من جديد ... تعز ليست بخير!!
الإثنين 26 نوفمبر ,2018 الساعة: 07:07 مساءً

 القول بان اليمن كمشكلة ،يمكن ان تعبر عنها "تعز" كحالة معمقة، قول فيه الكثير من المعقولية. فالانقسام الافقي اسطع وضوحا فيها، كتمثيل للهتك الاجتماعي والسياسي الذي تتعرض له البلاد شمالا وجنوبا منذ انقلاب سبتمبر 2014، اما المشكلة المناطقية فيها صارت اكثر تعيينا باعتلالها الجغرافي، وكمائنها الطائفية. ثنائية الشمال والجنوب احد تمظهرات  الازمة فيها، فلم يزل يُنظر اليها كشمال الجنوب "المنبوذة"، وجنوب الشمال "المغضوب عليها" .

 

 منذ عقود رأى المفكر ابوبكر السقاف في "حُجريتها" ريفا لمدينة عدن التي لا ريف لها، لهذا لاغرابة ان يعمد النظام الى خلق مواز لا مدني في ارياف اخرى، اشد صلابة قبلية واقرب تمثيلا لبنى الشمال، فبدلا عن "الحجرية"  كمرموز للريف  الساعي للتخلص من علاقات ما قبل الدولة  ،بانخراطه في تمثيلات المدنية "تعليم ومهن وتجارة وهجرة"، غدت الارياف الاكثر تماسك في بنيتها القبلية " صبر وشرعب وماوية والوازعية " هي الاعمق حضورا في التأشير الهوياتي للمواطنة، حسب تعيينات المركز، فصار البندق في هذا المفهوم اهم من المهنة، المستحقرة في الوعي الظلامي والطبقي الذي يزدري الاعمال البسيطة المرتبطة بالمعاش اليومي للناس، ويمارسها عشرات الالاف من ابناء تعز في المقاهي والمخابز والورش والدكاكين في كل مدن ومناطق اليمن .

بدلا عن طبقة رجال الاعمال  المتراكمة خبراتها منذ اواسط الاربعينيات في عدن ودول افريقيا صار مهربو الممنوعات في السواحل الغربية احد ركائز صناعة القرار والاكثر سطوة ونفوذا فيها، وبقي المال الوطني ،رداء لعمليات الغسل الطويل في جهاز مصرفي بديل انتجته الحرب وطبقتها، ابطاله صرافون كانوا بالأمس القريب مرافقي مشايخ او عسكر فارون. اغراقها الممنهج في الممنوعات وتحويل شبانها الي مدمنين وخارج العملية التعليمية، والحيلولة دون اندماج  ابناء مئات الاسر التي وفدت اليها من شمال الشمال منذ ثلاثينيات القرن المنقضي، قادت الى انتاج وعي شائه بالآخر، الذي وجد نفسه متمترسا في صف ،لم يكن ضمن محمودات تعز فيما مضى.

 

  مع تباشير الربيع العربي، وثورة فبراير "المغدورة" ،تحولت تعز الى ساحة للاحتجاج السلمي، وحضر ابناؤها في ساحات كل المدن ،التي يقيمون فيها كمعلمين وعمال وموظفين دولة، لأنهم  رأوا  ان عملية التغيير يتوجب ان تبدأ من رفض الاستبداد والفساد والعنف، وما لم تجرؤ عليه الاجهزة القامعة في اكثر الساحات ،جرأت عليه في تعز حين قامت بإحراق ساحة الحرية في 30مايو 2011، في محاولة يائسة من النظام لكسر الثورة.  وحين اقتسم فرقاء 2011 حكومة التوافق الوطني التي انتجتها المبادرة الخليجية، زحف اواخر ديسمبر من ذات العام شبانها "اناثا وذكورا" في مسيرة الحياة الى صنعاء، للتعبير عن رفضهم للتقاسم الذي جاء لتصفية الثورة. 

