حصار الجمهورية (4) معارك جانبية.. دعم محدود
السبت 02 فبراير ,2019 الساعة: 12:27 صباحاً

كان لـ «الجيش الشعبي» دور بارز خلال ملحمة الـ «70» يوماً، وحين بدأ الحصار كان ثمة مجاميع قبلية من «قيفة، وحاشد، ومراد» داخل العاصمة، ساهموا في صد هجوم «الملكيين» في لحظاته الأولى، إلا أن دور هذه القبائل تجسد أكثر في «معارك جانبية»، خارج المدينة المحاصرة.

  

كانت قيادات عليا لا تحبذ توافد القبائل إلى صنعاء، بحجة أن المؤن قليلة، ولا تكاد تكفي من هم فيها أصلاً، حتى الفريق العمري نفسه لم يكن متحمساً لذلك، وكان دائماً ما يردد بأنه لا يعتمد عليها، وأنها «في النهار معنا وفي الليل مع الجنيه الأحمر».

 

 ومن هنا برز خيار فتح جبهات قتال خلف خطوط العدو، تستوعب تلك الجموع، وعلى الأخص الصادقة منها، وعلى الفور ضُربت القوى الملكية في «حجة، وصعدة، ورداع، ويسلح»، وقطعت الطرق التي كانت تمدهم بالمقاتلين، وبالمؤن، والسلاح، خف الضغط على العاصمة المحاصرة، وحوصر المحاصرون.

  

قبل أن يبدأ الحصار بأيام، كانت قوات ملكية بقيادة الأمير عبدالله بن الحسن «صقر العروبة»، هكذا كانوا يلقبونه، تحاول اختراق «حاشد» لإذلالها، إلا أن أفراد من تلك القبيلة أوقفوا تقدمها، بمساعدة مجاميع من «برط»، كانت «سفيان» حينها ملكية صرفة، فيما «الجمهوريون» فيها لا يزيدون عن العشرة أفراد، تمركزت القوات الملكية في أطرافها، ومعها عدد من مشايخ «بكيل»، بعضهم غادر الصف الجمهوري، بفعل اغراءات المال والسلاح، باستثناء قلة قليلة من مشايخ «برط».

  

اقتحم «الملكيون» منتصف «يناير1968»، مدينة «حرف سفيان»، وأجزاء من «الجبل الأسود»، وحين لم يستطيعوا تجاوز الجبل، ارسلوا للمقدم أحمد علي فاضل البرطي، قائد «حرف سفيان» بمجموعة من المشايخ، لكسبه إلى صفهم، وقالوا له: «ما بقي إلا أنت معترض طريقنا، وصنعاء لا بد منها، وننصحك أن تأخذ مصروف لك وأصحابك، وتترك المواقع، ونلتزم عن الأمير صرف مقرر شهري»، رفض طلبهم، فاشتد الضغط على قواته، وكان «الجبل الأسود» على وشك السقوط.

  

بعد أيام قليلة، وصلت تعزيزات قبلية كبيرة، بقيادة مجاهد ابو شوارب، جلهم من «حاشد»، تحول «الجمهوريون» من مربع الدفاع، إلى مربع الهجوم، تقدموا صوب «سفيان»، وبدأوا يضغطون على صعدة نفسها، وقد ساهم هذا التحول بدفع كثير من القبائل البسطاء، إلى القيام بعمليات جريئة في «سحار»، وهو الأمر الذي تكلل باغتيال الأمير عبد الله بن الحسن فيما بعد.

  

كانت مدينة حجة لحظتها محاصرة، ومن «سفيان» تحركت قوات «أبو شوارب» إليها، وساهمت مع القوات المرابطة داخلها، بفك الحصار عنها، كما شهدت «رداع» معارك ضارية بين «الجمهوريين» وأنصار الملكية فيها، بقيادة الشيخ المتمرد عبدالله جرعون، وصل بعضها إلى حد الاشتباك في الشوارع، نجحت القبائل الجمهورية بإفشال سيطرة «الملكيين» على المدينة، ومن ثم الاستيلاء على أسلحتهم، وإرغامهم ولو بصورةٍ مؤقتة على الالتزام بدفع الزكاة للحكومة، لأول مرة في تاريخ الجمهورية.

