبعد عامين كانت وفاة الأمير الطامح «8 جماد الأولى 1220هـ / 1805م»، عن «71» عاماً.


Create Account



Log In Your Account