المُظلل بالغمامة
الجمعة 04 يناير ,2019 الساعة: 10:23 مساءً

«المَلك الأعزل مَهزوم دائماً»، حكمة «ميكافيلية» استشعرها «المظفر» يوسف منذ البداية، فعمل جاهداً على بناء جيش قوي، استقدم لأجل تدريبه الخبراء «المماليك»، فكان ذلك الجيش مَصدر عظمة الدولة، وأساس هيبتها، وبفضله وحد السلطان «الرسولي» الأقوى اليمن الكبير، وامتدت دولته الفتية من شرقي ظفار حتى المدينة المنورة، وجاب صيتها الآفاق.

  

بعد هزيمتهم في معركة «أفق»، وأسر إمامهم «المهدي» إبراهيم بن تاج الدين «ربيع الآخر 674هـ / سبتمبر 1275»، عاش «الإماميون» ـ بشقيهم «الحمزي» و«الهادوي» ـ لحظات قاسية من الضعف والتخبط، راسلوا في الشهر التالي المطهر بن يحيى بن مرتضى، واستدعوه من حصنه «تنعم»، ونصبوه في حصن «حضور» إماماً، بدعم وتحشيد من الأمير صارم الدين داؤود بن عبدالله بن حمزة.

  

كانت للإمام الجديد قبل قيامه حروب كثيرة مع «الرسوليين»، وهو من نسل «الهادي» يحيى، تلقب بـ «المتوكل»، وخاطب أنصاره في خطبة دعوته قائلاً: «أجيبوا داعيكم، ولبوا مناديكم، واتبعوا هاديكم.. منتقمين لإمامكم المهدي بثأره، ناعشين دينكم بعد عثارة، موضحين من مذهبكم طامس آثارة، كايلين لعدوكم بصاعة، ذارعين له ما بلغ من ذراعة، فأنتم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون».

  

فرَّق «المظفر» يوسف بدهائه شمل «الإماميين»، صالح الأمير داؤود، وتفرغ لمحاربة قريبه جمال الدين علي بن عبدالله، وأجبر الأخير على الاستسلام «10 رمضان 676هـ»، بعد أن اشترى ولاء داعمه الرئيس الإمام المطهر بـ «100,000» دينار، وقد ظل الأمير المُستسلم على ولائه لـ «الرسوليين» حتى وفاته.

  

تفاقم بعد ذلك الصراع «الحمزي ـ الحمزي»، وخفت ذكر الإمام «الهادوي»، تخلى عنه أنصاره، وسخر بعضهم منه قائلين: «صمّي صمام، لا خلف ولا أمام»، وفي المقابل ظلت علاقة السلطان «الرسولي» مع الجميع سارية، وكلما استقوى أحدهم، لجأ الطرف المُنكسر إليه؛ طالباً معونته.

  

لم يعاملهم «المظفر» بالمثل؛ بل كان دائماً ما يسعى للوفاق بينهم، أو يكتفي بتقديم المساعدات المالية لمن لجأ منهم إليه، والأهم من ذلك؛ أنَّه استغل مُسالمتهم له، وانشغالهم عنه، ووجه حملاته العسكرية صوب ظفار «678هـ»، وبالسيطرة على الأخيرة تمكن من توحيد اليمن للمرة الرابعة في تاريخها.

  

بعد فتحه مدينة ظفار، هابت «المظفر» ـ كما ذكر «الخزرجي» ـ ملوك الهند والصين وفارس، وأخذ قادة الدول يرسلون إليه هدايا الصداقة، وحين منع ملك الصين رعاياه المسلمين من الختان، استنجدوا بـه، راسل ملكهم، فرفع الأخير عنهم المحظور من فوره.

  

لم تكد أحوال «الدولة الرسولية» تستقر، حتى نقض صارم الدين داؤود الصلح «680هـ / 1281»، اعتدى على حصون جمال الدين علي، وعز الدين محمد، حلفاء «الرسوليين» البارزين، فما كان من «المظفر» إلا أن أعاد السيطرة على صعدة، تاركاً لواليه على صنعاء الأمير سنجر الشعبي مهمة حصار حصن «ظفار ـ ذيبين»، معقل الأمير ناقض العهود.

  

بوفاة الأمير سنجر الشعبي «682هـ / 1283م»، تنفس الأمير المُتمرد داؤود الصعداء، حشد الحشود، وجدد العزم على الاستيلاء على صنعاء، إلا أن الأمير «الحاتمي» بدر الدين محمد بن حاتم ـ صاحب «السمط الغالي» ـ تصدى له، هزمه في حوث، وفرَّق جموعه.

