عن غزة الليندي ومعهد القضاء
الجمعة 30 نوفمبر ,2018 الساعة: 01:20 صباحاً

ما من أحد يتكلم عن زوجته في هذا العالم الأزرق المسمى فيس بوك سوى أوراس الإرياني. لهذا ساستأذن منه لأكتب عن غزة هذا المقال بمناسبة إكمالها المرحلة الأولى من إختبارات التقدم للدراسة في المعهد العالي للقضاء (إختبارات تحريرية استمرت أسبوع كامل والنتيجة ستظهر بعد شهر وفي حال نجاحها سيكون هناك مرحلة ثانية عبارة عن إختبارات شفوية ثم مرحلة ثالثة ستكون عبارة عن مقابلة شخصية).


طبعا هذه هي المرة الثالثة التي تتقدم فيها لاختبارات القبول في معهد القضاء.

المرة الأولى تقدمت للإختبارات قبل زواجنا بعد سنة من تخرجها من الجامعة, لكنها لم تقبل هي وزميلاتها. لم يتم قبول أي طالبة.

في المرة الثانية تقدمت لاختبارات القبول في معهد القضاء بعد عام من زواجنا، وكان هناك حديث عن كوتا نسائية ونسبة محددة لكل محافظة.

لكن موعد الإختبارات جاء بالتزامن مع موعد ولادتها بهيلين. لهذا لم تتمكن من الحضور. وبالطبع لم يتم قبول سوى طالبة واحدة فقط من تعز. وتقريبا ثلاث طالبات في الدفعة كلها.

معهد القضاء في صنعاء، لكن إختبارات القبول التحريرية في المرتين السابقتين كان يتم إجراءها في المحافظات.

وهذه الإختبارات شكلية، مثلها مثل الإنتخابات في زمن صالح.
الغرض منها إضفاء نوع من المشروعية على عملية القبول التي تتم بالوساطة، حيث 99% ممن يتم قبولهم يتم قبولهم بالوساطة وغالبيتهم من أولاد القضاة وموظفي المحاكم وحصص لوزير العدل ومسؤولين أخرين.

هذه المرة اختبارات القبول في عدن, بمعنى أنها ترتب على المتقدمين الكثير من الأعباء, خصوصا إذا ما عرفنا أن هناك أكثر من 350 طالب متقدم من محافظة تعز وحدها من أصل ما يزيد عن 900 متقدم من باقي المحافظات، يتنافسون على 250 مقعد، 100 منها تم حسمها سلفا. 50 لطلاب دفعة سابقة إجتازوا مراحل الإختبار الثلاث وتم استبعادهم لكنهم احتجوا وانتزعوا حقهم و50 لموظفي المحاكم. ولا أعرف ما هو النص القانوني الذي يعطي موظفي المحاكم هذا الامتياز؟

لست بارعا في الحساب وإلا كنت سأجري عملية حسابية حول حجم التكاليف التي يمكن لنحو 350 متقدم أن يصرفوها في عدن خلال أسبوع ونصف على الأقل في ظل وضع معيشي مكلف وقبلها خلال ثلاث أيام عندما تم تقديم الملفات في عدن قبل نحو شهر وقبلها تكاليف متابعة وتجهيز الوثائق.
بالتأكيد سيصبح لدينا مبالغ باهضة وبإمكان أي شخص مهتم ودارس محاسبة يستطيع أن يقدر لنا المبلغ النهائي وبإمكان شخص آخر لديه قدر بسيط من الخيال أن يبني لنا مشاهد قصيرة حول كيف تمكن الطلاب الذين يواجهون ظروف سيئة من توفير التكاليف مع إشارات عن آمال أسر هؤلاء الطلاب ودعوات أمهاتهم.

أيضا، لست بارعا في تقدير حجم الجهود التي بذلت من أجل المنافسة على هذه الفرصة ولا حجم الضغوط. لا أعتقد أنه يمكننا العثور بسهولة على شخص يستطيع أن يقدر هذه الأمور، خصوصا أن حلم زوجتي غزة في أن تصبح قاضية كان معها من أيام خطوبتنا قبل ثمانية أعوام، ومضى على أول محاولة قامت بها من أجل الظفر بالحلم ستة أعوام.

