يافع وأبو عافية
الأربعاء 05 سبتمبر ,2018 الساعة: 04:45 مساءً

عاد بعد رحيل «المهدي» أحمد بن الحسن الضجيج من جديد حول من يَخلف الإمام المتوفي «1092هـ / 1681م»، ليقع الاختيار للمرة الثانية على محمد بن «المتوكل» إسماعيل، ذو الـ «48» ربيعاً، الذي سبق ورفضها بعد وفاة أبيه، وما قبلها هذه المرة إلا مُكرهاً؛ بعد إجماع الناس والعلماء عليه.  

تلقب الإمام الجديد بـ «المؤيد»، وعارضه وتمرد عليه كلا من: أخوته علي في إب، الذي تلقب بـ «الناصر»، والحسن في تهامه، والحسين في صنعاء، وأبناء عمومته «الواثق» الحسين بن الحسن في رداع، و«المنصور» القاسم بن «المؤيد» محمد في شهارة، والحسين بن محمد في عمران، الذي تلقب بـ «المتوكل»، و«المنصور» علي بن أحمد بن القاسم في صعدة، ومحمد بن «المهدي» أحمد في الحجرية، الذي تلقب هو الآخر بـ «الناصر».

كما عارضه من خارج الأسرة القاسمية الحسين بن عبدالقادر شرف الدين في كوكبان، الذي تلقب بـ «المتوكل»، وعلي بن حسين الشامي، فيما بقي الأميران إبراهيم بن «المهدي» أحمد، وأخوه إسحاق، مُستقلين بما تحت أيديهما من مناطق، دون أن يدعيا الإمامة، استقل الأخير بحبيش وذي السفال، فيما استقل الأول بذمار ووصاب، فاكتسب من الأخيرة أموالاً كثيرة، وأساء إلى أهلها، وقتل بعض مشايخها.

اعترف الجميع بإمامة «المؤيد»، فيما تأخر «الناصر» محمد بن «المهدي» أحمد ـ صاحب المواهب لاحقاً ـ لعدة أشهر، ليثور عليه أهالي الحجرية بعد مبايعته للإمام الجديد، بقيادة فقيه صوفي يدعى «الرجبي»، وفي ذلك قال صاحب «الشذور العسجدية»: «وكان اليمن بين آل القاسم قد قُسم، وكل منهم أمير ببلاد، وليس للإمام إلا كسائرهم، ولما صلح صاحب المنصورة، وانمحت السورة والثورة، خلعت الحجرية طاعته، وفارقوا جمعته وجماعته».

استنجد الأمير محمد بالإمام محمد، فأمده الأخير بجيش جرار، فكوا عنه الحصار، بعد حروب وخطوب، ليثور الأهالي على تلك القوات أثناء مُكوثها في دمنة خدير، وهنا أضاف صاحب «الشذور العسجدية»: «فثارت الرعية، واتفق ما شغل عن القضية، منه حرب المرزاب.. وما علم للرجبي الصوفي بعدها بأثر».

أثقلت الجبايات القاصمة كاهل الرعية، وأصابت الطائفية المقيتة الجميع بالغبن، ولم يكن أمام الرافضين من خيار سوى التمرد والثورة، ومن الحجرية امتدت ريحها لتشمل يافع وأبين والعوالق، فيما تولى زمام قيادتها السلاطين: معوضة بن عفيف، وصالح بن أحمد هرهرة، وأحمد بن قاسم شعفل، وأحمد بن علي الرصاص، وصالح بن منصور العولقي.

اندلعت شرارة الثورة من أعالي جبال يافع «1093هـ / 1682م»، طرد الثوار عامل «الدولة القاسمية» للمرة الثانية، فما كان من «المؤيد» محمد إلا أن دعا القبائل للجهاد، فيما قال الشاعر أحمد الآنسي ـ الشهير بـ «الزنمة» ـ مُحرضاً:

لئن عصفت ريح النكال بيافع

فما هي إلا عادها وثمودها

بني القاسم المنصور عزما على العدى

فقد بان للدين الحنيف جحودها

أفي جانب الإنصاف أن معوضة

تهان به من ذي الأنام زيودها

وللمذهب الزيدي كل غضنفر

يفل به عند الحروب عديدها

قاد القوات الإمامية الأمير الحسين بن «المهدي» أحمد، الشهير بـ «فارق السيل»، وعاونه الأميران علي والحسين أبناء «المتوكل» إسماعيل، توجهت قوات عبر قعطبه، وأخرى عبر البيضاء، وفي «الزهراء» قتل «400» مقاتل، انفجر بهم مخزن البارود، بعد أن أرسل لهم أحد المُترصدين بقطة في ذيلها نار.