 

كان هم الأمير داؤود الشاغل لم شتات أنصار «الزيدية» من حوله، عمل على إصلاح علاقته بالمطهر بن يحيى، إلا أنه فشل، وسعى إلى إعادة تنصيب الحسن بن وهاس إماماً، ففشل أيضاً، فما كان منه إلا أن توجه بداية العام التالي إلى ثلا، حيث يقطن ابن أخيه إبراهيم بن أحمد، وأعلنه إماما، رغم أنَّه لم يستوفِ شروطها.

  

صحيح أنَّ الأمير داؤود حقق بعض الانتصارات، إلا أن الصراع «الزيدي ـ الزيدي» تفاقم ـ بسبب تصرفه ذاك ـ أكثر فأكثر، وصارت معاركه مع أكثر من طرف، ليتمكن «الرسوليون» في إحدى المعارك من أسر ولده الأمير محمد، فأرسل إلى «المظفر» مُعتذراً: 

فمن مبلغ عني إلى الملك يوسف

أبي عمر معطي الجزيل وواهبه

فشفع أبانا في بنيه فإنه

شفيعك في الذنب الذي أنت كاسبه

  

دخل الأمير نور الدين إبراهيم بن «المظفر» يوسف صنعاء والياً عليها من قبل أبيه «ربيع الأول 683هـ / مايو 1284هـ»، كبح التوسعات الإمامية، وصالح في العام التالي الأمير المُنهك داؤود، بطلب من الأخير، على أن يأخذ منه حصن «قفل ظفار»، مقابل رفع الحصار عن حصن ثلا، وإطلاق سراح الأمير الأسير.

  

وفي «ربيع الأول 686هـ / مايو 1287م»، جدد «المتوكل» المطهر بن يحيى دعوته، مُتحالفاً مع الأمير داؤود، وابن أخيه موسى بن أحمد، نقضوا صلحهم مع «المظفر»، وقادوا جموعهم المُتحفزة صوب مدينة صعدة، اقتحموها، وقتلوا غدراً «80» جندياً رسولياً، وأسروا واليها، فكثرت حينها الأراجيف، وكاد «اليمن الأعلى» أن يخرج من أيدي «الرسوليين»، و«فسدت البلاد من نقيل صيد إلى صعدة».

  

فشل الأمير إبراهيم في إيقاف التمدد الإمامي، فأرسل «المظفر» يوسف بـ «الأشرف» عمر، تمكن الأخير بسرعة خاطفة من هزيمة «الإماميين»، استعاد كثيرا من الحصون، وحصر الإمام المطهر في جبل «تنعم»، والأمير داؤود في حصن «العنة»، وصالحهما في منتصف العام التالي على عدة شروط.

 

وفي تلك الانتصارات قال الأمير محمد بن حاتم مادحاً «الأشرف» عمر:

سموت إلى الثغر المخوف بعزمة

هدمت بها ما كان منه مُمَنَّعا

ومزقت شملاً من عداة تألبوا

وجرعتهم من بأسك السم مُنْقَّعا

  

أرسل «المظفر» يوسف ولده «المؤيد» داؤود حاكماً على صنعاء «ذي القعدة 687هـ / ديسمبر 1288م»، ليتوفى سميه الأمير صارم الدين داؤود بعد عام وبضعة اشهر، فانتقلت زعامة «الحمزات» إلى ابن أخيه سليمان بن القاسم، كان الأخير ضعيفاً للغاية، خفت في عهده ذكر «الحمزات»، وقوي في المقابل ذكر الإمام «الهادوي».

  

نقض المطهر صلحه مع «الرسوليين»، اعتدى على عدد من الحصون، واحتل جبل «اللوز»، توجه «المؤيد» داؤود إليه بجيش كبير «5 محرم 690هـ»، وقتل عدداً كبيراً من أنصاره، ظهر حينها ضباب كثيف اختفى به الإمام الهارب، ونجا بأعجوبة من موت مُحقق، تناقل «الإماميون» تلك الحادثة، وعدوها مُعجزة إلهية تؤكد وقوف الله مع إمامهم، الذي عُرف من يومها بـ «المُظلل بالغمامة».

  

أمام تعاظم التمردات الإمامية، أرسل «المظفر» بولده «الأشرف» عمر إلى صنعاء مرة أخرى «693هـ»، فأطاعته القبائل، «ولم يبق مؤالف ولا مخالف إلا وتاق لخدمته»، فكان لذلك أثره في التمهيد لصلح جديد، وهو ما تحقق مطلع العام التالي.

  

بعد تسعة أشهر وعشرة أيام من توقيع ذلك الصلح، توفي بمدينة تعز «المظفر» يوسف «13رمضان 694هـ»، عن «74» عاماً، وفيه قال الإمام المطهر: «مات التبع الأكبر، مات معاوية الزمان، مات من كانت أقلامه تكسر سيوفنا ورماحنا».

