مُسيلمة والبَاب المَفتُوح
الخميس 13 ديسمبر ,2018 الساعة: 04:57 مساءً

قَـدِم «الأيوبيون» أنصار السنة ـ كما أسماهم بعض المؤرخين ـ إلى اليمن «شوال 569هـ / مايو 1174»، بِقيادة الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي، «شمس الدولة» توران شاه، وبطلب من قاسم بن وهاس، حاكم «المخلاف السليماني»، المهزوم حينها من قبل عبدالنبي بن مهدي.

قضى توران شاه في أقل من عام على جميع الدويلات اليمنية المُتصارعة، «بنو مهدي في زبيد ـ خوارج»، و«بنو زريع في عدن ـ إسماعلية»، و«بنو حاتم في صنعاء ـ إسماعلية»، واستبقى «آل وهاس» على إقليمهم.

كان الملك «الأيوبي» قد سيطر بعد شهر من وصوله على مدينة «عدينة ـ تعز» دون حرب، فأنشد «الرعيني» قائدها المُستسلم قائلاً:
تَعزُ علينا يا عدينة جنة
نُفارقها قَسراً وأدمُعنا تَجري

ظن توران شاه من صدر البيت أنّ تعز هو اسم المدينة، فأطلق عليها ذات الاسم، ومن لحظتها صار مُتداولاً بين ألسنة العامة، وكتب المؤرخين، ولطيب هوائها؛ نصحه الأطباء ـ بعد أن طلب منهم اختيار المكان المناسب لإقامته ـ بالمُكوث فيها؛ فاختطها، وآثر فيها المقام.

بعد عامين من مقدمه، قرر توران شاه العودة إلى بلاد الشام، وأناب عنه أربعة من رجالاته، استمروا يبعثون له الأموال حتى وفاته «576هـ»، اختلفوا بعد ذلك، واستقل كل نائب بما لديه من أعمال، وحاولوا الخروج عن طاعة «الدولة الأيوبية»، ولم تعد اليمن لأحضان تلك الدولة؛ إلا بِمقدم الشخصية «الأيوبية» الأقوى، سيف الاسلام طغتكين «رمضان 579هـ».

ابتنى طغتكين مدينتي تعز والجند، واتخذهما مقراً لحكمه، وبه أشاد كثير من المؤرخين، لينجح بعد سبع سنوات من مقدمه في توحيد اليمن للمرة الثالثة في تاريخها، بعد حروب وخطوب مع معارضيه، وكان للانتصارات المُتسارعة التي حققها أخوه صلاح الدين على «الصليبيين»، وتحرير بيت المقدس «583هـ / 1187م»، الأثر الأكبر في ذلك.

تصدر المعارضة «الزيدية» الأمير «الهادوي» محمد بن مفضل، المعروف بـ «العفيف»، أعلن نفسه مُحتسباً، وتلقب بـ «المُنتصر»، جعل من حصن «بيت بوس» مقراً له، واستمر بمحاربة «الأيوبيين» ردحاً من الزمن، مُسنوداً بجماعة «المطرّفية»، إلا أنَّه لم يظفر بنصر.

وكان يحيى بن «المتوكل» أحمد بن سليمان قد أعلن عقب وفاة والده من صعدة نفسه إماماً، رغم أنَّه لم يستوفِ شروطها، تلقب بـ «المُعتز بالله»، هادن «الأيوبيين»، فجعلوه حاكماً باسمهم على ذات المنطقة، واستمر على ولائه لهم حتى آخر لحظة من عمره.

ومن براقش أعلن عبدالله بن حمزة نفسه مُحتسباً «583هـ»، وعمره آنذاك «22» عاماً، حاول قبل ذلك أن يستنهض الأميرين «الهادويين» يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى لتولي الأمر، ولم يورد المؤرخون ردهما عليه، إلا أنهم أوردوا قصيدة طويلة له، خاطب بها الأمير «شمس الدين» يحيى، تؤكد ما ذكرناه، جاء فيها:

فأنــت لا أنطقهــا كاذبـاً
عالم أهـل البيـت والعامـل
وادع فعنـدي أنهــا دعــوة
كاملــة في رجــل كامــل

عندما عزم «ابن حمزة» على التوجه إلى صعدة، معقل «آل الهادي» الحصين، التقاه الأميران بجيش كبير، ثم ما لبثا أن أذعنا لسلطته، التي هي الأخرى لم تدم في جولتها الأولى طويلاً؛ تخلت القبائل بعد عامين عن نصرته؛ خوفاً من قوة «الأيوبيين» وسطوتهم، وبعد أن قتل الأخيرون أخاه الأكبر محمد في إحدى توغلاتهم «585هـ».

توفي الملك طغتكين في الجند «23 شوال 593هـ»، ليُعلن في الشهر التالي عبدالله بن حمزة من «دار معين ـ صعدة» نفسه إماماً، مُتلقباً بـ «المنصور»، كان الأميران «الهادويان» يحيى ومحمد من أبرز أعوانه، إلا أن المودة بينهم لم تستمر طويلاً، ولم يذكر المؤرخون سبباً لذلك الخلاف.

