عن مِحنة المُطرَّفية
الثلاثاء 18 ديسمبر ,2018 الساعة: 03:34 مساءً

تجسدت الخلافات «الزيدية ـ الزيدية» بصورة أعنف، بتمدد «المُطرَّفية»، وهي جماعة تنسب إلى مُطرف بن شهاب، خالفوا السائد من عقائد الاعتزال، وعقائد «الزيدية»، وتخلوا عن شرط «البطنين»، والتفضيل بمجرد النسب، وسعوا لتجريد المذهب «الزيدي» من طبيعته السلالية، وكانوا بعيدين عن أية شائبة عُنصرية مُبتذلة.

أنكروا على عبدالله بن حمزة مُخالفته لبعض نُصوص «الهادي»، واختياراته في الفروع، ليدخل معهم في نقاشات طويلة، قادته إلى تكفيرهم، رغم أنَّهم سبق وبايعوه، وهي حقيقة أكدها كثير من المؤرخين، وأكدها ذات الإمام بقوله: «وأن الشيعة المُطرَّفية أول من أجاب دعوتنا، وأعطى بيعتنا، وشهد بالسر والجهر بإمامتنا».

تنكر «ابن حمزة» بعد ذلك لهم، وقال فيهم: «فإن كانوا صدقوا في الابتداء؛ فقد كذبوا في الانتهاء، وإن كذبوا أولاً؛ فما المانع أن يكونوا في الحالين كاذبين سواء»، وقال في عقيدتهم:

مُطرَّفة عاصت مقال نبيها
ولم تخش في العصيان لومة لائم
فكم فيهم من جاهل متفيهق
كريه المحيا كالكباع حراصم
غدا يدعي أن النبي شبيهه
فأعظم بهذا من عظيمة زاعم

وتبعاً لذلك، اتهمهم «كاتب سيرته» بالنفاق، وقال فيهم: «والشيعة المُطرَّفية مع كثرة عددهم، واتساع هجرهم، يثبطون عنه، ويتربصون به، فإن وقع نصر من الله، واستظهار الإمام عليه السلام، جاءوا إليه يشهدون بالإمامة، ويطلبون الولاية، وإن انتزح عن البلاد، لم يقوموا لله بفرض يلزمهم من جهاد، ولا إقامة جمعة، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر».

بعد هذا التضارب المُسف؛ وجب التذكير أنَّ «المُطرَّفية» لم يتخلوا عن مُناصرة «ابن حمزة»؛ إلا حين توقف عن محاربة «الأيوبيين»، قالوا عنه أنَّه طالب سُلطة، ثم تعاضدوا حول العلامة محمد بن المفضل «العفيف»، الذي كان حينها من أبرز المُتعاطفين معهم، ألزموا الأخير الحجة؛ فجدد دعوته احتساباً.

وزادوا على ذلك بأن جاهروا بمعارضتهم لـ «ابن حمزة»، وهجاه أحدهم ويدعى الحسن بن محمد النساخ بأرجوزة طويلة، شكك فيها بنسبه، وصلنا منها:

فيما روته إن حفظت العلما
ويح الطغاة إن دعوك قيما
في نسب مسترق مذبذب
ملفَّق مروق مضطرب
يقول أصلي من علي والنبي
ما صححت هذا رواة النسبي

صارت مناطق «المُطرَّفية» مثل «سناع، ووقش، وقاعة في جبل عيال يزيد، وبلاد البستان» خاضعة لحكم مُحتسبهم، وهي بمجملها مناطق زراعية توفر فائضاً يسمح بالحصول على موارد، إلا أن وفاة «العفيف» مطلع العام «600هـ» حالت دون قيام «دولة المطرَّفية»، أو بمعنى أصح تمددها.

بدأ «ابن حمزة» بعد ذلك يتربص بأصحاب «العفيف» شراً، نهض إلى «مُدع ـ ثلا»، وخطب هناك خطبة في الناس، أفتى فيها بردة «المُطرَّفية»، وكفرهم، وكتب على جدران إحدى المساجد:
ولقد حلفت وعادتي أني وفي
لا يـدخلنك ما حييت مُطرَّفي
فكتب أحد «المُطرَّفية» تحتها:
أو مـا علمت بأنَّ كـل مُطرَّفي
عما عمـرت من الكنـائس مُكتفي
أنتم ومسجـدكم ومذهبكم معا
كـذبالة في وسط مصباح طُفي