  

تولى «الأشرف» عمر حكم «الدولة الرسولية» بوصية من السلطان الراحل، إلا أن القدر لم يمهله كثيراً، توفي بعد عام وبضعة أشهر، فخلفه أخوه «المؤيد» داؤود، كان الأخير حازماً كأبيه، سيطر على الأمور، واستعاد بعض الحصون التي سبق لـ «الإماميين» أن أخذوها.

  

بعد وفاة الإمام الأعمى يحيى السراجي بعام وسبعة أشهر، توفي بـ «ذروان ـ حجة» الإمام المطهر «12 رمضان 697هـ»، عن «83» عاماً، ولم يكن للأخير ـ كما أشار بعض المؤرخين ـ أي تأثير كبير في مجريات الأحداث؛ كون غالبية علماء «الزيدية» وأنصارها لم يعترفوا بإمامته، ليعلن ولده محمد من حوث نفسه إماماً «701هـ / 1301م»، وتلقب بـ «المهدي».

  

رغم أنَّ أغلب شيعة زمانه لم يقولوا بإمامته؛ كان لـ «المهدي» أنصار مُتحمسون، أغار بهم عام قيامه على عدة مناطق، وسيطر على عدد من الحصون، وكانت له وقائع كثيرة مع «الرسوليين» وحلفائهم «الحمزات»، إلا أنَّ السلطان «المؤيد» تمكن من كبح جماحه، وتفريق أنصاره، تارة بالقوة، وتارة بالأموال.

  

كان «الحمزات» دعامة حكم «المؤيد» داؤود في «اليمن الأعلى»، وكان لانضمامهم وانضمام «الأكراد» أعداء «الرسوليين» التقليديين إلى صف «المهدي» محمد؛ أثره الأكبر في تقوية صف الأخير، جدد بهم حروبه الاستنزافية «709هـ / 1310م»، سيطر على صعدة نهائياً، ووصل إلى أسوار صنعاء، وخاطب السلطان «الرسولي» في غمرة انتشائه قائلاً:

تنح عن الدست الذي أنت صدره

وعد عن الملك الذي حزته غصباً

رويدك أن الله قد شاءَ حربكم

وصيرني الرحمن في ملكه حرباً

سأجلبها شعثا إليك سواريا

مضمرة جرداً مطهمة قبا

  

كان رد «المؤيد» داؤود عليه صارماً، توجه إليه بحملة كبيرة، وأرسل إليه شعراً ذكره فيه بحادثة هروب أبيه في موقعة جبل «اللوز» السابق ذكرها، وهدده قائلاً:

رويدك لا تعجل فما أنت بعلها

سيأتيك فتَّاك يعلمك الضربا

فان تكُ ذا عزم فلا تكُ هارباً

كعادة من قد صرت من بعده عقبا

وسائل جبال اللوز عنا وعنكم

فأفضلكم ولى وخلفكم نهبا

فعاملتكم بالصفح إذ هو شيمتي

وما أنتم تعفون عن واقع ذنبا

  

دخل «المؤيد» داؤود صنعاء دخول الفاتحين، وانقادت إليه القبائل الشمالية مجددةً الولاء والطاعة، فيما تكفل ولده ضرغام الدين حسن بمطاردة «الإماميين»، استعاد كثيرا من الحصون، وأجبر الإمام المُتحفز على التحصن بجبل «رهقة ـ شبام كوكبان».

  

تخلى «الأكراد» عن مُناصرة «المهدي» محمد، وكذلك فعل «الحمزات»، سلموا رهائن الطاعة، وحين يأس الإمام من استمالتهم، أرسل الوسطاء إلى السلطان «الرسولي»، ووقع معه صلحاً مدته عشر سنوات «جماد الآخر 712هـ / أكتوبر 1312م»، وقد كان لوفاة الأمير ضرغام الدين حسن في أواخر ذات العام؛ أثره الأكبر في ضعف «الدولة الرسولية» كما سيأتي.

  

بوفاة «المؤيد» داؤود «1 ذي الحجة 721هـ / 22 ديسمبر 1321م»، وتولي ولده «المجاهد» علي ذو الـ «15» ربيعاً الحكم من بعده، دخلت «الدولة الرسولية» مرحلة الضعف، كون سلطانها الجديد صغير السن، وبلا خبرة سياسية، والأسوأ من ذلك انه كان سيء الظن، سادي الانتقام، أقصى أعوان أبيه، وهمش بني عمومته، فكانت تمردات الأخيرين عليه صادمة.



Create Account



Log In Your Account