نيبور في مملكة الإمام
الأربعاء 13 فبراير ,2019 الساعة: 01:54 مساءً

كان لـ «المنصور» الحسين بن «المتوكل» القاسم جارية إفريقية سمراء، تُيم بها، وتزوجها، ولفظ وهو نائم بجوارها أنفاسه الأخيرة «23 ربيع الأول 1161هـ / 6 مارس 1748م»، عن «54» عاماً، كتمت خبر وفاته، وسارعت بالاتصال بقاضي القضاة يحيى السحولي، وحملته على إسناد الأمر لولدها عباس ذو الـ «30» ربيعاً، ولم ينقضِ ذلك اليوم إلا والأخير مُتربعاً على عرش الإمامة، مُتلقباً بـ «المهدي».

كان من المُتوقع أن يخلف الإمام المتوفي ولده الأكبر علي، إلا أنَّ الأمر صار لأخيه غير الشقيق «المهدي» عباس، بمؤامرة دبرتها والدة الأخير، ـ كما سبق وأشرنا ـ أخذ الإمام الجديد من أمه لونها وطيبتها، وأخذ أيضاً بعضاً من جبروت أبيه، حبس صنوه علي لـ «11» عاماً، ولم يفرج عنه إلا إلى القبر.

عارض «المهدي» عباس عام قيامه الأمير أحمد بن محمد شرف الدين، أعلن الأخير دعوته من كوكبان، وتلقب بـ «المؤيد»، مُتذرعاً بأنَّه الأكثر علماً ودراية، أذعن بعد جولتين من الحرب للصلح، ورضي بحكم كوكبان باسم «الدولة القاسمية»، مُضافاً إليها بلاد حفاش وملحان، ولم يكد يستقر بإمارته، حتى تمرد عليه أخوه إبراهيم، مُحاولاً قتله، أفشل ذلك التمرد «ذو الحجة 1163هـ»، وزج بأخيه المُتمرد في السجن لـ «14» عاماً.

بالتزامن مع ذلك، أعلن أحد فقهاء الصوفية ويدعى «الحشاش» من بلاد العدين تمرده، ومنها مدَّ نفوذه إلى جبل راس وحيس، أرسل «المهدي» عباس عدة حملات عسكرية لإخضاعه، ثم أتبعها بحملة كبرى بقيادة الأمير أحمد بن محمد بن إسحاق، التقاه الأخير بمدينة حيس «1162هـ»، هزمه شرَّ هزيمة، واحتز رؤوساً كثيرة من أصحابه، وقدمها قرباناً لـ «إمام صنعاء».

لم يمض من الوقت الكثير، حتى أعلن الأمير أحمد بن محمد بن إسحاق هو الآخر تمرده، توجه وعدد من أقاربه شمالاً، وحين ارتفعت وتيرة مطاردة «المهدي» عباس له، ولم تلتف حوله القبائل، توجه إلى بلاد وصاب، المنطقة التي سبق وأقطعها «المنصور» الحسين أسرته، وهناك أعلن نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «الهادي»، اتخذ من «الدّن» مقراً له، وفيها حاصرته القوات الإمامية لعدة أشهر، ليذعن بعد ذلك للصلح، مُلتزماً بدفع نفقات العساكر الذين خرجوا ضده، عاد بعد ذلك إلى صنعاء، وكانت علاقته مع إمامها على أحسن حال.
بعد أربع سنوات من تولي «المهدي» عباس الإمامة، ظهرت فتنة ـ وقيل ثورة ـ أحمد الحسني الشهير بـ «أبي علامة»، وهو «علوي» النسب، توجه من المغرب إلى مكة المُكرمة، ومن الأخيرة إلى «اليمن الأعلى»، استقر في بلاد الشرف، ففتن به سكانها، وتشيعوا له، وصاروا دعامة دعوته التي لم تستمر طويلاً.

طالب «أبو علامة» بملك اليمن «رجب 1164هـ»، وسيطر بأنصاره ـ وكانوا كُثر ـ على شهارة وعدد من المناطق المجاورة، وامتد نفوذه إلى «حاشد، وبكيل»، نكل بقبائلها، وخرَّب خلال شهر واحد «90» حصناً، وعنه قال ابن الأمير الصنعاني: «وأذلت القبائل الذين كانوا قد طاولوا الجبال، ونالوا من الجبروت والغي أرفع منال.. حتى هدم الله بناءهم، وأطفأ نارهم، وأظهر عجزهم وبوارهم، بظهور هذا الدرويش الذي هدم الحصون، وأباد تلك القرون، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».

أرسل «المهدي» عباس بجيوش كثيرة لإخماد ذلك التمرد، وحين لم ينجح في إيقاف توسعات قائده، عمل على تشويه سمعته، واتهامه بالسحر والشعوذة، ولم تخمد تلك الفتنة إلا بقتل «أبي علامة» على يد أفراد من قبائل «قحطان ـ عسير»، كانوا لتوهم قد قدموا لنصرته، لتتوجه أصابع الاتهام صوب «إمام صنعاء»، أرسلوا برأس الصريع إليه؛ وثبتوا عليه التهمة.