بعد أن اصطلح مع «الأيوبيين»، تفرغ «ابن حمزة» لجماعة «المُطرَّفية»، الذين تكاثروا تحت قيادة أبي الفتح العباسي، وصارت لهم صولات وجولات فكرية في معظم المناطق «الزيدية»، وعزم على التنكيل بهم، وحين بادروا بإرسال مجموعة من زعمائهم وعلمائهم للمناظرة، ونزع فتيل الخلاف قبل أن ينفجر، اعتذر عن ملاقاتهم؛ مُتحججاً بذهابه إلى الجوف، ثم ما لبث أن قال مُهدداً:
لست ابـن حمزة إن تركت جماعة
مُتجمعين بـقاعة للمنكر
ولأتركنهم كمثل عجـائز
يبكين حـول جنازة لم تقبر
ولأروين البيـض من أعناقهم
وسنابك الخيل الجيـاد الضمر

لم تمض أيام قلائل، حتى نفذ تهديده، أرسل إلى هجرة «قاعة» بجيش كبير، بقيادة شقيقه يحيى، قام ذلك الجيش بمجزرة عظيمة في حق سكان تلك المنطقة «603هـ»، وإمعاناً في إذلالهم، ألزم ذات الأمير من استسلم منهم بوضع «الزنار» علامة لهم، تماماً كاليهود.

أجبرت تلك التصرفات من تبقى على قيد الحياة من «المُطرَّفيية»، على الهرب إلى «مسور، ووقش»، أو الالتجاء بـ «الأيوبيين»، وعن ذلك قال أحد شعرائهم:
فأعجب لنا ملك الأكراد يكرمنا
وبني النبي علينا أي جبار
ونحن أنصاره الحامون حوزته
فمن لأنصاره يوماً بأنصار
وقال نحن ذو كفر وقد علمت
هذي البرية أنَّا غير كفار

كتب «ابن حمزة» حينها رسالة إلى «ورد سار» ـ أحد القادة «الأيوبيين» ـ مُعاتباً، وعارضاً عليه أن يتحالفا معاً للتنكيل بـ «المُطرَّفية»، جاء فيها: «وأما الذي يوحشنا فتسليمك للمُطرَّفية المرتدة الغوية، مع قدرتك عليهم.. والقوم كفار في دار الإسلام، ولقد كتموا مذهبهم، ولقوا دونه الأيمان، والله يشهد أنهم لكاذبون، فإن رأيت قطع دابرهم؛ فأنا شريكك في دمائهم، ألقى الله بذلك».

اعترض حينها مجموعة من علماء «الزيدية» على «ابن حمزة»، لقيامه بجريمته تلك، فما كان منه إلا أن كفرهم بالإلزام، وكفر كل من أحب «المُطرَّفية»، أو قلدهم، أو أحسن الظن بهم، أو شكك في كفرهم، وشمل تكفيره جميع من لا يدينون بمذهبه، وقال مقولته الصادمة: «فقد صح لنا كفر أكثر هذه الأمة».

كان من جُملة المُعترضين، وممن نالته تهمة التكفير «الحمزي»، العلامة «الهادوي» يحيى بن منصور بن المفضل، وأخاه يحيى المعروف بـ «المشرقي»، ـ ابني أخ «العفيف» السابق ذكره ـ تضامن الأول مع «المُطرَّفية»، وقيل أنَّه أعلن نفسه إماماً «603هـ»، أما الأخير فقد كان شديد التعصب لمذهبهم، صير نفسه نصيراً لهم، وأعلن ـ هو الآخر ـ بعد ستة أعوام نفسه إماماً.

جدد «ابن حمزة» حينها العزم على ملاحقة «المُطرَّفية» إلى عقر ديارهم «609هـ»، وإبادتهم عن بكرة أبيهم، خاض «المشرقي» غمار مواجهته، مُسنوداً بسكان المناطق الواقعة شمال غرب صنعاء، والتي كان غالبيتهم من تلك الجماعة، توجه يحيى بن حمزة إليهم بجيش كبير، التقى الجمعان، وكانت الدائرة على «المشرقي»، هرب إلى جبل مسور، لتسقط المناطق الخاضعة لحكمة الواحدة تلو الأخرى.

حكم «ابن حمزة» على تلك المناطق بأنها دار حرب، «تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم، ويقتلون بالغيلة والمجاهرة، ولا تقبل توبة أحد منهم»، وأفتى: «وهم بشهادتنا وشهادة من تقدمنا من آبائنا الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، من أخبث الكفرة اعتقاداً، وأظهرهم لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عناداً، وقد أطلقنا لكافة المسلمين قتلهم، وأخذ أموالهم، وسلبهم فيء، وذممهم حلٌ طلق لكافة المسلمين، وقتل من اعتقد اعتقادهم، أو حسَّن الظن بهم، أو داهنهم، وأمنهم، وخالطهم».

