العشيرة المتربصة
الخميس 06 ديسمبر ,2018 الساعة: 12:12 صباحاً

عبر تَاريخها الطويل، عاشت «الإمامة الزيدية» فترات انقطاع مَحدودة، وعلى مَراحل مُتفرقة، لا تتجاوز الـ «100» عام، والمُفارقة العجيبة أنها بعد كل انكماشة تعود لتتمدد بقوة، كان انقطاعها الأطول في عهد «الدولة الصليحية»، مُحيت حينها تماماً من الخريطة، حتى وصلتها من بلاد فارس دعوة، أعادت رسمها من جديد.
    
استقلت صنعاء عن حكم الصليحيين «492هـ / 1099م»، وحكمتها ثلاث أسر همدانية إسماعيلية، «آل الغشيم، وآل القبيب، وآل اليامي»، الأخيرة هي الأشهر، وهي أسرة عريقة، ناصرت «الصليحيين» بادئ الأمر، وكان عمران اليامي ـ واليهم على صنعاء ـ سندهم البارز في حربهم ضد «النجاحيين»، ولقي مصرعه وهو يقاتل في صفوفهم.
   
أمام حضور «الإسماعلية» الطاغي، اختفى دعاة «الإمامة الزيدية»، وانكفأ أنصارها على أنفسهم، حتى أنَّ دولتهم في «طبرستان»، كانت قريبة من ذات المصير، ليجدد حضورها ـ من «جيلان» ـ الإمام «المؤيد» أبو طالب يحيى بن أحمد «502هـ / 1109م».
   
بعد تسع سنوات من إمامته، أرسل «المؤيد» بدعوته إلى اليمن، فتلقفها الأمير «الهادوي» المحسن بن الحسن، أجابت الأخير قبائل «صعدة، والجوفين، ونجران»، إلا أنَّ تلك التبعية لم تغير في خارطة الإمامة شيء؛ بل كشفت مدى الضعف الذي وصل إليه إماميو اليمن خلال تلك الحقبة.
   
أعلن المحسن بعد ذلك نفسه إماماً، وتلقب بـ «المعيد لدين الله»، حارب «الصليحيين»، وقتل قائدهم عامر الزواحي، قاتل الإمام حمزة بن أبي هاشم، وعن ذلك قال أحد شعراء «الزيدية»:
إنا قتلنا عامراً وابنه
يحيى وكانا ملكي حمير
لله در محسن من طاعن
والخيل بين عجاجة وستور
   
كانت نهاية المحسن ـ هو الآخر ـ مَقتولاً على يد ثلة من سكان «حقل صعدة»، قتلوه وولده وجماعة من أصحابه، وأحرقوا جثمانه، واستصبحوا بشحمه، انتقاماً لقتله ضيفاً لهم، قيل أنَّه «إسماعيلي» المَذهب، الأمر الذي ولَّد مزيداً من الثارات والضغائن.
   
استنهضت ابنة الإمام الصريع قبائل «خولان الشام» للأخذ بالثأر، ومن بلاد «جيلان» جاءها المدد بقيادة الأمير «الهادوي» حسين بن عبدالله، فيما قاد الشيخ محمد بن عليان الخولاني تلك المجاميع صوب مدينة صعدة، نهبها وأصحابه، وبالغ في خرابها، وجعلها خاوية على عروشها، وقال في ذلك شعراً:
تألبت الأوغاد من أهل صعدة
لتهدم دين الله في كل وجهة
بخولان قد دمرت صعدة بعدما
طغت وعتت تدمير أصحاب ليكة
   
لم يُحدد المؤرخون تاريخ تلك الوقائع، إلا أنَّ الراجح أنها حدثت قبل وفاة «المؤيد» أبي طالب «520هـ»، كان حينها الشاب العشريني أحمد بن سليمان مُقيماً في مسقط رأسه مدينة حوث، ليتوجه بعد ذلك إلى الجوف، وفي الأخيرة بدأ يفكر في حال الإمامة المُزري، لم يكن حينها يطمح بتصدر المشهد، بل رأى أن أستاذه الحسن بن محمد هو الأولى، وكتب إليه يَحُثه على ذلك.
   