  

قبل أن يبدأ حصار صنعاء بثلاثة أسابيع، كانت عدن تشهد إحدى فصولها الدامية، ضمن سلسلة صراع «الإخوة الأعداء»، هذه المرة بين عناصر «الجبهة القومية» و«جبهة التحرير»، والتي انتهت بإقصاء الأخيرة، وفي تعز وجد أعضاء «جبهة التحرير» أنفسهم أمام معركة أخرى، هي أحق أن يبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الانتصار لها، كان معسكر «الحوبان» الإطار الذي يحتويهم، وعندما أشتد الحصار كان ما يزيد عن «350» منهم يسطرون أبهى لحظاتهم النضالية في تخوم «يسلح»، لغرض فتح طريق «صنعاء - تعز».

  

قصدوا «النقيل» وأحلامهم تسبق خطاهم، يحملون أرواحهم على أكفهم، ليقدموها قرباناً لهذا الوطن المُنهك، وكان الاحتشاد هناك بموجب مبادرة أطلقها كلاً من محمد عبده نعمان «وزير الوحدة حينها»، وهاشم عمر إسماعيل، - أستشهد في ذات النقيل- وسعيد محمد الحكيمي، وبالليل بن راجح لبوزة، ونصر بن سيف، وذلك باعتبارهم «تنظيم شعبي»، لا جيش دولة، ولا مقاومة شعبية.

   

ذات نهار وصلوا إلى «بلاد الروس»، تحديداً إلى منطقة «خدار»، بعد أن سيطروا على مواقع هامة لـ «الملكيين»، إلا أن قيادة الحملة في «معبر» لم تسمح لهم باستعمال الأسلحة الثقيلة، ما سبب إحباطاً كبيراً للقوات المهاجمة، فخسرت «جبهة التحرير» نحو «45» شهيداً، غير الأسرى الذين تم التنكيل بهم في «جحانة»، رداً على اسر أحد المرتزقة الأجانب، وقتله.

  

بعد أيام قليلة، قامت القيادة بحملة ثانية صوب «يسلح»، «النقيل» الكارثة، وقد سطر المهاجمون، وهم خليط من «جيش، ومقاومة، وقبليون»، صفحات مشرقة في تاريخنا النضالي، سقط المئات منهم بين قتيل وجريح، «50» شهيداً من أعضاء «جبهة التحرير» وحدها.

  

تحدث بعض من شارك في تلك الحملتان، من أعضاء «جبهة التحرير»، عن وجود خيانة من قبل بعض أفراد القبائل المجاورة، الذين سلموا مواقعهم لـ «الملكيين»، كما لم يسلم أحمد العنسي «قائد معسكر معبر» من ذات الاتهام، الأمر الذي ولد خلافات في صفوف «جبهة التحرير»، بين مؤيد ومعارض لتلك المشاركة، وكانت حجة المعارضين أن معركتهم الرئيسة في عدن.

  

قامت القيادة بعزل ومعاقبة الخونة، وقادت حملة ثالثة صوب ذات «النقيل»، لم يشارك أعضاء «جبهة التحرير» فيها، بفعل الخيانة التي لدغوا منها مرتين، ورغم فشل المحاولات بصيغها الثلاث، إلا أنها لعبت دوراً كبيراً في تخفيف الضغط على صنعاء، وأشغلت «الملكيين» في ذات المحور، وكبحت اندفاعاتهم نحو العاصمة.

  

وقد تحدث المناضل عبدالغني مطهر أنه قام بتجميع حوالي «4,000» مقاتل من تعز وحدها، شاركوا في معارك «يسلح»، لينظم بعضهم لأقرانهم من محافظتي إب والبيضاء، مشاركين في فتح طريق «الحديدة- صنعاء»، بمساعدة فاعلة لقبائل «بني مطر»، بقيادة الشيخ أحمد علي المطري، وبالتحام هذه المجاميع القبلية الكبيرة، مع القوات المسلحة القادمة من صنعاء، تحقق النصر، وفك الحصار.

