القاسم الرهيب
الخميس 07 فبراير ,2019 الساعة: 01:20 مساءً

بوفاة «المهدي» محمد بن أحمد «صاحب المواهب»، صفت الإمامة لابن أخيه «المتوكل» القاسم بن الحسين «22 رمضان 1130هـ / 2 أغسطس 1718م»، جعل الأخير من مدينة صنعاء عاصمة له ولمن بعده من الأبناء والأحفاد، مُؤسساً بذلك لحكم أسرته، ولأكثر من «120» عاماً.

كان «المتوكل» القاسم بشهادة كثير من المؤرخين ظلوماً غشوماً، عُرف بـ «القاسم الرهيب»، وكان عهده مليئاً بالمجاعات والتمردات والأحداث الدموية الصادمة، استوزر وزيري سلفه - صديقيه القديمين - صالح بن علي الحريبي، ومحسن الحبيشي، ولأنه كان يضاهيهم في أساليب الجور والمكر والخديعة، لم يستطيعا السيطرة عليه، كما سيطرا على عمه «صاحب المواهب» من قبل، لم يدرك الشاعر الحسين بن علي ذلك؛ فكتب إليه ناصحاً:
واجعل لك الصلاح عوناً فإنهم
هم الناس لا غدر لديهم ولا مكر
فلا خير في دنيا تزول وإثمها
سيبقى ولا يبقى لصاحبها ذكر

كان «المنصور» الحسين بن القاسم بن «المؤيد» محمد، في تلك الأثناء باقياً على دعوته، مُسيطراً على شهارة وضواحيها، قَدِم إليه «شيخ حاشد» علي بن قاسم الأحمر مُعتذراً، طالباً مساعدته في استعادة منطقة «نجرة ـ حجة»، والتي سبق وأن استولى عليها «المتوكل» القاسم، وحين لم يبلغه «إمام شهارة» مرادة، «لم يلتفت الأحمر إلى ذلك، بل أجهد نفسه، وسار إليها، فانتهب أهلها، وعاث وقطع أشجارها.. ورجع إلى بلاده بعد أن أفظع وفعل الفعل المهين»، كما قال «أبو طالب».

توفي «المنصور» الحسين، في شهارة «شعبان 1131هـ»، عن «51» عاماً، فخلفه أخوه الحسن، مُتلقباً بـ «المؤيد»، بايعه أهالي تلك الجهة، ثم ما لبث أن أعلن تنازله لـ «المتوكل» القاسم، بعد أن أقطعه الأخير بلاد وصاب، أما أولاد إسحاق بن «المهدي» أحمد بن الحسن، فقد حصرهم ابن عمهم «إمام صنعاء» في المخا، جاعلاً على «اليمن الأسفل» ولده الأكبر الحسين.

لم يكد ينتهي ذلك العام، حتى استدعى «المتوكل» القاسم ولده الحسين من «اليمن الأسفل»، وأرسله حاكماً على عمران، ومن الأخيرة استدعى ولده أحمد، وأرسله مكان أخيه، ليعلن أهالي الحجرية بعد عامين ثورتهم بقيادة الشيخ حسن السوا.. قاد الأمير أحمد حملاته العسكرية إليهم، و«كرر فيهم الكرات، وأمده والده بالأجناد، فساق إليه القبلة بأجمعها» ـ كما قال «أبو طالب» ـ وتمكن بعد حروب وخطوب من إخماد تمردهم، وسجن قائدهم.

كان «المتوكل» القاسم، يتوجس خيفه من أقاربه، استبقى الطامحين منهم بجواره، وشدد عليهم الحراسة، وكثف عليهم العيون، وحين لم يستطع استمالة «صاحب كوكبان» الأمير محمد بن الحسين بن عبدالقادر إلى صفه، لجأ إلى الحيلة، وبالفعل نجح بالقبض عليه «1133هـ»، وحبسه لأكثر من عام.

انحصرت صراعات «القاسميين» شمالاً، ضاق أبناء القبائل الشمالية من ذلك ذرعا، وتوجهوا بغزوات انفرادية غرباً وجنوباً، خاصة بعد أن ألفوا الحرب، واعتاشوا أثناء مناصرتهم لأئمتهم في الحروب التوسعية السابق ذكرها على الفيد والغنائم، إلا أنَّ تحركاتهم هذه المرة كنت بدون رضى أسيادهم، الذين دلوهم على ذلك الطريق، ثم انشغلوا بصراعاتهم البينية.

