دار الكفر الطاردة للإمامة
الجمعة 11 يناير ,2019 الساعة: 02:21 مساءً

كان عهد السلطان الرسولي الخامس «المُجاهد» علي بن «المؤيد» داؤود، الذي تَولى الحكم أواخر العام «721هـ / 1321م» مَليئاً بالتمردات الصادمة، وكان أقساها تمرد عدد من أبناء عمومته، ثم ثلاثة من أولاده عليه، ليتشجع بعض مشايخ الدولة ورجالاتها الفاعلين على رفع راية العصيان، استغل «الإماميون» ذلك، دعموا بعض الأمراء المُتمردين، وبدأوا يخططون للتوسع على حساب الدولة المُنهكة أكثر فأكثر.

قويت في المقابل شوكة «المهدي» محمد بن «المتوكل» المطهر، وذلك بعد «22» عاماً من إمامته، وتحول من الدفاع إلى الهجوم، حارب «الإسماعيليين»، وخرَّب مَنازلهم، واستولى على صنعاء «شعبان 723هـ / أغسطس 1323م»، وانهى في العام التالي سيطرة «الرسوليين» على معظم مناطق «اليمن الأعلى»، وتوجه بداية العام «726هـ» إلى عدن بآلاف المقاتلين، لمُناصرة أحد الأمراء المُتمردين.

لم يَستمر تواجد «المهدي» في عدن كثيراً، غادرها بعد عدة أيام مُنكسراً، وفي حصن «ذي مرمر» كانت وفاته «22 ذي الحجة 728هـ»، عن «64» عاماً، ودفن في صنعاء، ليعلن من بلاد «شظب ـ السودة» علي بن صلاح بن «المهدي» إبراهيم بن تاج الدين نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «الناصر»، وهو كسلفه من نسل «الهادي» يحيى، تأججت بدعوته نار المُنازعات، وثارت حوله الاعتراضات، ولم يطل بقاؤه كثيراً.

سيطر «الحمزات» في تلك الأثناء على مدينة صنعاء، ومن ضواحي الأخيرة، وبدعم منهم أعلن يحيى بن حمزة بن علي نفسه إماماً «2 رجب 729هـ»، تلقب بـ «المؤيد»، وهو أول «حسيني» يتولى «الإمامة الزيدية» في اليمن، قدم جده وأبوه من العراق مع الإمام يحيى السراجي، وهذا الأخير جده لأمه.

كان «المؤيد» عالماً غزير التصنيف، كثير الأنصار، وصلت دعوته إلى «بلاد الظاهر، وصعدة، والشرف»، وفي حصن «هران ـ ذمار» آثر الاستقرار، وأقسم ذات نهار أمام محبيه: أنَّه «ما يعلم من أمير المؤمنين ـ يقصد علي بن أبي طالب ـ إلى وقته من هو أعلم منه».

ومن «حرف سفيان» أعلن أحمد بن علي الفتحي ـ من نسل أبي الفتح الديلمي ـ نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «المتوكل»، وعارضه في ذات الوقت المطهر بن «المهدي» محمد، مُتلقباً بـ «الواثق»، كان الاثنان ضعيفين، قليلي الأنصار، وقيل أنَّهما تنحيا بسبب ذلك لـ «المؤيد» يحيي.

رغم انشغال «الرسوليين» خلال تلك الحقبة بصراعاتهم البينية، وجه «المجاهد» حملة عَسكرية قوامها «11,400» مقاتل مسنودة بـ «المنجنيق» للسيطرة على ذمار « ذو الحجة 738هـ»، نجحوا في ذلك، واقتحموا حصن «هران» معقل «المؤيد» يحيى، واستمر زين الدين قراجا قائد تلك الحملة والياً على تلك الجهة لأقل من عام، تمرد عليه «الأكراد»، وعادت ذمار لحكم «الإمامة الزيدية» من جديد.

كان «المؤيد» يحيى مُسالماً للغاية، لم يُسجل عليه المؤرخون أي أعمال عدائية، عدا محاربته بداية حكمه لـ «الاسماعليين»، وذكروا أنَّه تفرَّغ بعد ذلك للتأليف والعبادة، وأنَّه كان إمام علم أكثر مما هو إمام قتال وسياسة، توفي في «29 رمضان 749هـ»، عن «82» عاماً، ودفن في حصن «هران»، وعلى ظهر قبته كتب «الواثق» المطهر قصيدة طويلة، جاء فيها: 
شرفت ذمار بقبر يحيى مثـل مـا
شرفت مدينة يثـرب بالمُرسـل
فليهن أهل ذمار حـسن جـواره
فيما مضى وكذاك في المُـستقبل

جدد «الواثق» المُطهر بداية العام التالي دعوته، وذلك بالتزامن مع إعلان علي بن محمد بن علي من ثلا نفسه إماماً، تلقب الأخير بـ «المهدي»، وهو من نسل «الهادي» يحيى، كان قوياً عكس أسلافه، عارضه «الحمزات»، وناصره كثيرون.

