عبد الرحمن جابر.. الرجل الذي نفض عن عقله غبار الخرافة باكرا!!
الجمعة 23 نوفمبر ,2018 الساعة: 07:56 مساءً

لسنوات ظلت هيئته المميزة، قبعته وعصاته ولحيته البيضاء المشذبة وبدلاته السفاري، وبعض النتف التي سمعتها عنه من بعض الأصدقاء والأساتذة تشدني اليه.

كنت أراه في مؤسسة العفيف من وقتٍ لآخر إما مستغرقا في القراءة أو منهمكا في حديث طويل مع أحد أصدقائه القدامى؛  العفيف أو الحضراني أو الفسيل أو أي شخص آخر من رعيل المثقفين الأوائل ، الذين كانت مؤسسة العفيف طيلة عقد ونصف  تشكل مكانا حميما لتجمعهم ولقاءاتهم.

 

 لم أتعرف به عن قرب إلا  في أحد معارض صنعاء للكتاب منتصف الألفية، حين جاء  بخطواته المرتبة الثقيلة  تقوده عصاته المميزة لجناح اتحاد الأدباء والكتاب، يستعرض عناوين  الكتب المعروضة  حيث كنت جالسا بمفردي .

جرنا الحديث الى العناوين وأسماء المؤلفين ومشروع الإصدار الذي كان في ذروته.
و بعد أن عرَّفته بنفسي، قال لي: اسمي "عبدالرحمن جابر" ولم يزد.

لكنه أثناء تنقله بين العناوين انطلقت لسانه بمعرفة مدهشة عن الكُتَّاب والموضوعات والأحداث و....، ولأني كنت أرغب في اكتشاف عوالم هذه الشخصية  لم أتركه و (تشعبطت) به في جولة في الأجنحة القريبة، بعد أن أهديته ديواني الشعريين  الأول والثاني وبعض اصدارات الإتحاد .

كنت خائفا أن يعاملني كمتطفل تجاوز حدوده، لكني وجدته شخصاً سلسا ومريحا، يسألني عن الشعر وكُتَّابه ومذاهبه، كنوع من الإختبار كما أحسست.

 تركته بعد حين في جناح مؤسسة العفيف، حيث كان يجمع مشترياته ومقتنياته من الكتب الكثيرة والثمينة أيضا.

 

بعدها بفترة وجدته في مكتبة أبي ذر الغفاري بشارع حده يتفحص العناوين ويداعب عمال المكتبة وروادها، وبعد السلام فاجأني أنه يتذكر إسمي جيدا، وأن ما أعجبه في ديواني الأول قصيدة عدن التي تحرسها الفودكا كما قال ضاحكا، ومن مجموعتي الثانية التي كان يحفظ عنوانها " أوسع من شارع ... أضيق من جينز" ذكر قصيدة نورهان الحضرمية وقبلة المسمار.

 تحدثنا قليلا وتواعدنا ان نلتقي في مؤسسة العفيف، لكني لم افعل لمشاغل وتكاسل , وحين كنت أجده لاحقا  ولكثير من المرات في مكتبة العلفي في باب البلقة ، عند "فهد مجاهد" كنت لا أتركه الا بعد أن يطوفني في حديقة أفكاره الخضراء، التي لا يمكن لمستمع شغوف أن يمل من التنقل على أغصانها وزهراتها المشبعة بالرحيق.

 

 لم يتطرق لسيرته وتجربته في الحياة   في أي من أحاديثنا رغم أنى كنت أحاول جره الى مربع الحديث عنها.

تحدث، نعم،  لكن في ما هو عام ومعلوم لدي، مع ذلك لم يبخل علي بآرائه الفكرية والسياسية المدهشة والصادمة التي ظل يدافع عنها لعقود.

ولو لم يتبق القليل من لهجة اهل تهامة عالقا في لسانه، لما استدليت من اين هو؟ فسحنته وحضوره الطاغي كانا خليطا عجيبا من تصاوير حكماء الشرق المبجلين وهيئاتهم المقدسة.

 

 عرفت  لاحقا من الأستاذ والصديق الكبير عبد الباري طاهر  أنه من مواليد منطقة الحسينية بالحديدة، ولا يُعرف بالضبط كيف تشكل وعيه باكرا ، بمعنى كيف درس وتشكل ثقافيا، لكنه عُرف لاحقا كأحد المقربين من  ولي العهد  محمد البدر بعد العام 55، وعاملا في ديوانه، حيث أشتهر بخطه الجميل  وسعة ثقافته، التي أدت الى اتهامه بالإلحاد والهرطقة ، حيث نَسبَ اليه الوشاة تربية حيوانات سماها  بأسماء الخلفاء،  فسجن  وكان قريبا من حبل المشنقة، و لولا  تشفع إحدى  نساء الأسرة المالكة  من بيت الامام عند والدها، لما عاد للحياة ثانية.

بعد ثورة سبتمبر 62 عمل برفقة الرئيس عبدالله السلال، الذي تعرف عليه باكرا في الحديدة، فكان أشبه من وجد ضآلته في الثورة ومشروع التغيير والتنوير، لكنه بعد انقلاب 5 نوفمبر غادر الى القاهرة معترضا على تولي القوى التقليدية حكم البلاد، وهناك بدأت مرحلة جديدة من حياته، حيث تزوج من سيدة مصرية، وبدأت علاقته تكبر بالمفكر الكبير عبدالله القصيمي ، حيث صار مع الوقت خزانة اسراره وكتبه المخطوطة ، واحد المراجع الكبرى عن سيرته الفكرية الاشكالية. حين عاد الى صنعاء بعيد الوحدة تفرغ للقراءة واقتناء الكتب، التي صارت مع الوقت تشكل مكتبة كبيرة مشتتة بين مسكنيه في القاهرة وصنعاء، ولا أحد يعلم لأي جهة اوصى بها بعد وفاته. لم يُعرف عنه قيامه بالتأليف او الكتابة رغم غزارة علمه وثقافته، لكنه ظل حتى آخر ايامه مؤمنا بأفكاره مدافعا عنها بعقل خالص نقي.  ذاته العقل الذي نفض عن خلاياه غبار الخرافة والجهل باكراً. فعُرف بين ابناء جيله من المثقفين الاوائل بالذكي والشجاع، والمستنير الكبير.


Create Account



Log In Your Account