حدثت أولى الغزوات القبلية المُنفردة في العام «1123هـ»، حيث توجه الشيخ ناصر بن جزيلان، والشيخ علي بن قاسم الأحمر بقوات قبلية كبيرة من «حاشد، وبكيل» غرباً، اجتاحوا تهامة، وعاثوا في مناطقها المُسالمة نهباً وخراباً، لتقوم بعض تلك القبائل - بعد «11» عاماً- بالتوجه جنوباً، هجموا على قعطبة «1134هـ»، وتصدى لهم حاكمها الأمير عبدالله بن طالب، وأجبرهم على العودة من حيث أتوا.

وعن الغزوة الأولى وما تبعها من غزوات، كتب العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، ملحمته الشعرية البديعة «يا ساكني السفح»، نقتطف منها:
عن اللحية هل وافاكمُ خبرٌ
تفيضُ منهُ من الأعيانِ أعيانُ
تجمعت نحوها من كلِ طائفةٍ
طوائفُ حاشدٍ منها وسفيانُ
وذو حسينٍ وقاضيها وقائدها
درب الصفا وقشنونٌ وجشمانُ
أسماءُ شرٍ وأفعالٌ مقبحةٌ
طوائفٌ مالهم يمُن وإيمانُ

جدد «ابن الأحمر» في ذات العام عصيانه، فأرسل اليه «المتوكل» القاسم في العام التالي بعساكر جرارة، بعضهم من السودانيين ـ جيش «صاحب المواهب» النظامي ـ وذلك بالتزامن مع حدوث مجاعة شديدة، جعلت النصر من نصيب «إمام صنعاء»، «فخمدت نار الأحمر وانطفت، وأخذ ما كان بيده من جميع البلاد»، حد توصيف «أبي طالب».

لم يكتفِ «المتوكل» القاسم في إقصاء بني عمومته وتحييدهم؛ بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ أخذ ما تحت أيديهم من أموال ومدخرات، وألزمهم أن يدفعوا الزكاة؛ خوفاً من أن يزيد المال في أيديهم، ويتمردوا عليه، كما عمل على الانتقاص منهم، وأمعن في إذلالهم، وكلف أحد عماله المُتجبرين ويدعى أحمد الشجني بتحصيلها منهم «1135هـ»، في الوقت الذي أعفى القبائل المساندة له من دفعها، وأغدق على كبرائها بالأموال والهدايا.

والأسوأ من ذلك؛ أنَّه سعى لملاحقة المتذمرين منهم، زج بهم في سجونه الموحشة، ونكل بالآخرين، ليتهمه بعضهم بالتحريض على قتل الحسين بن طالب، والتستر على الجاني، قريبه الذي لم يكتفِ بقتل الضحية؛ بل قطّع جثته إرباً إربا، في جريمة اهتزت لها مدينة صنعاء وضواحيها، وعنها قال العلامة ابن الأمير الصنعاني مخاطباً ذات الإمام:
لما قد رأينا في الحسين بن طالب
وتقطيعه ملقى بجنب المقابر
وبان لكم من غير شك غريمه
ولكن طرحتم فوقه ثوب ساتر
وحابيتم الجاني لأجل قرابة
وخشية أن يخزيكم في المحاضر

استاء «القاسميون» من تلك التصرفات، وكان تذمرهم الأكبر من العامل الشجني؛ فكيف لواحد من العامة يتأمر عليهم، وهم السادة الأقحاح، أرسلوا وفودهم لمراجعة «المتوكل» القاسم، وكان غاية مطلبهم أن يسلموا له الزكاة دون وسيط، إلا أنَّه لم يلتفت إليهم، ولم يعرهم أي اهتمام، الأمر الذي أنعش في نفوسهم الرغبة في التمرد والانتقام، هربوا في العام التالي إلى «مدر ـ أرحب»، ومعهم الأمير محمد بن الحسين بن عبدالقادر، والأمير محمد بن اسحاق، ونصبوا الأخير إماماً.

تلقب الإمام الجديد بـ «المؤيد»، وهو من أنصار «إمام شهارة» الراحل «المنصور» الحسين، لم يدم بقاؤه في أرحب طويلاً، خاصة بعد أن تخلى عنه بعض أولئك الهاربين، توجه شمالاً، واستقر في بلاد «شاطب ـ سفيان» مدة، ومنها بدأ ببث رسائله إلى الأقطار، إلا أنَّه يلق الاستجابة المطلوبة، أما «ابن عبدالقادر»، والذي كان من جملة خاذليه، فقد توجه هو الآخر إلى كوكبان، طامحاً في استعادة حكم أجداده بيت «شرف الدين».