تنحى له «الواثق» بعد أشهر من دعوته، وقال في خطبة تنحيه: «فأبى الله أن يجعل البسط والقبض، والإبـرام والـنقض، والرفع والخفض، وإقامة السنة والفرض، إلا في مستودع سره، وترجمان ذكره، وولي نهيه وأمره، ومنفذ تهديده وزجره.. الخليفة الولي، المهدي لدين الملك العلي، علي بـن محمد بن علي صلوات الله عليه وسلامه».

كعادة أي إمام «زيدي»، طلب «المهدي» علي، من أنصاره بذل أنفسهم وأموالهم لنصرته، وحين رأى من أهالي صعدة فتوراً وعدم استجابة، طلب من القاضي علي الدواري أن يكتب إليهم قصيدة شعرية، يحرضهم فيها على الجهاد، جاء فيها:
فأين حماة الدين من آل أحمد
وشيعتهم أهل الفضائل والذكر
وأين ليوث الحرب من آل حيدر
وأبناء قحطان الجحاجحة الزهر
وأين الكرام المنفقون تضرعاً
لكسب المعالي والمحامد والذكر

بدأ «المهدي» علي، عهده بمحاربة «الحمزات»، واستئصال شأفتهم، كما نكل بـ «الإسماعليين»، وخرَّب مناطقهم، وذكر مؤرخو «الزيدية» أنَّه «أزال سبع عشرة دولة ظالمة»، حتى دانت له غالبية مناطق «اليمن الأعلى»، وأنَّه جعل من ذمار مقراً لحكمه؛ ليسهل له التمدد جنوباً وغرباً على حساب «الدولة الرسولية».

وبالعودة إلى أخبار «الدولة الرسولية»، فقد تولى السلطان «الأفضل» عباس بن «المجاهد» علي، زمامها وذلك بعد وفاة أبيه في عدن «25 جماد الأولى 764هـ / مارس 1363م»، رغم وجود من هو أكبر منه سناً، ورث عن سلفه تلك الأوضاع المضطربة، وانفتح له ـ حد توصيف «الخزرجي» ـ في كل ناحية باب فساد.

لم يستسلم السلطان «الرسولي» الجديد لليأس، اهتم ببناء الجيش، وعمل بكل ما أوتي من عزيمة وصبر وقوة على تهدئة الأوضاع، أعاد السيطرة خلال الثلاث السنوات الأولى من حكمه على كثير من المناطق التهامية، التي سبق وأن سيطر عليها الأمير المُتمرد محمد بن ميكائيل، لتستعيد الدولة بذلك بعضاً من عافيتها.

وذكر «الخزرجي» أنَّ «الأكراد» وبعض الأمراء «الإماميين» ـ بشقيهم «الحمزي» و«الهادوي» ـ ساندوا السلطان «الرسولي» في حربه تلك، ولم يشر إلى وجود تحالف بينه وبين «الواثق» محمد ضد «المهدي» علي، كما ذكر بعض المؤرخين، وللإمام المتنحي قصائد كثيرة تؤكد طبيعة علاقته مع الجانبين، وتثبت أنَّ تحالفه الأخير كان وقتياً، انتهى بانتهاء ذلك القتال.

أشار «الواثق» محمد في إحدى قصائده أنه قدم لنصرة السلطان «الرسولي» بطلب من الأخير، قائلا:
فلما استوى العباس في الملك وانجلت
دياجير للنظار في جنحها أعشى
دعانا فلبانا نداه بعصبة
ترُش الثرى من ضربها رشا
بهاليل من أبناء فاطمة التي
قضى فضلها في الخلق من خلق العرشا

وفي المقابل، كانت علاقة «المهدي» علي، مع «الرسوليين» شديدة التوتر، تربص بـ «الأفضل» وبدولته شراً، ساند «ابن ميكائيل»، وعمل على دعم «المظفر» يحيى ضد أخيه السلطان، وأمد الأمير المُتمرد بالمقاتلين الأشداء «صفر 766هـ»؛ من أجل الاستيلاء على مدينة حرض، إلا أن محاولتهما وتحالفهما باء بالفشل.

