القراءة بوصفها حرفة.. ترجمة
الأربعاء 12 ديسمبر ,2018 الساعة: 08:26 مساءً
ربيع ردمان - الحرف 28

روبرت شولز - ناقد أمريكي



«كان لدى هذا الحِرَفِيّ artisan سبع عشرة من الصُدُرات waistcoats مع العديد من أطقم أزرار القمصان وربطات العنق المحيطة بها يقوم بعرضها في واجهة محله. أمضى الرجل نحو إحدى عشرة دقيقة في ترتيب كل واحدة منها كما وقَّتنا له، وتركناه منهكا بعد أن وصل إلى البند السادس.

لقد بقينا نرقب الرجل لساعة كاملة كان يخرج فيها ليرى الأثر الذي يُحْدِثه كلُّ مليمتر تعديلٍ يُجريه في ترتيبها، ومع كل خروجٍ كان يبدو مستغرقا للغاية لدرجة أنه لم يكن يرانا.

لقد رتب عرضه ببراعة مُحْترِف جبين متغضِّن وعيون مثبَّتة كما لو أن حياته المستقبلية بكليتها متوقفة على ذلك العرض. حين أتأمل عدم الاتقان والافتقار إلى الانضباط في أعمال بعض الفنانين والرسامين المشهورين الذين تُباع لوحاتهم بمبالغ كبيرة جدا، أجد أن من الواجب علينا أن نُكْبر بشدة هذا الحِرَفِيّ craftsman الجدير بالإكبار الذي يصوغ عمله بصعوبة وضمير حي، فهذا العمل هو أكثر قيمة من تلك اللوحات الزيتية الباهظة الثمن؛ فاللوحات سوف تختفي لكن سيتعيَّن على الحرفي أن يُجدِّد عمله بالعناية والحماس ذاتهما خلال بضعة أيام. ورجال مثل هذا الرجل وأولئك الحرفيين، لديهم مفهوم ما للفن – وقد ارتبط هذا المفهوم ارتباطا وثيقا بالأغراض التجارية، لكنه يعتبر إنجازا تشكيليا لطرازٍ جديد يواكب التجليات الفنية الحالية، أيا كان شكلها».

 

فرناند ليجيه Fernand Léger

«كان نيقولاي ليسكوف Nikolai Leskov نفسه ينظر إلى هذه الحِرْفيَّة craftsmanship، أيْ إلى القص بوصفه حِرْفَةً. وكما يذكر في إحدى رسائله: "الكتابة ليست بالنسبة لي فنا حرا ولكنها حرفة"...ويمكن للمرء أن يمضي ويتساءل في نفسه أليست علاقة الحكواتي storyteller بمادته أي بالحياة الإنسانية، هي في ذاتها علاقة حرفي، أليست مهمته الخاصة أن يشكِّل المادة الخام للخبرة، خبرته الخاصة وخبرات الآخرين بأسلوب متين ومفيد وفريد».

 

فالتر بنيامين Walter Benjamin

عصر النسخ الآلي

إن ما كتبه كل من فرناند ليجيه عام 1924 وفالتر بنيامين عام 1936 يقدم لنا طريقتين في العلاقة المعقّدة بين الفن والحِرْفة. فالحرفة، بالنسبة لفالتر بنيامين، كانت ميزة خاصة أن يتم العثور عليها في كتابات أحد كتاب القصة في القرن التاسع عشر مثل نيقولاي ليسكوف، الذي استلهم بشكلٍ واعٍ أساليب وأدوات تنتمي لعصر سابق.

لقد أدرك فالتر بنيامين أن الفنون اللفظية كانت تعاني في عصر تهيمن عليه المعلومات و"أشباه الحقائق" factoids  غير الأصيلة التي تُشكل تهديدا على حدٍ سواء للشكلين السابقين لـ "القص": الملحمة والحكاية، وكذلك الشكلين اللذين حلا محلهما: الرواية والقصة القصيرة. ففي مقاله المُهمّ "الحكواتي" الذي أخذت منه اقتباسي الثاني، نجد احتفاء رقيقا بليسكوف وبـ «الهالة الفريدة التي تحيط بالحكواتي» (109). ورَأَى ليجيه، من جهة أخرى(الاقتباس الأول)، في الجهود المبذولة عند واجهة المحل حِرْفيَّةً ولَّدَتْ لديه الشك في العمل غير المتقن لدى بعض الفنانين المعاصرين.

