الطبابة كما النبوة !
السبت 12 يناير ,2019 الساعة: 11:42 مساءً

قبل أيام كنت أتحدث إلى الصديق والزميل باسم سلطان، استشاري عظام، سألته إن كان يفكّر بالهجرة فقال إنه باقٍ في اليمن. هناك دائماً فرصة بعيدة للطبيب، وبمقدوره مغادرة الأراضي المشتعلة والعثور على الحياة في مكان آخر. باسم، مثل كثيرين، قرر البقاء في اليمن، في بلد المخاطر كلها. هذا القرار ينطوي على بطولة ما، ومثل أي بطولة: قد يطالها الفساد.

 

في أول لقاء "صوتي" للمجموعة التي من المفترض أن تنجز وتشرف على التطبيق الطبي سمعت ملاحظة تسخر، بطريقة ما، من الأطباء في اليمن وكان ردي انفعالياً، ولا يزال موقفي كما دائماً: أرفض الإساءة إلى زملاء المهنة الذين يخدمون الناس في بلد أغرقته الكوارث.

 

 أعيش خارج اليمن منذ عشرين عاماً، عدت إليها لأسابيع أو لأشهر خلال فترات متقطعة. زرت اليمن لآخر مرة قبل "حوالي" خمسة أعوام، قبل السقوط. وقبل أسبوعين قدمت نصيحة مباشرة إلى محافظ مأرب: ابنِ مطاراً دولياً، جامعة كبيرة، ومستشفى شامل الخدمة، هذه هي المفاتيح الثلاثة، وستصبح مأرب، مهوى الأفئدة. قلتُ له: ابنها ولسوف يأتون.

 

 أثناء دراستي في جامعة عين شمس عدت إلى اليمن لـأسبوعين بعد السنة الأولى، ومثلها بعد السنة الثانية، وكانت الزيارة الثالثة بعد خمسة أعوام! كانت قصيرة التقيت خلالها بالدكتور عبد الوهاب راوح، وزير التعليم العالي آنذاك، وكان يوم ثلاثاء. وبدلاً عن النظر في الالتماس الذي قدمته، استمرارية المنحة الدراسية، رحنا نتحدث عن مؤلفات الدكتور أحمد أبو زيد وفلسفته. هذه مذكرات شخصية لا تهم أحداً سواي، ما أريد قوله هو: هناك عشرة أعوام في حياتي لم أرَ فيها اليمن بالمطلق. أعدت اختراعها في الكتابة،  مضيت في جبالها ومنحدراتها وصحاريها في "الخزرجي، طريق الحوت، تغريبة منصور الأعرج، وفي إيمان". وذات مرة، الرابعة فجراً، استيقظت رفيقتي ونحن نزلاء في فندق في مدينة هامبورغ، بالقرب من بحر الشمال، وسألتني "إيش اللي مصحّيك هلّأ؟" وقلت لها: أفكّر، إذا كان لأغنية أن يسمعها منصور الأعرج في طريقه من البحر إلى زبيد، فما عساها تكون تلك الأغنية؟

 

بالأمس اطلعت على فحوصات مريضة تعاني من أعراض نقص التروية القلبية، الذبحة الصدرية. أما شكواها فكانت بهذا الوضوح: إذا مشيت مائة خطوة أحس بكتمة نفس، وآلام في الصدروالكتف، فأتوقف عن المشي حتى يختفي الألم. تفضلوا، هذه الفحوصات وجدتها بين أوراق المريضة: فحص البول، فحص الملاريا، وأشياء غير ذات صلة. تقول ترويسة الروشتة العلاجية إن الطبيب يعمل "استشاري قلب". لكل فحص تكلفة معينة، وهناك تقليد في النسخة اليمنية من الطب: إرهاق ميزانية المريض بفحوصات لا تخص حالته الطبية، ثم بقائمة علاج لا يتعلق بأي من كل ذلك، لا بشكواه ولا بنتائج فحوصاته. قلتُ إني أعيش خارج البلد منذ زمن طويل، لذا لم أعط نفسي الحق في الحديث عن المسرح الطبي في اليمن. أعني: حتى الآن. توفيت خالتي قبل يومين، وكانت أيقونة داخل الأسرة، أستطيع القول إنها امتلكت روحاً مليئة بكل عوامل الشفاء. عانت، في أيامها الأخيرة، من مرض شاق لكنها توفيت لأسباب غير متعلقة بمرضها الخطير، وكان ممكناً احتواء تلك الأسباب. وقبل أيام كنت أتحدث إلى الزميل والصديق عبد الحكيم الوجيه، استشاري قلب، فأعطاني روشته وقال "هات تعليقك". قام طبيب ما بكتابة خمسة أدوية مدرّة للبول، دخل المريض في جفاف شديد وفشل كلوي حاد، ولأنه كان طيباً ومسكيناً فإن قوة ما حالت دون موته.

 

في العام ٢٠١٠ عملت لشهرين في مدينة إب، بعد عودتي من مصر. وإب هي محافظة مكتظة بالسكان، والجمال. الخوف من الطبيب، الخوف من الطبيب، هذا ما كنت ألاحظه في وجوه الناس. قال لي مريض، وهو يجلس على سرير الكشف"افحصني سوا وشاشقي لك". وجاء رجل ووضع في يدي ٥٠٠ ريالاً لأني حقنت المريض "كورتيزون"، بسبب نوبة حساسية، فرأى التحسن على وجه شقيقه خلال دقائق. وعاد مريض وطرق باب غرفتي وسألني إن كنت قادراً على أن أفعل شيئاً ضد صادق علي، ونسيت أن أسأله من هو صادق علي، ولماذا عليّ أن أفعل شيئاً ضده. كنت منشغلاً مع مريض آخر. وفي المساء، مساء ذلك اليوم، هاتفني من مكان بعيد، وسألني بصوت متقطع ومرتجف إن كنت قادراً على أن أفعل شيئاً حيال صادق علي، ثم أنهى المكالمة، ولم يعاود الاتصال. انتقلت بعد ذلك إلى صنعاء عملاً بنصيحة من الصديق جلال الشرعبي، وعملت لوقت قصير في آزال قبل أن أغادر إلى ألمانيا. كانت تلك هي أطول فترة قضيتها في اليمن.

 

حدثت الثورة والتحق بها الأطباء، ثم شكلوا مستشفيات ميدانية. وبإمكانات متواضعة ومهارات فائقة قدم الأطباء اليمنيون، الجراحون تحديداً، خدمات طبية أسطورية واستطاعوا في أحيان كثيرة إرباك شهوة "الموت" المتلألئة في عيني صالح. أتذكر تلك الأيام حين كان المستشفى الميداني يقوم بعشرات العمليات الطارئة، وكانت نسبة "الحياة" عالية. عندما عدت إلى صنعاء، 2013، وكنت أكتب "جدائل صعدة"، وأمشي في  صنعاء لأتخيل الطريق الذي سلكه حسن، أخبرني أحد الزملاء عن مشهد خروج أطباء مستشفى الكويت بالأبيض، والتحاقهم بساحة الثورة، كان مشهداً جليلاً.

 

كما قلت في المقدمة: في بلد أغرقته الكواث تصير مهنة الطب إلى بطولة، ومع الأيام قد يطالها الفساد. ولأن الطبابة مثل النبوة، مهمتها الأساسية صناعة السكينة والأمن، فإن فساد هذه المهن لا يقل خطراً عن الحروب والأوبئة.

 

*نقلاً عن صفحة الكاتب في فيسبوك


Create Account



Log In Your Account