اضطر «المتوكل» القاسم حينها أن يصالح الشيخ علي الأحمر، ومن خمر توجه ولده الأمير الحسين إلى أرحب، نكل بأهل الأخيرة، وأخرب منازل كثيره، ثم توجه لملاحقة «ابن عبدالقادر»، قبض على الأخير، وقادة إلى والده مقيداً بالأغلال، ليتفنن إمام صنعاء في تعذيبه، موجهاً بحبسه في سجن زيلع.

أما «المؤيد» محمد بن إسحاق، فإنَّه بعد حروب وخطوب، وبعد أن رأى ميلان أنصار «الزيدية» لصف ابن عمه «المتوكل» القاسم، توجه قبل أن ينتهي العام «1137هـ» إلى «ظفار ـ ذيبين»، مؤثراً فيها الاستقرار، ومنها وبمساعٍ من العلامة ابن الأمير الصنعاني أعلن تنازله عن الإمامة على عدة شروط، منها أن يفرج إمام صنعاء عن عدد من أقاربه، وأن يقطعه بلاد الروس، ويعطيه «2,000» قرش من عائدات ميناء المخا، وهو ما كان.

وصلت في العام التالي جموع قبلية من أرحب إلى صنعاء، «فكثرت منهم أذية الناس والنهب والتخطف»، كما أشار «أبو طالب»، وحين خرج «المتوكل» القاسم ذات جمعة لاستعراض عساكره «23 رمضان 1138هـ»، وأثناء تسابق فرسانه، مالت الخيل فأفزعت القبائل المُحتشدة لرؤية العرض، أطلق أحدهم النار، فأردى أحد الجنود قتيلاً، فما كان من «القاسم الرهيب» إلا أن قتل بصاحبه «100» أرحبي، وأسر «600» آخرين، وقد شبه أحد الشعراء الرؤوس المقطوعة بالدنانير المنثورة، وجعل من سيده إسلام آخر، قائلاً:
شفت كمد الإسلام والبغي راغم
عزيمة فتك ساعدتها عزائم
نثرت دنانير الوجوه على الثرى
كما نثرت فوق العروس الدراهم
ألا فاتبع الرأس الذي جب عنقه
لهم ذنباً فالله بالقتل حاكم
ولست مليكاً هازماً لنظيره
ولكنك الإسلام للشرك هازم

أعلنت قبيلة أرحب «نكفها» العام، وتداعى رجال القبائل الشمالية للانتقام، هجموا على الروضة، وعاثوا فيها وفي جامعها الكبير نهباً وخراباً، لتدور بعد ذلك حروب وخطوب، حُزَّت فيها رؤوس كثيرة، أمر «المتوكل» القاسم بتعليقها فوق اسوار تلك المدينة، ارتعبت القبائل من هول المشهد، فهمدت، وهمد إمام صنعاء في الجانب الآخر، وتفرغ للعبادة وقراءة القرآن.

كان عهد «المتوكل» القاسم ـ بشهادة كثير من المؤرخين ـ أسوأ من عهد سلفه «المهدي» محمد بن أحمد «صاحب المواهب»، وقد لخص العلامة ابن الأمير الصنعاني تلك المقارنة شعراً، وخاطب ذات الإمام قائلاً:
وقد كنتم ترمون من كان قبلكم
بظلم وجور قد جرى في العشائر
وقلتم نرى المهدي قد بان جوره
لكل سميع في الأنام وناظر
صدقتم لقد كان الظلوم وإنما
بظلمكم قد صار أعدل جائر

اختلف «المتوكل» القاسم، قبل وفاته مع أقرب الناس له، ولده الأمير الحسين، كان الأخير يتطلع لزيادة نصيبه بالإقطاع أسوة بأخيه الأمير أحمد «حاكم تعز»، ورغم أنَّ والده أقطعه الحديدة وحراز، إلا أنَّه لم يقتنع بذلك، استغل سخط القبائل الشمالية، وسعى لتمتين علاقته مع كبرائها، ومع «شيخ حاشد» علي الأحمر بالذات، وقاد بنفسه الجموع الغاضبة صوب مدينة صنعاء.

التقى الجمعان، ولم يظفر أحدهما بنصر، فتدخل العلامة ابن الأمير الصنعاني وأصلح ذات البين، ليدخل الأمير الحسين مدينة صنعاء بمجاميعه القبلية «21 رمضان1139هـ / 22 إبريل 1727م»، وأبوه طريح الفراش، وقيل أنّه لم يكترث لمرضه، ولم يقم حتى بزيارته، ليلفظ «المتوكل» القاسم في اليوم التالي أنفاسه الأخيرة.


Create Account



Log In Your Account