لا أعتقد أن الناقد الألماني والرسام الفرنسي متباعدين للغاية بالفعل فيما يتصل بأهمية الحرفية. فكلاهما أبدى إعجابه بها وقلقه على مصيرها في عصرٍ تهيمن فيه "الأغراض التجارية" و"المعلومات". وكلاهما كان مدركا تماما للكيفية التي قد يكون بها الفن والحرفة معاديين لبعضهما البعض. ولكن فالتر بنيامين نظر إلى الحرفة كشيء محكوم عليه بالاندثار حتما في عصر المعلومات والنَّسْخ الآلي  mechanical reproduction، في حين أن ليجيه وجد أن الحِرْفة ما تزال حيَّةً في العمل الآلي وتسليع الثقافة.

وبطبيعة الحال فقد حاول ليجيه في أعماله في الرسم ونحت المعدن والتشكيل الخزفي والإخراج السينمائي أن يحافظ على روح الحِرَفي، ويمكن القول إنه حاول ونجح إلى حدٍ كبير، وهذا ما جعل منه واحدا من أكثر الفنانين الحداثيين إثارة للإعجاب. وعلى قدر ما بين وجهات نظر الكاتبين من اختلاف في هذه المسألة، إلا أن كلاهما ثمَّن الجوانب الوجدانية والمفيدة والراسخة في الحرفة (صفاتها)، على الرغم من أنهما وجدا الحرفة في ميدانين مختلفين.

لقد كان الكاتبان يفكران في الأشياء انطلاقا من وجهة نظر المُنْتِج وليس من وجهة نظر المستهلك، غير أن مناقشاتهما تنطوي على فكرة الاستهلاك، ومن ذلك الإلماح إلى توفُّر طريقة متماسكة وواعية لقراءة النصوص اللفظية والبصرية التي أودُّ أن أُطلق عليها – لأسباب ينبغي أن تكون واضحة بالفعل – "القراءة المحترفة". ومن ثم فسوف أقترح، في هذا الكتاب، أن نحاول جميعا أن نغدو قرّاء محترفين، وأن نتعلم القراءة بالعناية والحماس اللذين أبداهما مُوظف واجهة محل الملابس، وأنه يجب علينا أيضا أن نتعلم أن نهتم على نحوٍ جدي بأعمال هؤلاء المَهَرة المحترفين أمثال إدنا ميلاي Edna Millay، ونورمان روكويل Norman Rockwell، وريموند تشاندلر Raymond Chandler، وجي. كي. رولينج  J. K. Rowling.

 

الحرفة والفن

يصبح المرء قارئا محترفا من خلال تمرسّه في حِرْفة القراءة. أعتقد أن من مصلحتنا كأفراد أن نغدو قرّاء محترفين، كما أن من مصلحة الأمة أن تُربّي مواطنيها على تعلم حرفة القراءة. فالحرفة بخلاف الفن، الفن رفيعٌ والحرفة ذات مستوى أدنى. والفن فريد من نوعه؛ لا يمكن تعلّمه.

في حين أن الحرفة متاحةٌ؛ يمكن تعلُّمها. فهناك قرَّاء بارعون ينتجون قراءاتٍ مُبْتكرةً بدرجة مذهلة، غير أن هؤلاء القراء حينما يصبحون قرَّاء مُبتكرين، فإنهم لا يعودون مجرد قراء.

فالقراءات التي ينتجونها تغدو أعمالا وكتابات جديدة – إن صح التعبير – لم تكن الكتابات الأصلية سوى ذرائع لإنتاجها، ويغدو القراء الذين يُبدعونها مؤلفين. لستُ مهتما بإنتاج هذه القراءات بنفسي، ولا أعتقد أن بإمكان أيّ شخص أن يُعلِّم الآخرين إنتاجها، والشيء الذي يمكن دراسته وتعلمه وتلقنه هو حرفة القراءة.

ومدار هذا الكتاب هو عن هذه الحرفة، إنه محاولة لتوضيح طرائق القراءة وتجسيدها بطريقةٍ يمكن معها لأيّ شخص أن يحذِقها. بيد أن هذا الكتاب ليس كتابا مدرسيا عن حرفة القراءة، وليس في نيتي أن أدَّعي أن قراءته سوف تُحوِّل أيّ شخص إلى قارئٍ محترف. وما آمله فحسب هو أن أقنع قرَّائي بوجود هذه الحرفة، وأن أُبيِّن لهم كيف أنها تختلف عن بعض طرائق القراءة الأخرى، أمثال تلك القراءة التي دافع عنها النُّقاد الجُدد أو تلك التي أسمِّيها بـ القراءة "الأصولية" fundamentalist. كما آمل أن أُبيِّن كيف أن هذه المقاربة في القراءة سوف تتيح لنا أن نقدِّم للدرس الجاد بعض النصوص المحترفة التي تُعدُّ الآن خارج حدود الدراسة الأدبية إلى حدٍ بعيد.

