إمامة المماليك والنساء
الثلاثاء 22 يناير ,2019 الساعة: 05:39 مساءً

أثناء سيطرتهم على «اليمن الأعلى»، عمل «الأيوبيون» ومن بعدهم «الرسوليون» على تنصيب ولاة من قبلهم على تلك المناطق، كان أغلبهم من «الأكراد»، وحين ضعفت «الدولة الرسولية» استقر غالبية هؤلاء الأمراء ومماليكهم في ذمار، استغلوا الصراع «الزيدي ـ الزيدي»، وصاروا صُناع أحداث داخل دولة الإمامة نفسها، في سابقة مُلفتة لم تشهدها تلك الدولة «الثيوقراطية» من قبل.

  

لم يسيطر «المهدي» على بن محمد على معظم مناطق «اليمن الأعلى» إلا بمساعدة هؤلاء الأمراء ومماليكهم، زوج ولده «الناصر» صلاح الدين محمد من فاطمة بنت الأسد الكردي، واستطاع بمساعدة والدها تثبيت أركان دولته، بعد أن جعله والياً على ذمار، وكانت نتيجة تلك المصاهرة حفيده علي، الذي تولى الإمامة يوم دفن والده في صنعاء «ذي الحجة 793هـ / نوفمبر 1391م»، وعمره آنذاك «18» عاماً.

  

تلقب الإمام الصغير بـ «المنصور»، وبويع في اليوم نفسه لقريبه الأكبر منه بعشر سنوات أحمد بن يحيى، تلقب الأخير بـ «المهدي»، وهو جد أسرة «شرف الدين»، مال كثير من العلماء حينها لصف معارضه، تخلى بعضهم عن شرط الاجتهاد، وقالوا بجواز مُبايعة المفضول مع وجود الفاضل.

  

رغم أنَّ «المهدي» كان الأكثر علماً ودراية، وتمت مبايعته وفق شروط المذهب «الزيدي»، مال غالبية العلماء عنه، ليتهمهم ابنه الحسن بأخذ رشوة من منافسه، وكان أشهر المتهمين القاضي عبدالله الدواري، والعلامة محمد الوزير، وقد ألف الأخير كتاباً أسماه: «الحسام المشهور في الذب عن دولة الامام المنصور»، أثنى فيه على ذات الإمام، وأشار إلى صلاحه، واهتمامه بالعلم والعلماء.

  

بعد أن رأى «المهدي» ميلان غالبية علماء «الزيدية» لمنافسه القوي؛ خرج إلى بيت بوس مُتمرداً، وهناك حاصره «المنصور» لـ «13» يوماً، ليذعن بعد أن تدخل القاضي «الدواري» للصلح، على أن يتم مناقشة أمر الإمامة من جديد، واختيار من هو أهل لها.

  

عاد الجميع إلى صنعاء، وبدأ الإمامان في تحشيد أنصارهما، وعلى غفلة من منافسه الذي تقوى بوالدته وبأخواله «الأكراد» ومماليكهم، خرج «المهدي» إلى القبائل الشمالية، حظي بمساندتها ومساندة «الحمزات»، استولى الأخيرون على صعدة، وحاصروا صنعاء لثلاثة أشهر، وكانت بالفعل على وشك السقوط.

   

دارت حروب وخطوب بين الجانبين، وفي أكثر من جهة، انتهت مُنتصف العام «794هـ» بأسر «المهدي» في معبر، وقتل «80» رجلاً من اصحابه، اقتيد إلى صنعاء، وفيها تم حبسه، وإلى «المنصور» علي كتب الهادي بن إبراهيم مُستعطفاً في فك قيوده، قائلاً:

ألم يك جـدك المهـدي خـالاً

له وكفـى بـذلك في الرحامـه

سـألتك أن تـبرد منـه سـاقًا

نحيفًـا قيـده أوهـى عظامـه

  

ومن هجرة «قطابر» أعلن «الهادى» علي بن المؤيد بن جبريل ذو الـ «40» عاماً نفسه إماماً «محرم 796هـ»، مؤسساً بذلك دولة «زيدية» في شمال الشمال، وهو أيضاً من نسل «الهادي» يحيى، وممن بايعوا «المنصور» عام قيامه، حاول الاستيلاء على مدينة صعدة، وبويع له في «خولان الشام، والأهنوم، وبلاد الشرف».

  

بعد سبع سنوات من الحبس، نجح «المهدي» بالهرب، توجه إلى «فللة ـ  صعدة»، حيث «الهادي» علي، تحالف مع الأخير، وقيل أنَّه تنازل له عن الإمامة، ليقضي «المنصور» علي ـ فيما بعد ـ على تلك الدولة الضعيفة، أخذ صعدة بعد حصار دام سنين، فيما استمر «المؤيدي» في ضواحيها مُحاولاً استعادتها حتى وفاته «محرم 836هـ».