وهي من بين الخمسة الطلاب المتفوقين في دفعتها في كلية الحقوق ودرست في الكلية طوعيا لثلاث سنوات.

والآن ما هو الثمن لكل هذا التعب؟

بالطبع حديث عن أن المائة والخمسين المقعد سيتم تقاسمها بين جلال هادي والمجلس الانتقالي ووزير العدل ولجنة القبول.
وحديث عن أنه لا يحق لأبناء تعز الحصول على مقاعد.

هذا ليس حديثا مناطقيا، بقدر ما هو حديث عن طبيعة النظام الذي يحكمنا والذي تصبح فيه النزعات المناطقية مجرد تحصيل حاصل.
حديث في آليات صناعة التعب وإهدار الجهود وسرقة حياة الناس وأحلامهم وكما في الحرب قتل كل شيء.

طريقة القبول هذه عملية تتم في مختلف الجامعات وليس فقط في معهد القضاء.

في كليات الطب والهندسة وفي تلك الأقسام والتخصصات التي توفر فرصة عمل شبه أكيدة بعد التخرج ما بالكم ومعهد القضاء هو تقريبا آخر مؤسسة توفر إمتيازات للطالب من لحظة قبوله كسكن وتأمين صحي وإعاشة شهرية.

لكن ثمن عناء 900 طالب سيبقى في ان يكون اختيار ال 150 بناء على نتائج الاختبارات والشروط المحددة. مهما كانت هذه الشروط. هذا هو الإختبار الأول الذي يتعرض له العدل في بلادنا كل عامين تقريبا ويسقط فيه المرة تلو الأخرى.

بالنسبة لي كشخص يحاول دعم زوجته ومساعدتها في أن تحقق حلمها، أعرف أن دوري سيتحدد من هذه اللحظة في ابتكار أساليب جديدة في المواساة.

لهذا أصبحت أراقب معنوياتها دون أن تشعر، ودون أن يبدو وكأنني أهتم لما سيترتب لاحقا سواء إيجابا أو سلبا. لكني تهورت وسألتها: غزة أيش توقعاتك بعد أسبوع كامل من العناء؟
لم اقل بعد ست سنوات أو ثمان يجب حصر العناء في أضيق نطاق ممكن.

كان ردها الذي فاجأني: عندما أموت أكتبوا على شاهد قبري: هنا ترقد قاضية المستقبل غزة السامعي، كما في تلك القصة التي ترددها دائما عن رئيس تشيلي سلفادور الليندي.

ردها هذا عزز عندي قناعة سابقة، بأن الإصرار على تحقيق الحلم حتى وإن كان شخصيا، الإصرار على تحقيقه بنزاهة كاملة، هو مقدمة ضرورية للخروج من هذا المستنقع، كما في قصة الرئيس المغدور الليندي الذي آمن بالديمقراطية وخاض الانتخابات أكثر من مرة بطرق نزيهة في بلد هش ويتحكم به فساد سياسي وأخلاقي وتدخلات خارجية قذرة.
فشل أكثر من مرة لكن إيمانه جعله يصل الى الرئاسة. صحيح أنه تعرض لعملية إنقلاب بشعة بعد ذلك، وضحى بحياته لكن يكفي أنه آمن بحلمه وترك لنا قصة كفاح عظيمة، وتلك المقولة الخالدة التي استعارتها غزة في ردها: عندما أموت أكتبوا على شاهد قبري هنا يرقد رئيس تشيلي القادم.

بالطبع، لا أعتقد أنه من المتعذر علي إيجاد وساطة تختصر المسألة كما يفعل الآخرين, أو حتى مجرد المحاولة. لكني لا أستطيع تخيل نفسي وأنا أقوم بذلك.
حتى لو كانت تستحق فرصة الدراسة في معهد القضاء بمجهودها والوساطة فقط ستعطيها حقها، فهذا سوف يؤثر عليها مستقبلا.
مهما أصبحت قاضية ناجحة، ستبقى تتذكر أنها نجحت بوساطة وهذا سينعكس على أدائها وعلى ثقتها بنفسها. وبالطبع سيجعلني شريكا في الجريمة التي لن أتسامح معها.

 


Create Account



Log In Your Account