ذاكرة طفل
الأربعاء 26 ديسمبر ,2018 الساعة: 07:15 مساءً

لم يكن النهار قد أنتصف، وما كانت الشمس قد أكملت دورتها حتى أنهرت وأنا أنظر نحو وجه أبي وأقول له باكيا: " رجعنا عند امي " .
حاول تهدئتي وهو يعدني بالعودة غدا الى القرية التي خرجت منها بثوب اشتريته من سوق قريتنا للرحلات الطوال.
كل شيء أرعبني في المدينة: البنايات ، السيارات ، الناس وأسلاك الكهرباء في الأعلى.
كل شيء أخافني، حتى أولئك الذين كنت أعرفهم من قبل كانوا قد أصبحوا آخرين.
للمدينة وجه لم اعتده ، وقد حاولت أن أفهمه وربما، ربما فشلت.
كانت سائلة نخلة هي الفاصل بيني وبين العالم.
واعتقدت لعمر طويل، أن من اجتازها لم يعد من عالمنا.
لم يساعدني أحد في كسر تلك الحدود أو تجاوزها.
ويوم وزع أحد المتحمسين كتاب لتلاميذ قريتي بعنوان : "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله "، سألته ما إذا كانت سائلة نخلة هي الفاصل بيننا وبين الغرب الموجودين في الكتاب الذين يريدون القضاء علينا!
وكنت أعتقد أن كل تجمع خلفها، هو تجمعا ضدنا.
ستمر السنون لتخبرني أنى لم أكن وحيدا.
فقد كنت واحدا ممن يعتقدون أن آخر الدنيا عدن, وهكذا ماتوا مع اعتقادهم هذا ، دون أن يشير لهم أحد بوجود غيرنا على الكوكب.
ويوم ودعت منطقتنا عدد من سكانها اليهود الى أرض ميعادهم قال لهم أجدادنا : ستهيمون في الأرض ولن تجدوا مكان للعيش، وها نحن نرى من هام في الدنيا , ولم يجد فيها مستقر.
أجبرت الحرب اليمنيين على الخروج وعلى التعامل مع المدينة التى لم أحتمل وجودي بها نصف نهار.

وهم الآن يدفعون ثمن تجاوز سائلة نخلة التى جفت مياهها بالمناسبة.
تضج هذه الأيام وسائل إعلام تركية بخبر وقوع يمني في فخ عملية نصب كبيرة.
وبغض النظر عمن يمتلك الطاووس الذهبي الذي سرق منه والمقدر ثمنه بمليوني دولار امريكي،فقد تبين كم نحن ضحايا المسافة بيننا وبين العالم،كم نحن ضحايا اجتياز السائلة.
رجل إسمه عواد المصري، يضع إعلان في الانترنت أن لديه طاووس مرصع بالألماس والمجوهرات يريد بيعه بمليوني دولار.
يتواصل معه من سرقوه منه، وأرادوا فقط رؤيته، ثم يضعون المسدس في رأس اليمني ويأخذون الطاووس ويتركونه وحيدا في إسطنبول، ليبدأ رحلة البحث عن ما يقول إنه حقه في دولة يشاهد سكانها إعلان متكرر عن شعب يموتون بلا طعام.

قال لي صديق تركي معلقا على الخبر" اليمنيين مال موجود عقل غير موجود".
ثم التقاني بعد ربع ساعة ليكمل " فقر موجود"!
الطبيعي أن أنتفض بوجهه، أن أرد عليه ، أن أحاول الدفاع.
لكني فقدت الحماسة.
يفقد اليمني حماسته في المطار، يتركها هناك خشية الوزن الزائد.
ويركض متخففا من كل شيء بما في ذلك ذاته وحماسه للأشياء وحدسه السليم. لذلك يغدو كما الريشة وفقا لأبوبكر سالم.
كما الريشة تذروها رياح العالم ثم لا تهبط في مكان.

يوما ما قبل أن يكون لنا جمهورية وإسم واضح على الخارطة وقف ابن تاجر يمني في برلين شاخصا نحو موكب هتلر الذي سار جواره.
وفي المساء كان يكتب رسالة الى الزعيم النازي " يا أعدل من في أوروبا، أنا يمني في بلادك وقد أتيت باحثا عن تاجر سلاح أخذ المال من مولانا الإمام وقال إنه سيبيع لنا البنادق والرصاص ولم أجده في المانيا _ هل تعرف مكانه يا من لو تمكنت من أوروبا لملأتها عدلا "؟

بعدها بفترة قصيرة ملأ النازي أوروبا بالدم والدمار وصور المفقودين.
كان حاكم اليمن قد التقط باحثا المانيا في الحديدة، وكان الباحث بحاجة الى المال، فأوهم الإمام أنه مندوب شركة المانية لبيع السلاح، وهو جاهز للتوقيع على أي عقود، مقابل الحصول على جزء من المبلغ مقدما.
حصل الإمام على عقود وهميه بآلاف البنادق وخمسة ملايين رصاصة.
دفع جزء من ثمنها للباحث المحتال الذي أوهم حاكم البلاد أنه مندوب شركة أسلحة.
بعدها أوفد الامام إبن تاجر الحديدة الشهير وقتها واسمه عمر المزجاجي للبحث عن صفقة الوهم، وذلك الشاب هو من كتب رسائل الى هتلر، ما يزال إرشيف الخارجية الالمانية يحتفظ بها في قسم الغرائب وفقا لسفير اليمن الأسبق هناك أحمد قائد الصايدي.

قبل فترة قصيرة كانت امرأة تقدم محاضرة في دولة أوروبية باعتبارها باحثة فرنسية محايدة متخصصة بالشأن اليمني.
كنت قد تعرفت اليها في اليمن قبل سنوات بصفة أخرى وجنسية قالت إنها لبنانية، ثم بدلتها بعد ذلك وكانت تجري بحثا بتمويل كامل من نظام صالح.
أصبحت تتحدث عن اليمن.
وتقدم الحلول، وتشخص حالنا بحياد كما تقول، وقد كانت بين أوائل من بثوا نظرية الطرف الثالث في قتل المتظاهرين السلميين.

هذا الحياد الذي نبت عقب مقتل صالح يفتك بنا من الداخل والخارج فممن نأخذه؟!
والناس الذين عرفناهم بالداخل قطبوا وجوههم حين ابصرناهم بعيدا عن السور. 


Create Account



Log In Your Account