قبل حلول العام «594هـ»، توجه «ابن حمزة» إلى ثُلا، فوفد إليه عدد من أنصار «الزيدية» مُبايعين، إلا أنَّ «الأيوبيين» أحاطوا بقواته المُتحفزة، وقتلوا قائد جيشه الأمير محمد بن علي، وأجبروه ومن معه على التراجع إلى صعدة، ومنها بعث عماله إلى المناطق القريبة، مُكتفياً لبعض الوقت بِحكمها.

ساهمت الخلافات «الأيوبية ـ الأيوبية» في تمدد «ابن حمزة» حتى صنعاء وذمار، بمساعدة كبيرة من قبل الأمير حكو بن محمد، وبعض القادة المُتمردين، وهي سيطرة لم تدم سوى بضعة أشهر، وكانت سبباً لأن يُوحد «الأيوبيين» صفوفهم، تحت راية أسوأ ملوكهم، إسماعيل بن طغتكين، الذي استقل بحكم اليمن، وتلقب بـ «المُعز».

أثناء دخوله الأول مدينة صنعاء، قال «ابن حمزة»:
فجاءت آزال جمع الله شملها
وأسدى إليها الصالحات وأنعما
فجادوا بفتح الباب وابتهجوا بنا
وقالوا لنا أهلا وسهلاً ومغنما

وقال أيضاً:
وقدنا إلى شطي ذمار فوارساً
عليها من الصبر الكريم دروع
ففي اليمن الميمون ملك مسيبٌ
وجند لأمر الآمرين مطيع

وفي ذمار، استعد «ابن حمزة» لملاقاة «الأيوبيين»، وقد جمع ـ كما ذكر «ابن كثير» ـ نحو «12,000» فارس، ومن الرجالة جمعاً كثيراً، فأرسل الله صاعقة نزلت عليهم، ولم يبق منهم سوى طائفة، غشيهم «المُعز»، وقتل منهم نحو «6,000»، وكان الأمير حكو من جملة القتلى، وهي رواية لم يشر إليها أحد من المؤرخين اليمنيين.

دخل «المُعز» صنعاء مُنتصراً، وانسحب «ابن حمزة» إلى خمر مُنكسراً، وهناك وفي منتصف العام «595هـ» جاءه يحيى بن أحمد بن سليمان خاضعاً مُبايعاً، وسبق للأخير أن أعلن تمرده عليه، وتحصن في «مبين ـ حجة»، طلب منه ولاية صعدة، المدينة التي سبق وأن ولاه طغكتين إياها، فأعطيها، ثم ما لبث أن جدد من «بيت مساك ـ الجوف» تمرده، وقيل دعوته، ثم يمم صوب صنعاء خطاه.

بعد أن حظي بدعم «الأيوبيين»؛ عاد يحيى أدراجه مُنتشياً، آخذاً في نشر الدعوة لإسماعيل بن طغكتين، جاعلاً من هجرة «قاعة ـ عيال يزيد» مقراً له، ومنها راسل «ابن حمزة»، وسبه سباً فاحشاً، ودعاه بـ «مسيلمة الكذاب»، لتدور على تخوم ذات المنطقة معركتان، كانت الأخيرة في «جنات ـ عمران»، انتهت بأسره، حُبس في خمر، وفي مسجد ذات المدينة قام يحيى بن حمزة بقتله خنقاً بعمامة كان يرتديها.

تَعمق الخِلاف بين «الحمزات» و«آل الهادي»، وانضم بعض الأمراء «الهادويين» كـ علي بن يحيى، وسليمان بن محمد لصفِ «الأيوبيين»، وفي شهارة وقف أحفاد القاسم العياني أيضاً ضد الإمام «الحمزي»، وتصدر جعفر بن القاسم تلك المعارضة، وفي «المخلاف السليماني» ناصر «آل وهاس» ـ وهم سنيون ـ «الأيوبيين»، وحاربوا معهم «ابن حمزة» في أكثر من موقعة.

وفي المُقابل، كان السلطان «الإسماعيلي» علي بن حاتم اليامي من أبرز مُناصري «ابن حمزة»، كانت بينهما مُصاهرة، وقيل أنَّه أول من حفزه ليُعلن نفسه إماماً، وأن يتصدر مشهد محاربة «الأيوبيين»، وأعطاه لأجل ذلك بعض الحصون، ليعتزل «اليامي» الحرب؛ بعد أن رفض «الحمزي» تسليمه صنعاء، قبل أن يخرجهم «المُعز» منها، استقر في حصنه «ذي ذمرمر ـ الغراس»، وفيه مات «597هـ».