لتدور بحلول العام التالي معارك كثيرة في «خرفة، وقعطبة، والبيضاء، ولحج، وجبن، وأبين، والزاهر، والخربة، والمعسال»، كان النصر فيها حليف ثوار يافع وحلفائهم، وفيها قال «أبو طالب»: «فأثخن الجراح الفيالق، وتكسرت السيوف بأيدي الفريقين، وذهبت من النفوس جملة في الطريقين، فهؤلاء إلى الجنة مع الأبرار، وأولئك في الدرك الأسفل من النار، وانجلى الأمر عن هزيمة أولي الحق».

بعد هزيمتهم، فرّ الإماميون إلى إمامهم مرعوبين مَنهوبين، مُعزيين إياه بقريبه الأمير أحمد بن محمد بن الحسين، الذي قتل في إحدى المعارك، ودفن بـ «العر»، وهنا أضاف «أبو طالب»: «وكان شهد الحق جمع كثير، كادت الأفاق تلبس من الحزن له الحداد.. ولما خلصت المعركة على هذا القارح، والملم العظيم الفادح، انتهب البغاة الثقل، وصارت الجموع إلى الإمام».

رفض الأمير الحسين بن «المهدي» أحمد العودة إلى الحضرة الإمامية؛ خجلاً من هزيمته تلك، وقيل غضباً من الأمراء الذين لم يلتزموا بأوامره، توجه إلى مدينة تعز مؤثرا الانطواء والعزلة، وفيها وفي العام «1095هـ» مات كمداً، ودفن بالاجيناد بجانب ضريح الإمام إبراهيم بن تاج الدين.

وما يجدر ذكره، أن التمردات في الجنوب لم تتوقف طيلة عهد «المتوكل» إسماعيل، وابن أخيه «المهدي» أحمد، زادت وتيرتها بعد أن أفرج الأخير عن الشيخ علي الهيثمي أواخر العام «1087هـ»، بعد «18» عاماً من الأسر، قام الهيثمي فور عودته بالسيطرة على حصن دثينة، وقتل اثنين من حراس الحصن، ليتوسع التمرد بعد ذلك بصورته التي أشرنا إليها سابقاً.

حضرموت هي الأخرى نالها من تلك الثورة نصيب، استغل السلطان علي بن بدر بن عمر الكثيري تمرد القبائل الجنوبية، وانتصاراتها اللافتة على القوات الإمامية، فأعلن أواخر العام «1093هـ» الاستقلال التام عن «الدولة القاسمية».

كان «المؤيد» محمد بشهادة كثير من المؤرخين تقياً مَشهوداً له بالاستقامة، وكان يدعى «أبو عافية»، عمل جاهداً خلال سنوات حكمه على إصلاح ما أفسده أسلافه، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل، لأن الفساد والإقطاع كان قد تمدد واستفحل تماماً كالسرطان.

اشتهر بـ «المؤيد الصغير»، واستقر بضوران، واختط مدينة معبر، وأسماها بذات الاسم لأنها كانت معبراً للمسافرين، ولم يبق تحت سيطرته من البلاد إلا ما كانت له أيام والده، نافسه فيها أخوه علي، إلا أن ملك الموت فتك بالأخير قبل أن ينال مراده.

قال عنه صاحب «بهجة الزمن»: «رفع مظالم كثيرة من البلاد التي نفذت بها يده وحكمه، كبلاد صنعاء، وبلاد حراز، وضوران»، وأضاف: «وأما اليمن الأسفل، فلم يُنفذ فيها كلامة، ولم يُسمع فيها قوله»،


Create Account



Log In Your Account