وحين أعلن أشراف «المخلاف السليماني» بعد خمس سنوات تمردهم على «الدولة الرسولية»، أرسل «المهدي» بقوات كثيرة لمساندتهم، اسقطوا حرض، ثم واصلوا تقدمهم جنوباً حتى زبيد، حاصروها «جماد الأولى 771 هـ / ديسمبر 1369م»، لينسحبوا بعد أن عجزوا عن السيطرة عليها إلى «الكدراء»، وفي الأخيرة استقروا لخمسة أشهر.

أرسل السلطان «الأفضل» حملة عسكرية كبيرة لمطاردتهم، بقيادة الأمير أمين الدين أهيف، أدرك «الإماميون» حينها أن لا طاقة لهم بمواجهة تلك القوات، ولوا هاربين إلى «المهجم»، وعادوا قبل أن ينتهي ذلك العام من حيث أتوا.

أعاد «الإماميون» بعد عامٍ وبضعة أشهر الكرة على تهامة، تصدى «الرسوليون» لهم، هزموهم هزيمة مُنكرة، وأجبروهم ومعهم الأمير المُتمرد محمد بن ميكائيل على الهروب، التجأ الأخير بالإمام «المهدي»، أعطاه حصن «المفتاح ـ حجة»، وفيه ظل طريداً شريداً حتى وفاته.

كما تبادل شعراء الدولتين خلال تلك الحقبة مُساجلات شعرية فيها الكثير من التحريض، وهي بمجملها توضح مرارة ذلك الصراع، وفضاعة العداء المستشري بين الجانبين، وحين قال الشاعر «الرسولي» محمد بن الراعي مُخاطباً الإمام «الزيدي»:
أبى الرحمن إلا أن ترانا
لأهل السنة البيضاء سناما
ومن مدح الملوك ينال عزاً
ويَلقى الذُل من مَدح الإماما
وما كالأفضل العباس تلقى
مليكاً لا وراء ولا أماما
عدمنا خيلنا إن لم تروها
على أبواب صعدتكم قياما
وكل جدوده لكم استباحوا
فسوف يكون في هذا لزاما

رد عليه الشاعر «الإمامي» يحيى بن الحسن الصعدي بقصيدة طويلة، خاطب فيها السلطان «الرسولي» قائلاً:
فيا ابن التركمان بأي وجه
تحوز الفضل خلفاً أو أماما
فكم من وقعة دارت عليكم
تركنا المحصنات بها أياما
ويوم زبيد خيمنا عليها
وأقعدنا معاقلها القياما
وأخربنا المساكن حين كنا
بدار الكفر لا نهوى المقاما

ولما كان «المهدي» علي جارودياً مُتعصباً، صرح بعض فقهاء «الزيدية» وبتحريض منه بتكفير مُخالفيهم، وكتب الفقيه يحيى الصعدي رسالة طويلة مليئة بالمفردات المُقززة، خاطب بها أتباع المذهب «الشافعي» قائلاً: «تركتم سفن النجاة، وسلالة الرسول، وتسميتم بأهل السنة والجماعة من الوقاحة وكثرة الخلاعة.. أليس مذهبكم التجويز والجبر، فأخبرونا ما معنى النهي والأمر.. مقالات أخذتموها عن أرسطا طاليس، وعقائد شيخكم فيها إبليس، لتهجمن بكم طرق الغواية إلى النار، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار».

كما شبه أولئك الغلاة المُتعصبون إمامهم بالملاك الآتي من السماء، «لما خصه الله به من البهاء، وأتم له من النور»، حد توصيف أحدهم، وألصقوا به معجزات خارقة، منها: أنَّه مسح على رجل يبست يده حتى أعاد لها الحياة، والمفارقة الصادمة أنَّه ـ أي الإمام ـ أصيب في آخر عمره بالشلل، ولم تُغن مُعجزاته الخارقة عنه شيئاً.

أثناء مرضه الأخير، أناب «المهدي» علي ولده وقائد جنده الأمير صلاح الدين محمد بدلاً عنه، وحين أثر المرض على عقله؛ أعلن نائبه من ذمار نفسه إماماً «صفر 773هـ / أغسطس 1371م»، مُتلقباً بـ «الناصر»، وذلك قبل عام واحد من وفاة سلفه، عن «69» عاماً، نقل جثمان والده المتوفي إلى صعدة، ودفنه بوصية منه جوار «الهادي» يحيى، وكان بشهادة كثير من المؤرخين أسوأ منهما بكثير.


Create Account



Log In Your Account