 وحين اراد الانقلاب "الصالحوثي"  اكمال سيطرته على البلاد بابتلاع الجنوب مطلع العام 2015 ،خرج ابناؤها لصد التعزيزات الامنية  المرسلة باتجاه عدن بالاعتصام  امام بوابة الامن المركزي، فقمعت اعتصاماتهم بعنف. لتبدأ بعدها مأساة حصارها من كل المنافذ لتركيعها. ومنذ مارس 2015 وهي تقاوم الحصار  وتستنبت حياتها في صخور القسوة والجحود. اطالة امد الحصار على المدينة ، ونقل الاحتراب الى اريافها، وعلى رأسها الحجرية، يبدو انه مخطط بعناية من اطراف الحرب والمليشيات الملحقة بها  لتدمير مرموزاتها المدنية. في اكثر من مناسبة كانت قريبة من التحرر ،لكنها في كل مرة تعاد الى المربع الاول للفوضى والانفلات والعنف، بتواطؤ طبقة الحرب في كلا المتراسين.

 

 وسط المدينة واطرافها الغربية بمنفذها الوحيد، التي تحررت بفعل تضحيات المقاومين ،صارت بعد عام ونصف  عنوانا للانفلات والفوضى، لاسلطة متعينة فيها سوى سلطات الميليشيات، التي تتقاسم احياءها كمورد للجباية ، حتى تمثيل الشرعية فيها  اصبح تمثيلا هلامياً ، ويعتاش رموزها من الفوضى والانفلات والجباية في الاسواق والنقاط الامنية مثلهم مثل عناصر الميلشيات. جماعات العنف الديني بمسماياتها المختلفة ،وتدرج فقاعة فعلها العنيف، هي من تدير اكثر الاحياء، وتمارس كل السلطات الفجة، التي تسوقها كنموذج ديني من محاكم وضبط وجباية، وان العشرات ممن يمثلونها من شبان الاحياء، هم من بلاطجة الزمن العفاشي، ومدمني الممنوعات.

 

 تعز تدفع ثمن حضورها الطويل داخل المشروع الوطني الكبير، الذي ما انفكت تنادي به منذ عقود وعمل ابناؤها  في كل مكان، وفي كل المهن وفي اقسى الظروف للتعريف به كعنوان للمواطنة والمدنية والتنمية، بعيدا عن عصبوية الصوت الطائفي المستبد في الشمال  وجنون الصوت العنصري المأزوم في الجنوب .

 لهذا هي اليوم  ضحية صراع الفرقاء، فهي تحاصر من طرف الانقلاب شرقا وشمالا، وضحية مقاولي الحرب في مناطقها المحررة. يحاول المنقلبون تقديم نموذج مختلف للانضباط الامني والسلطة الموحدة، في الاحياء والمناطق التي يسيطرون عليها، لتبرير افعالهم الوحشية في قصف احيائها، وقتل ابنائها ،وفي المقابل يقدم الطرق "المقاوم" نموذجا سيئا في الادارة . نموذج لم يعد مقبولا بعد عام ونصف من تحرير  قلب المدينة واحيائها الحيوية، التي لم تزل غارقة في الفوضى والانفلات والتصفيات ؟؟  شماعة عفاش والحوثيين التي كانت تعلق بها هذه الاعمال، صارت لازمة  ممجوجة تبرر لجماعات العنف والفوضى، المحسوبة زورا وبهتانا على المقاومة،  لإحكام قبضتها على كل شيء، تركته اجهزة الشرعية، المنشغلة بالجباية وبيع مواد الاغاثة.

 

 تعز ليست بخير ... ولن تكون كذلك  في المدى المنظور،  مادام نظام الاستبداد التاريخي بأدواته المنشطرة  ( شمالا وجنوبا) يريدها متراسا لبنادقه، وعنوانا سيئا لفكرة الرفض والتمرد ، ومادام كل المحسوبين عليها في كلا السلطتين ( الشرعية والانقلاب)، غير منشغلين بآلامها، وجوع ابنائها وموظفيها والعاطلين الذين قذفت بهم الحرب الى ساحات الفاقة,  ومنشغلون فقط بتطوير ادوات اتجارهم بدم الضحايا فيها. او امتصاص مقدراتها في المداخل و نقاط التفتيش الي لاتعد ولاتحصى..

 

 (*) هذه المادة نشرت كما هي في سبتمبر 2017 وفي اعتقادي لم تزل  صالحة للإشارة الى حالة تعز الغارقة في الانفلات والفوضى بذات الأدوات.


Create Account



Log In Your Account