  

أما «المهدي» أحمد، فقد أثر الاستقرار في «ظفير ـ حجة»، مُنكباً على الاطلاع والكتابة، وكان قد ألف أثناء فترة حبسه كتاب «متن الأزهار»، المرجع الأشهر في الفقه «الزيدي»، وفيه ظهر تعصبه المذهبي وبقوة، بدليل قوله الدعائي:

فدع عنك قول الشافعي ومالك

وحنبل والمروي عن كعب الأحبار

وخذ من الناس قولهم ورواتهم

روى جدي عن جبرائيل عن الباري

  

وفي المقابل، لم يكن «المنصور» علي مُتعصباً لمذهبه؛ بل كان على وفاق مع علماء السنة، استناب الفقيه علي العمراني على صنعاء قاضياً وحاكماً، رغم أنَّ الأخير «شافعي» المذهب، ولم يأبه باعتراض مُتعصبي «الزيدية» على ذلك، وإليه قدم بعض علماء «اليمن الأسفل» راجين عطائه.

  

كان عهد «المنصور» أقرب إلى الملك، لأسباب عدة؛ أبرزها أنَّه لم يكن مستوفٍ لشروط الإمامة، كما كان لأمه «الكردية» ولمماليك جده ووالده دور بارز في ذلك التحول، كانت والدته قوية مهابة، أدارت الحكم أثناء غيابه عن صنعاء باقتدار، وكانت تباشر بنفسها تجهيز الحملات العسكرية إلى المناطق المضطربة القريبة والبعيدة عن ذات المدينة.

  

كانت علاقة «المنصور» بـ «الرسوليين» في أغلب فترة حكمه هادئة ومستقرة، أرسل بداية عهده بهدايا الصداقة للسلطان «الأشرف الثاني» إسماعيل، آخر سلاطين «بني رسول» الأقوياء، كان الأخير بشهادة كثير من المؤرخين كريماً مُهابا، أعلنت معظم القبائل «الزيدية» خاصة تلك القريبة من حدود دولته ولائها له، وكذلك فعل بعض «الحمزات»، أرسل جميعهم وفودهم إليه، ونالهم من عطائه الكثير.

  

استغل السلطان «الرسولي» بداية عهده الصراع «الزيدي ـ الزيدي»، وحاول أكثر من مرة السيطرة على ذمار، وحين فشل، اكتفى بالسيطرة على رداع، بواسطة نائبه الشيخ طاهر بن عامر، وما أن شاع خبر وفاته «18 ربيع أول 803هـ»، حتى استعاد «المنصور» زمام المبادرة، وقام بعدة محاولات لاستعادة السيطرة على رداع، انتهت بعد ثلاثة أعوام بالصلح، وبأن تنازل له «الطاهريون» عن إحدى القلاع الحصينة.

  

أعاد «المنصور» الكرة على «الطاهريين»، ـ حكام رداع باسم «الدولة الرسولية» ـ فما كان منهم إلا أن استنجدوا بالسلطان «الناصر» أحمد بن «الأشرف» إسماعيل «820هـ»، أنجدهم الأخير بقوات جرارة قادها بنفسه، أوقع بـ «الإماميين» شرَّ هزيمة، أخذ «الطاهريون» بعد ذلك في تقوية أنفسهم، في الوقت الذي أخذ فيه «الرسوليون» يزدادون ضعفاً، خاصة بعد وفاة ذات السلطان «جماد الأول 827هـ».

كانت لـ «المنصور» حروب كثيرة مع «الإسماعليين»، اجتاح ثلا، ثم توجه صوب معقلهم الحصين في «ذي مرمر»، حاصره لسنة وثلاثة أشهر، وأخرج «بني الأنف» منه «شعبان 829هـ»، وعن تلك الموقعتان قال أحمد الشامي:

وقد فتح المنصور بالله أرضهم

ببيض المواضي والردينية السمر

أبعد ثلا يرجى لحصن سلامة

وذي مرمر سامي الذرى سامي القصر

  

توفي «المنصور» علي، في صنعاء «محرم 840هـ / 1437م»، وهو العام الذي حلَّ فيه وباء «الطاعون»، ومات بسببه الآلاف من اليمنيين، منهم منافسه «المهدي» أحمد، الذي لحق به في الشهر التالي، وولده «الناصر» محمد، الذي حكم لـ «40» يوماً فقط، لتتحكم زوجة الأخير الأميرة فاطمة بنت الحسن بن صلاح، ومملوك زوجها قاسم بن عبدالله بن سنقر بالأمر.

  

حين رأت الأميرة فاطمة عدم رضا العامة عنها، أجمعت ومسانديها على اختيار صلاح بن علي ـ من نفس الأسرة ـ إماماً وزوجاً، تلقب الأخير بـ «المهدي»، وعزم بعد عدة أيام على التخلص من المملوك سنقر، إلا أنَّ الأخير أحبط محاولته، وزج به في السجن، لتنجح زوجته بإخراجه، أخذته معها إلى صعدة، وهناك كان لها الأمر والنهي دون منازع.

  

نصب المملوك سنقر في صنعاء الناصر بن محمد إماماً، وهو من نسل «المظلل بالغمامة»، كان صغير السن، قليل العلم، تلقب بـ «المنصور»، تيمناً بـ «المنصور» علي، جده لأمه مريم، لتنجح الأخيرة بتهريبه حين وقع الخلاف بينه وبين ذات المملوك، وذلك بعد أن طلت وجهه باللون الأسود، والبسته لبس الجواري، توجه إلى «حصن هران ـ ذمار»، واتخذه مقراً له، وإليه غالبية انظم مماليك وعبيد جده.