مما لا شك فيه أن جلاء الاستعمار البريطاني من الجنوب، مثل نقطة فارقة في توازن القوى، حرم «الملكيين» من شريان حيوي هام، كان يمدهم بالمال والسلاح، بل أن قواتهم خلال الخمس سنوات الماضية، كانت تتلقى تدريباتها في معسكرات خاصة، داخل الأراضي الجنوبية، وفي أكثر من مرة استخدم الإنجليز سلاحهم الجوي لصالحهم، وقد تجسد ذلك بالفعل عند احتلالهم لمدينة «حريب»، قبل حصار صنعاء بأيام.

  

وليس من المُستبعد، كما أفاد جار الله عمر ـ أحد أبطال الحصار ـ في إحدى كتاباته، أن عملية الجلاء هي من دفعت قوى التخلف للإسراع في حصار صنعاء، بدليل قيام المملكة العربية السعودية بإرسال وزير خارجيتها إلى لندن، لحث الإنجليز على تأجيل انسحابهم، حتى تحسم معركة صنعاء.

 

برغم أن حكومة الاستقلال التي شكلتها «الجبهة القومية» كانت تعاني من مخاض الولادة العسير، إلا أن النظام الوليد لم يغفل مسئوليته الوطنية تجاه صنعاء المحاصرة، شكل لجنة مركزية لدعم «المقاومة الشعبية»، دأبت على إرسال كل عون «مادي وعسكري» ممكن، وأوفدت لجنة من قبلها إلى الشمال، لمعرفة الأوضاع السياسية والعسكرية عن قرب.

  

كما قامت «الجبهة القومية» بملاحقة العناصر التي كانت تدعم «الملكيين»، واغتيال من ثبت تورطهم، مثل العميل «فدامة» وآخرين، وقامت أيضاً بإصدار البيانات السياسية الداعمة، وحشد المواطنين للانخراط في صفوف المقاومة، وتحركت الجماهير في شوارع عدن، بمسيرات غاضبة، وكان شعارهم: «كل شيء من أجل حماية صنعاء»، وبعد رمضان تحول إلى: «كل شيء من أجل فك الحصار عن عاصمة شعبنا التاريخية»، وكلاهما كانا امتداد لشعار: «الجمهورية أو الموت»، الذي عم صداه أرجاء الوطن.

  

كما أرسلت «الجبهة القومية» حوالي «450» من مقاتليها، للمساعدة في فك الحصار عن صنعاء، وقد تجسدت تلك المشاركة حين قامت قوة من الجيش الجنوبي والمليشيا الشعبية مع قوة من الجيش الجمهوري في ذات اليوم الذي فك فيه الحصار عن العاصمة، بالهجوم على القبائل الموالية لـ «الملكيين» في المناطق الشرقية، وقد استطاعت في الأخير أن تحرر مدينة «حريب» من أيدي «الملكيين».

   

كما قامت «الجبهة القومية» بمعركة «مسورة» من أجل تطهيرها من القوى المعادية، ومدت «المقاومة الشعبية» فيها بالكثير من المؤن والسلاح، وكُلف «قائد لواء إب» بالتواصل مع علي عنتر «قائد منطقة الضالع»، وطلب العون بما هو متاح.

  

الأشقاء في الجزائر كان لهم دور لا ينسى، وفي أوج الحصار قدِم الشريف بالقاسم، وخطب في الجماهير بميدان التحرير، وسلم شيكاً بمبلغ مليون دولار، وكذلك سوريا رغم موقفها العسكري الصعب، أرسلت عشرة طيارين، كما وجه جمال عبد الناصر بإرسال أكثر من خمسة ملايين طلقة رصاص «شرفا، وجرمل» بكراتين المانجو، حتى لا يلام على نقضه اتفاقية الخرطوم، وقدمت حكومته قرضاً بـ «40» مليون جنيه.

  

الاتحاد السوفيتي هو الآخر قَدَّم العتاد، والوقود، والغذاء، والخبراء، والطائرات، فيما الصين الشعبية ارسلت مساعدات مادية وعسكرية، وظلت سفارتها وسفارة سوريا صامدتان داخل العاصمة، طول فترة الحصار.


Create Account



Log In Your Account