رفض الحسن طلب «ابن سليمان»، فما كان من الأخير إلا أن عزم أواخر العام «530هـ» على تولي الأمر بنفسه، استنهض بني عمومته، وذكر اليمنيين بحقه في حكمهم، وقال في ذلك: 
 وقد خصنا الرحمن بالأمر دونهم
وأورثنا هو وهو أحكم حاكم
ونحن أولوا الأمر الذين أمرتهم
بطاعتنا من دون كل مخاصم
   
ما إن علم الأمير «الهادوي» علي بن زيد المليح بذلك، حتى أعلن من «يرسم ـ صعدة» نفسه إماماً، وقيل مُحتسباً؛ كونه لم يستوفِ شروطها، كان قليل العلم، كثير الأنصار، وقف «ابن سليمان» من الوهلة الأولى إلى جانبه، وجمع له القبائل من «همدان، وخولان، وكهلان»، وأشار عليه بالزحف صوب صنعاء، إلا أنَّه لم يفعل.
   
كانت لـ «المليح» وقائع كثيرة مع مُعارضيه، حارب أهل صعدة، وتقطع لحجاج صنعاء، وأخذ أموالهم، وحبسهم حتى استخلصوا انفسهم بـ «4,000» دينار، وسار بقواته إلى «شظب»، وعسكر بها، وهناك ولكثرة نفقاته؛ استثقله سكان تلك الجهة، فكانت نهايته وكثير من أصحابه على أيديهم «جماد الآخر 531هـ»، وقد رثاه «ابن سليمان» بقصيدة طويلة مهدَّ فيها لنفسه، جاء فيها:
يا ضاحكاً من مصاب لنا فلقد
أشجى وأبكى جميع العجم والعرب
ما مات منا كريمٌ صابر يقظٌ 
إلا وقام شريف الأصل والحسب
   
بوفاة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي «532هـ / 1138»، انتهت «الدولة الصليحية»، فيما ظلت «الإسماعيلية» كدعوة حاضرة في بعض المناطق، وكان لها دولتان، «آل زريع» في عدن، و«آل اليامي» في صنعاء، وفي الأخيرة أجمعت قبائل «همدان» على اختيار حاتم بن أحمد بن عمران اليامي سلطاناً عليهم.
   
وفي ذات العام، جدد أحمد بن سليمان دعوته من الجوف، تلقب بـ «المتوكل»، خذله بنو عمومته، فخاطبهم قائلاً: «فإني لا أعلم أحدا من أهل هذا البيت في زماننا هذا أحق بهذا المقام، ولا أحمل لأثقاله، ولا أصبر على أهواله الجسام، مني»، وأجابته بعد تلكؤ قبائل «الجوف، وصعدة، ونجران، وبلاد الظاهر، وعيان، ووداعه».

 كما وعدته قبائل «خولان الشام» النصرة، وقالوا في مكاتبتهم له شعراً، جاء فيه:
مقامك أيها الملك الإمام
مقام لا يُقاس به مقام
نهضت بخطة نهضت قديماً
بها أباؤك الغر الكرام
   
اثنى «ابن سليمان» على تلك القبائل، وقال فيها أشعاراً كثيرة، نقتطف منها:
نهضت بأمر الله لله غاضباً
بذاك رسول الله جدي أوصاني
فقال ذرا همدان لا تبغ غيرنا
نسير برجل كالجراد وفرسان
فقلت لهم كونوا على الزاد واسكنوا
فليست تطيب النفس إلا بخولان
   
ظل «ابن سليمان» بداية عهده مُتنقلاً ما بين «الجوف، وصعدة، ونجران»، ليأمر مُنتصف العام «533هـ» بعمارة هجرة حيدان، استقر فيها مدة، وجعل عليها وعلى باقي المناطق الولاة، وعن ذلك قال «كاتب سيرته»: «فلما رأى الناس من شدته في الضغائن ما رأوا، خضعوا له طوعاً وكرهاً، وطابت له مخاليف صعدة ونجران، وجرت فيها أقلامه، ونفذت فيه أحكامه».
   