وبموجب تلك الفتوى، قام «ابن حمزة» وعلى مدى عامين بملاحقة «المُطرَّفية»، وأرتكب جرائمه المروعة في حقهم، قتل أكثر من «100,000» من رجالهم ـ وقيل أقل من ذلك ـ وسبى نساءهم، واستعبد أطفالهم، وهدم دورهم، ومساجدهم، وأخرب مزارعهم، وصادر أملاكهم.

وجاء في إحدى رسائله: «وهذه المُطرَّفية قد قتلنا من قدرنا عليه منهم، وأوهن الله كيدهم، وجددنا العزم في المُستقبل على تحريق من وجدنا من علمائهم، وإلى الآن لم نظفر بأحد، ونرجو من الله الظفر»، وأضاف: «وإنما فعلناه تقرباً إلى الله عزَّوجل، لإظهارهم صريح الكفر في بحبوحة الإسلام»، وأقسم على أن «جهادهم، وسفك دمائهم، أقرب إلى الله سبحانه من جهاد الكفار في ثغور الإسلام»، وزاد على ذلك شعراً:
فحل لي قتلُ من أدلى بحجتهم 
ممن غدا بالغاً للحلم من ذكر
يامن تحير في شكٍ لقتلهم
اذكر، وكن ذا حفاظٍ قصة النهر

في تلك الأثناء، توجه الحسن النساخ إلى بغداد، وطلب من خليفتها «الناصر» أحمد النصرة، والقضاء على «ابن حمزة»، وتحدث عن محنة «المُطرَّفية» قائلاً: «أذكى وقودها قائم من بني الحسن، تمالى مع أهل اليمن على نصرته، وسارعوا إلى جمعته وجماعته، وعقدوا له الألوية والبنود، وأطاعوا أمره كطاعة الملك المعبود، وحشدوا له الرعية والجنود، ولقد قدر علينا واستظهر..».

أرسل الخليفة «العباسي» إلى «الأيوبيين» في مصر «611هـ»، حثهم على نصرة «المُطرَّفية»، وإخماد إمامة «ابن حمزة»، وذلك بالتزامن مع سيطرة الأخير على أغلب مناطق «اليمن الأعلى»، بعد أن استغل مقتل الملك «الناصر» أيوب بن طغتكين مطلع ذلك العام.

توجه الملك الشاب «المسعود» يوسف بحملة كبرى إلى اليمن، ليبدأ حكمه بدخول مدينة تعز «10 صفر 612هـ»، وما إن علم «ابن حمزة» بتوجه الجيش «الأيوبي» نحوه، حتى سارع بالانسحاب من ذمار، ثم من صنعاء، بعد أن خرب دور الأخيرة، وهدم أسوارها، وسبى نساءها.

السبي أسلوب شنيع انتهجه «ابن حمزة» في معظم حروبه، وألف فيه كتاباً أسماه: «الدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبي والغنيمة»، وروي عنه قوله: «أما السباء فنحن الآمرون به»، واثناء تنكيله بـ «المُطرَّفية» سبى الكثير من نسائهم، وقال فيهن: «إننا لا نستحل فروجهن إلا لأننا نعلم أنهن مغلوبات على أمرهن، ولأنهن قد يخالفن أولياء أمورهن إذا ما تبدت لهن الحقيقة».

ومع هروبه الأخير من صنعاء، سبى عدداً كبيراً من النساء، من العرب ومن العجم، وذكر بعض المؤرخين، أن شقيقه يحيى سبى مجموعة من نساء تهامة في إحدى معاركه، وسبى حوالي «600» امرأة من صنعاء، بعضهن «أيوبيات»، وقسمهن في قاع «طيسان» بين رجاله، اختار «ابن حمزة» واحدة منهن لنفسه، وهي «أيوبية» من «آل قنطور»، وأنجب منها ولداً أسماه سليمان، خاطبه قائلاً:
سليمان بيتاك من هاشم
ومن آل قنطور بيتا شرف

قام عدد من علماء «الزيدية» بانتقاد «ابن حمزة» لتصرفه ذاك، أما أنصاره ممن شاركوه جرائمه المروعة، فلم ينتقدوه إلا حينما امتدت أياديه لسبي حفيدات «الهادي»، من نساء «آل المفضل»، وقد علق على ذلك قائلاً: «قالوا: تسبي بنات الهادي؟ قلنا: نعم، نسبيهن لكفر أهلهن».


Create Account



Log In Your Account