كانت لـ «المهدي» العباس محاولة يتيمة لاستعادة لحج وعدن لحضيرة «الدولة القاسمية»، أرسل الشيخ عبد الرب بن أحمد بن وهيب العلفي عامله على قعطبة لذات المهمة, إلا أنَّ السلطان عبدالكريم بن فضل صدَّ زحوفات الأخير، وأجبره على المغادرة، وقيل غير ذلك، ليتهم «إمام صنعاء» صاحبه بأخذ رشوة من «سلطان لحج»، مقابل انسحابه ذاك.

لم يمض من الوقت الكثير، حتى دبت القطيعة بين «المهدي» عباس والشيخ عبدالرب، رفض الأخير التوجه إلى صنعاء، وقام بثورة هدفها الانفصال بـ «اليمن الأسفل» عن حكم «الدولة القاسمية»، أسوة بلحج وعدن، أرسل إليه الإمام بـ «3,000» مقاتل، بقيادة محمد بن عبدالله الوادعي، غريمه، ومؤجج ذلك الصراع.

نجا الشيخ عبدالرب بأعجوبة، هرب من قعطبة إلى الحجرية، وتحصن بقلعة «الدملؤة»، وهزم فيها جيشاً آخر أرسل لإخضاعه، ليتحول بعد ذلك من الدفاع إلى الهجوم، سيطر على جبلة لبعض الوقت، وأخذ أموالاً من سكانها، كما اجتاح قلعة موزع، وكاد أن يستحوذ على مدينة المخا ومينائها النشيط.

أمام تعاظم ذلك الخطر، عمل «المهدي» عباس على مصالحة السلطان عبدالكريم «1170هـ / 1757م»، الذي بدأ هو الآخر يتخوف من طموحات الشيخ عبدالرب التوسعية، ولصاحب «هدية الزمن» رواية مغايرة، مفادها أنَّ «سلطان لحج» هو البادئ بطلب ذلك الصلح، جاء فيها: «أرسل السلطان عبد الكريم بن فضل السيدين أبا بكر بن محمد، والسيد العيدروس بهدية قيمة إلى الإمام, فعاد الوداد بين الإمام والسلطان».

تم التنسيق بين «إمام صنعاء» و«سلطان لحج» على مهاجمة الحجرية، والانقضاض على الشيخ عبدالرب كطرفي كماشة، ما إن علم الأخير بذلك، حتى سارع بشن هجوم كاسح على لحج، سيطر عليها، وحاصر مدينة عدن لخمسة أشهر, ليتراجع عن الأخيرة بعد أن خضع السلطان عبدالكريم للصلح, وسلم له مقابل انسحابه ذاك أموالاً كثيرة، في الوقت الذي لم يحرك فيه «إمام صنعاء» ساكناً.

هناك لغط كبير حول شخصية الشيخ عبدالرب العلفي، ففي الوقت الذي عمد فيه مؤرخون متأخرون على القول بأنَّه من منطقة الحجرية، ونعته ببطلها، كشف مؤرخون معاصرون لتلك الأحداث غير ذلك، فهذا صاحب «النفحات المسكية» قال أنَّ «المنصور» الحسين ولى والده الشيخ أحمد بن وهيب منطقة الحجرية «1153هـ»، وأنَّه شاركه في محاربة الأمير أحمد بن «المتوكل» القاسم «حاكم تعز» آنذاك.

وذكر ذات المؤرخ أنَّ «حاكم تعز» استنجد حينها بقبائل يافع لنصرته، وأنَّ الشيخ أحمد بن وهيب وولده تصدوا لتلك القوات في يفرس، هزموا «اليوافع»، وقتلوا السلطان قحطان، وأسروا أخاه الشيخ أبي بكر، ليختلف بعد تلك المعركة الأب وولده، أفرج الأخير عن الشيخ الأسير، رافضاً لأوامر والده في إرساله إلى صنعاء، غضب «المنصور» الحسين من ذلك، وحين قام الشيخ عبدالرب بزيارته، وجه بحبسه لعدة أيام، ثم أطلقه وأرسله لمساعدة والده.

كانت للشيخ عبدالرب بعد ذلك حروب وخطوب مع «حاكم تعز»، تنقلت ما بين جبل صبر وجبل حبشي، انتهت بأسره في يفرس «1159هـ»، أخذ عليه الأمير أحمد عهوداً ومواثيق، ثم أطلق سراحه، وحين آل الأمر لـ «المهدي» عباس، عينه الأخير عاملاً على الحجرية مكان أبيه المتوفي، ثم ولاه على العدين، ومن بعدها قعطبة.

أما تعز، فقد آل حكمها بعد وفاة الأمير أحمد بن «المتوكل» القاسم لولده الأكبر عبدالله «1162هـ»، وحين توفي الأخير بعد عشر سنوات، اختلف أخوته «على، ويحيى، ومحسن»، منافسين لولده عبدالكريم ذو الـ «13» ربيعاً، استولى كل واحد منهم على جزء من المدينة المنكوبة، فاستبدت بها الوحشة، واستوطنها الخراب.