بعد خمس سنوات من إمامته، لم يقف بنو عمومته إلى جانبه، فيما تنكرت معظم القبائل الشمالية له، وكان لقلة ما في يده الأثر الأكبر في ذلك، كما أنَّ تلك السنوات كانت ـ حد وصف بعض المؤرخين ـ عجافاً، عمَّ فيها القحط، وكثرت فيها المجاعات، فأخذت عليه القبائل قلة عطائه، ومنعهم من ممارسة النهب، ولهذا السبب تخلوا عنه، وخاطبه بعضهم قائلين: «إنا قد خرجنا معك مخارج كثيرة، فلزمت على أيدينا».
   
أباح «ابن سليمان» بعد ذلك للقبائل نهب أموال مُخالفيه، فوقف «بنو جماعة ـ خولان» إلى جانبه، فيما أعلنت قبائل «حقل صعدة» تمردها عليه، لتدور خلال العام «537هـ» مواجهات كثيرة بين الجانبين، وحين رأى معارضوه ميلان كفته، حرضوا ابن عمه عبدالله بن محمد المهول على القيام، خرج الأخير إلى «الربيعة»، ليتعرض هناك لهزيمة ماحقة.
   
لم تتوقف التمردات «الهادوية ـ القبلية» على «ابن سليمان»، ففي العام التالي أعلن ابن عمه أحمد بن يحيى خروجه عليه، مسنوداً بقبائل «الحقل» و«يرسم»، أخذ منه مدينة صعدة، الأمر الذي جعله يكتب في بني عمومته قصيدة طويلة مُعاتباً، جاء فيها:
وعشيرتي مُتربصون جميعهم
بي عثرة في وقتِ كل عثار
لم آتهم بنكاية بل جئتهم
بزيادة في المال والمِقدار
ولقد أعاض الله جل جلاله
ببني جماعة أهل كل فخار
   
استسلم «ابن سليمان» حينها للأمر الواقع، أوكل ما تبقى له من سلطة اسمية إلى بعض المشايخ، وتوجه إلى «البطنة ـ بني جماعة»، وبقي في ضيافة شيخها الحسن بن قيس لعام كامل، هزه بعد ذلك الحنين للإمامة، راسل بني عمومته خارج اليمن، وطلب منهم القدوم لنصرته، تماماً كما فعل جده «الهادي»، وكتب إليهم قصيدة طويلة، جاء فيها:
هلموا فليصل منكم إلينا
لنصرة ديننا جيش لهام 
وقودوا خيلكم شعث النواصي
فقد أخنى على الحق اللئام
فقد صامت سيوف الحق حتى
ذوت والآن ليس لها صيام
   
لم يأت لنجدة «ابن سليمان» أحدٌ من بني عمومته، صالح حينها «المهول»، واستمال بعض القبائل إلى جانبه، ليجددوا جميعهم تمردهم عليه، حاربوه، وكادوا يفتكوا به، فما كان منه إلا أن توجه إلى جازان «542هـ»، طامعاً في نصرة أشراف «المخلاف السليماني»، وكبيرهم غانم بن يحيى بن وهاس.
    
بعد أربعة أشهر من الاستجداء، عاد «ابن سليمان» من شمال تهامة بخفي حنين، تملكه حينها اليأس، واعتزل الأمر، وفي حيدان آثر البقاء، مُنشغلاً بالتأليف والقراءة، ليأتيه بعد عامين ونصف العام وفد «علوي» كبير، اعتذروا له، واستنهضوه القيام مرة أخرى، وهو ما كان.


Create Account



Log In Your Account