  

«الحمزات» من جهتهم استغلوا ذلك الصراع، وأعلن المُطهر بن محمد الحمزي من الأهجر نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «المتوكل»، استدعاه المملوك سنقر إلى صنعاء، وأعلن تأييده له، ليخرجا معاً وقبل أن ينتهي ذلك العام لمحاربة «المنصور» الناصر، وفي قرية «قريس ـ جهران» كانت المواجهة.

  

استعان الإمام الناصر بـ «الطاهريين»، وبهم انتصر، أسر مُعارضه الإمام المُطهر، وأمر بحبسه، كما أمر بقتل قاسم سنقر، ليدخل بداية العام التالي صنعاء دخول الفاتحين، بعد أن انتصر بالخديعة على زيد ابن المملوك الصريع، وذلك بالتزامن مع هروب «المتوكل» المُطهر من سجنه في ذمار.

  

تقوى بعد ذلك أمر المطهر، توجه شمالاً، وحظي بمساندة بني عمومته «الحمزات»، وكانت أغلب حروبه مع «المهدي» صلاح، أخذ عليه صعدة، بعد أن ناصره سكانها، وإلى الإمامين أرسل أحمد الشامي بقصيدة طويلة مُنتقداً ومحرضاً إياهما على التوجه جنوباً، نقتطف منها:

هلا سالت مطهراً وصلاحا

هلا حصل للمسلمين صلاحا

أم جهزا جيشاً للبلدة طاهر

يروي التراب بها دماً سفاحا

ويذيق ساكنها الحِمام وتمتلئ

تلك النواحي والحصون نواحا

 

بعد خمسة أعوام من الصراع، استعاد «المهدي» صلاح السيطرة على صعدة، ملأ سجونه بغالبية سكانها، ونهب منها أموالاً كثيرة، وخرج قاصداً صنعاء «846هـ»، التقاه «المنصور» الناصر بسفح جبل نقم، هزمه شرَّ هزيمة، وغنم أمواله، وزج به في السجن، ثم توجه بقواته المُنتشية بالنصر صوب صعدة، سيطر عليها، ولم يترك للأميرة فاطمة سوى بعض الحصون، ليصطلحا بعد عامين، وذلك بعد أن زوجته بابنتها بدرة ابنة زوجها المتوفي «المهدي» محمد.

  

وبالعودة إلى أخبار زوجها الثاني «المهدي» صلاح، فقد توفي هو الآخر في سجنه بصنعاء «ربيع الأول 849هـ»، وذلك بالتزامن مع استعادة «المتوكل» المطهر لنفوذه، سيطر الأخير على بلاد الشرف، وعدد من الحصون، ثم توجه إلى صعدة بطلب من الأميرة فاطمة، وهناك تزوج بابنتها بدرة بعد أن فسخ نكاحها من «المنصور» الناصر.

  

سبق وأشرنا إلى استعانة «المنصور» الناصر بداية عهده بـ «الطاهريين»، إلا أن المودة لم تدم بينهم طويلاً، كانت له حروب كثيرة معهم، كانت في معظمها سجالاً، تخللتها بعضٌ من محطات الصلح، كما كانت له حروب مع «المتوكل» المطهر، الذي تحالف هو الآخر مع «الطاهريين»، وكانت هي الأخرى سجالاً.

  

بعد عشر سنوات من الصراع، نجح الإمام الناصر بالسيطرة على صعدة مرة أخرى، قبض على الأميرة مريم وأعوانها، واقتادهم مقيدين إلى صنعاء، فيما نجحت ابنتها بدرة بالهرب إلى «خولان الشام»، استعاد «المتوكل» المطهر بعد ذلك زمام المبادرة، نجح في أسر «المنصور»، وكانت نهاية الأخير في السجن.

  

كانت صفحة «الدولة الرسولية» حينها قد طويت، وذلك بعد أن عصفت بها الصراعات الأسرية، والتي كان آخرها بين السلطان «المسعود» صلاح الدين الذي استعاد التهائم وعدن، ليزحف من هناك إلى تعز، لطرد السلطان «المظفر الثاني» يوسف، استغل مماليك تهامة الحرب بين السلطانين، فشددوا قبضتهم على تهامة، ونصبوا الأمير حسين بن «الظاهر» سلطاناً « شعبان 855هـ»، ولقبوه بـ «المؤيد».

  

صار بذلك لـ «لدولة الرسولية» ثلاثة سلاطين، يتنازعون الملك والسيادة، الأمر الذي شجع ولاتهم وحلفاؤهم «الطاهريين» على وراثة الدولة والحكم، دخل الأخيرين عدن «محرم 858هـ / يناير 1454م»، وأسروا «المؤيد» حسين آخر ملوك «بني رسول»، فابتدأت من هناك دولتهم، وفيها أيضاً كانت نهايتهم.


Create Account



Log In Your Account