راسل الأمير الصغير عبدالكريم «المهدي» عباس طالباً نجدته، فأرسل الأخير بالنقيب الماس على رأس قوة كبيرة لذات الغرض «1173هـ»، عززها بقوات من «حاشد» بقيادة الشيخ ناصر الأحمر، انكسرت تلك القوات على أسوار مدينة تعز، فما كان من «إمام صنعاء» إلا أن راسل الشيخ عبدالرب طالباً مصالحته، عارضاً عليه الاعتراف به حاكما على الحجرية إن هو ساعده في اقتحام تعز، وحلف لشهود الصلح سبعة أيمان مغلظة بأن يفي بوعده.

بعد تلكؤ شديد، وافق الشيخ عبد الرب العلفي على الصلح، وتوجه بالفعل لمناصرة القوات الإمامية المحاصرة لمدينة تعز، وحين تحقق النصر؛ طلب «المهدي» عباس منه ومن الأمراء «القاسميين» المتمردين الحضور إليه، ولولا ضمانة النقيب الماس والشيخ ناصر الأحمر ما توجه الشيخ عبدالرب لحتفه.

دخل الشيخ عبدالرب صنعاء مزهواً بأفعاله، وسط ترحيب كبير من الأهالي، وما أن وصل إلى الحضرة الإمامية، حتى أمر «المهدي» عباس بتجريده من سلاحه، وصبغ وجهه ويديه باللون الأحمر، والطواف به عارياً فوق جمل، ووجهه إلى الخلف، لم تتحمل أخته ذلك المشهد، فرمت بنفسها من سطح أحد المنازل، ولقت حتفها وسط ذلك الموكب التعزيري وأخوها يتفرج، ليلحق بها بعد ثلاثة أيام، بعد أن تلقى صنوفاً شتى من العذاب المُذل.

وصلت إلى اليمن منتصف العام «1176هـ»، بعثة دنماركية، برئاسة المهندس كارستن نيبور، وهو عالم ألماني متخصص في الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، وعضوية كلا من: فون هافن لغوي، وكريستيان كرامر طبيب، وجورج بورنفايند رسام، وبيرغن جندي، وبيتر فورسكال عالم فيزياء وأحياء، وهي أولى الرحلات العلمية الأوربية إلى اليمن، تبناها الملك فريدريك الخامس.

التقت البعثة «المهدي» عباس بعد ستة أشهر من وصولها اليمن «7 محرم 1177هـ / 19 يوليو 1763»، وذلك بعد أن توفي أحد أعضائها في المخا، وآخر في يريم، وقد نشرت تفاصيلها المأساوية بين دفتي كتابي: «من كوبنهاجن إلى صنعاء»، و «المادة التاريخية في كتابات نيبور عن اليمن».

نقل كارستن نيبور في مذكراته تفاصيل مهمة عن أحوال اليمن خلال تلك الحقبة، ولولاه ما عرفنا تفاصيل ثورة الشيخ عبدالرب السابق ذكرها، تحدث عن «إمام صنعاء»، وحاشيته، وأنصاره المتنافسين على طاعته، ووصفه بنبرة عنصرية قائلاً: «لولا بعض الصفات الزنجية فيه، لاعتبرته رجلاً صالحاً».

كما تحدث عن الخراب الذي لحق مدينة تعز وضواحيها بسبب صراع الأخوة الأعداء، قائلاً: «هدمت الحرب معظم المنازل، وجعلت الحقول والبساتين شبه مهجورة»، ونقل وصفاً دقيقاً لحال سكانها المُنهكين من ظلم الأئمة، والمتذمرين من كل شيء حولهم، حتى من أنفسهم.

كما قام نيبور برسم أول خارطة جزئية لليمن، توفر فيها قدر كبير من الدقة، أسماها «مملكة الإمام»، وضع حدودها من «المخا، والحجرية» جنوباً، و«اللحية، وعفار، وبيت ادهم» شمالاً، و«ذيبان، وذمار، ويريم» شرقاً، كان هو الناجي الوحيد من تلك الرحلة، وعاد إلى الدنمارك وبحوزته «70» صندوقا لمخطوطات يمنية نادرة في مختلف العلوم.

شهد عهد «المهدي» عباس استقراراً نسبياً، وسجل عليه المؤرخون مثالب قليلة، مقارنة بمن سبقه وتبعه من الأئمة، ولعل أهمها جشعه في امتلاك الأراضي، حتى انتهى به الأمر إلى شراء الأوقاف، وأكل زكاته، والمناقلة بينه وبين أملاكه البعيدة، بحجة أنَّ من أوقفها من «كفار التأويل»، يضاف إلى ذلك إصراره على امتلاك غيلي «الأسود، والبرمكي»، وبحكم قضائي، بحجة أنه قام بتجديدهما من ماله الخاص، رغم استغراب العامة، ومعارضة العلماء والقضاة العلنية لتصرفه، صادر أموال الأخيرين، ومضى بأطماعه حتى النهاية.


Create Account



Log In Your Account