وللقيام بذلك فسوف نقتطع قدرا مناسبا من الوقت للحديث عن الطرائق التي يموّقع بها القراءُ النصوصَ الأدبية، وعن دور "الأنواع" الأدبية في تعيين هذا المواقع.

 

حرفة القراءة

ما هي حرفة القراءة؟ وكما هو الحال في أي حرفة، تعتمد القراءة على استعمال أدوات معينة والتعامل معها بكل مهارة. لكن التعامل مع أدوات القراءة ليس مجرد استعمال فحسب كاستعمال المطرقة والإزميل، فلا يمكن لأدواتها أن تكتسب إلا من خلال الممارسة.  والمقالات في هذا الكتاب كلها محاولات ترمي إلى توضيح الكيفية التي تعمل بها بعض هذه الأدوات وإبراز الكيفية التي يمكن بها أن تكتسب.

لقد رتبتها بطريقة معينة تبدو منطقية بالنسبة لي، لكنه لا يتعين أن تُقرأ وفقا لهذا الترتيب. ومن المأمول أن يدعم بعضها البعض بصرف النظر عن الترتيب الذي قد يُتَّبع في قراءتها.

لقد حاولتُ عند كتابتها أن أشحذ مَلَكَتي فيما يتعلق بحرفة القراءة – أن أصبح قارئا أكثر احترافيةً، وأن أجعل ممارسة حرفة القراءة – حيل المهنة، إن جاز التعبير – أكثر انفتاحا لاستخدامها من قبل أولئك الذين ما يزالون – مثلي – يتوقون إلى تحسين قدراتهم كقُرَّاء.

إنني أدرك تماما أن القراءة اليوم تتجاوز الكلمة المكتوبة إلى أنواع أخرى مختلفة من النصوص اللفظية والبصرية، غير أني لم أحاول أن أتعمق كثيرا داخل تلك المجالات سواء أكانت حرفتي الخاصة تبرّر هذا المسلك أو لا تبرّره.

 

المواءمة بين القديم والجديد

على أي حال، فإن الوسائط الحديثة لا تحل بالضبط محل القديمة أو تعمل على إلغائها، وإنما تأخذ مواقعها في عالم الاتصال communication؛ فالحديثة من هذه الوسائط تقتضي عمليات مواءمة داخل ذلك العالم، وتستعير من الطرق القديمة في تأليف النصوص، كما تعمل على تغيير – وغالبا ما تُثري – الأشكال القديمة نفسها. إن دخول وسائط حديثة غالبا ما يُولِّد فجوةً بين النصوص المعترف بها أو "الرفيعة" والنصوص الجديدة التي يُنظر إليها بشيء من الارتياب أو توصف بـ"المتدنية".

فقد كان يُنظر إلى الدراما الشعبية في زمن شكسبير على أنها ذات منزلةٍ متدنية ولم تحرز مكانتها الرفيعة إلا بشكلٍ تدريجي. وعلى نفس الدرب استهلتْ الرواية مسيرتها كشكلٍ أدبي وضيع وأخذتْ ترتقي بشكل تدريجي إلى مستوى الفن الأدبي.

وفي الآونة الأخيرة، وجدنا الفيلم يتبع النمط نفسه في ظهوره وارتقاء مكانته، غير أن صعود هذا العدد الكبير من الوسائط الحديثة، منذ فترةٍ قريبة للغاية، يُهدِّد بأن يتركنا أمام فجوة عميقة بين ما يُتصور أنه فن "رفيع المستوى" أو أدب من جهة، وبين الثقافة "الشعبية" أو "الجماهيرية" من جهةٍ أخرى. ودون رفض فكرة أن بعض النصوص هي في الواقع أفضل من غيرها (في أغراض معينة)، فسوف أؤكد هنا وعلى امتداد الكتاب أننا نصادف النصوص القيِّمة في جميع الوسائط وفي العديد من الأنواع داخل تلك الوسائط. وسأفترض أيضا أننا نرتكب خطأً حين نساوي النصوص العويصة والغامضة بالنصوص ذات القيمة الأدبية – وهو خطأ كثيرا ما يتكرر، لا سيما من جانب المعلمين وأساتذة الأدب. ولكن الآن حان الوقت بالنسبة لي أن أبدأ في صنع أخطائي الخاصة، وأتمنى أن تتبعني وتأخذ بيدي إن عثرتُ.


Create Account



Log In Your Account