عمل «ابن حمزة» على تأسيس جيش نظامي، إلا أن محاولته باءت بالفشل، كما أنَّه لم يقد معظم معاركه بنفسه؛ بل كان يعتمد على أقربائه، ولم يستقر في منطقة بعينها؛ بل ظل مُتنقلاً ما بين «صعدة، وحوث، وحجة، وشبام كوكبان، وثلا، وخمر، وبراقش»، إما ساعياً لتثبيت سلطانه، أو هارباً من مطاردة «الأيوبيين» له.

أثناء مكوثه في براقش، عزم على ضم مأرب وبيحان لسلطته، وقد أرسل لذات الغرض جيشاً بقيادة الأمير سليمان بن حمزة، وقعت بين الأخير وبين أهل تلك البلاد حروب كثيرة، كانت الدائرة فيها على الأخيرين، وحين امتنعوا عن الأذان بـ «حي على خير العمل»، كتب «ابن حمزة» إليهم عدة رسائل، هددهم فيها بالعدول عن ذلك.

أذعن أهل مأرب لتهديداته، فارتجز قائلاً:
إذا بدت مثل السعالى من دغل
وطلعت فوق الرماح كالشعل
وأيقنوا أن الحِمام قد نزل
نادى مُناديهم على خير العمل

أما أهل بيحان فقد أصروا على الامتناع، وفي ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «نهض الإمام بنفسه إلى أهل بيحان، بعد أن كرر الكتب إليهم يأمرهم بلزوم الطاعة، وإقامة الجمعة والجماعة، والأذان بحي على خير العمل، فلم يمتثلوا، واجتمعوا للمحاربة، ففرق الله شملهم، وأمر الإمام بقطع نخيلهم، وزروعهم، وعاد إلى براقش ظافراً».

اغتيل «المُعز» إسماعيل «18 رجب 598هـ»، فاضطر الأمراء الأكراد إلى تنصيب أخيه الأصغر أيوب ـ الذي تلقب بـ «الناصر» ـ خلفاً له، وعينوا الأمير سيف الدين سنقر ـ مملوك والده ـ أتابكاً، اضطربت حينها أمور البلاد عليهم، ليتقوى في المقابل أمر الإمام «الحمزي».

سيطر «ابن حمزة» بسرعة خاطفة على أغلب مناطق «اليمن الأعلى»، بمساعدة كبيرة من قبل بعض قبائل «همدان»، الذين قال فيهم:
من الصيد من فرعي بكيل وحاشد
مقاول حرب حين تدعى مقاوله
هم نصروا آل النبي محمد
وراح بهم عصر الضلال وباطله

استجمع «الأيوبيون» بعد ذلك قواهم، واستطاع سنقر أن يلَّم شتاتهم، استعادوا في ذات العام ذمار ثم صنعاء، وصولاً إلى «البون الأعلى»، صالحوا «بني حاتم»، واعترفوا بسلطات «ابن حمزة» ـ بعد معارك محدودة ـ على «الظاهران، والجوف، وصعدة»، على أن يدفع «مائة جمل محملة حديداً من صعدة، وعشرين رأساً من الخيل»، وعقد الصلح بينهما على ذلك، إلا أنَّه لم يدم طويلاً.

تجددت المواجهات، وفي قرية «الصف» ـ مشرق نهم ـ دارت معركة كبرى «8 شعبان 600هـ»، هزمت فيها قوات «ابن حمزة»، وقُتل فيها خلق كثير من أنصاره، على رأسهم شقيقه إبراهيم قائد جيشه، احتز «الأيوبيون» رأس الأخير، وأرسلوه إلى تعز، حيث يقطن ملكهم الصغير.

كان «ابن حمزة» حينها في «شُوابة ـ ذيبين»، ومن هناك حرض القبائل على الثأر بقصيدة طويلة، جاء فيها:
فيا راكباً وجناء حرفا شِمِلةٌ
أموناً على قطع المفاوز والقفرِ
تحمل إلى قحطان عني رسالة
وعدنان فتيان الصباح ذوي الفخرِ
أترضون أنَّ العُجم فيكم تحكموا
وأنتم صميم العُرب بالقتلِ والأسرِ

استمرت المواجهات، وهي بِمُجملها معارك كر وفر، وصل «الأيوبيون» خلالها إلى «شبام كوكبان، وحجة، وحوث، وخمر، وبراقش، وصعدة»، وأخربوا في بعضها دوراً عامرة لـ «ابن حمزة»، إلا أن الأخير تمكن من استعادة أغلب تلك المناطق، لتتجدد المصالحة مطلع العام «602هـ».

نُقضت المصالحة، وقام «الحمزات» في العام التالي بعدة عمليات دفاعية وهجومية، توجهوا صوب تهامة، وعاثوا في منطقة «المهجم» قتلاً ونهباً وحرقاً وخراباً، وامتدت أيديهم إلى الأطفال والنساء، سبوا المئات، وعادوا متباهيين بما كسبوا، ليصالحوا «الأيوبيين» مطلع العام «605هـ / 1209م»، على نفس شروط المصالحة الأولى، أما القبائل فقد تأرجحت موالاتها بين الجانبين، ولم تستقر كعادتها على حال.


Create Account



Log In Your Account