اللحم المسموم واللحم الحلال
الثلاثاء 21 أُغسطس ,2018 الساعة: 11:49 مساءً

تدوينة توكل كرمان أشعلت النقاش حول العلمانية. الذين كتبوا لصالح علمانية الدولة أثاروا آخرين لا يرغبون في مناقشة هوية الدولة في الوقت الحالي، وآخرين على علاقة نفسية بالغة السوء مع العلمانية كمفردة. أما رجال الدين [يقلقهم هذا الوصف] فخاضوا النقاش على طريقتهم. كتب أحد أشهر الشيوخ، العديني، مطَمئِناً مريديه "لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المناققين". وطالب بيان لهيئة علماء اليمن الأحزاب والجمعيات بفصل كل من يتفوه بكلمة "علمانية.

يعود النقاش حول علمانية الدولة إلى زمن ما قبل الحداثة، وهو أحد المسائل الكبرى التي ملأت القرن الثامن عشر ضجيجاً. يعتقد هنري كيسنجر في كتابه قبل الأخير "نظام عالمي"[قال قبل أيام لفايننشال تايمز إنه انتهى من كتاب جديد حول المرأة في السلطة]: إن أحد أهم مكتشفات أوروبا في العصور الحديثة هو عثورها على جملة "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر". لم تكن حرب الثلاثين عاماً الدينية [١٦١٨ ـ ١٦٤٨] بالأمر الذي يمكن نسيانه، ولم تكن غير قابلة للعودة. دفع النقاش والتجربة أوروبا إلى اكتشاف الطريقين: طريق الرب وطريق القيصر. بعد ذلك دخلت أوروبا في متتالية حروب صغيرة كان أغلبها ذا طبيعة "قيصرية"، باستثناء حرب البلقان، قبل ربع قرن، التي قتل فيها حوالي ٢٠٠ ألف مسلم، قبل أن تضع دول حلف الناتو، العلمانية، حداً لها بالنار.

قبل ثلاثة قرون كان مشروع "إبعاد الكنيسة عن القيصر" أمراً تقدمياً، وكان ملحاً. لكن ذلك المشروع العلماني، وقد خرج من داخل المسيحية، لم يتحدث عن طبيعة الدولة التي بلا كنيسة، ولا عن علاقة المجتمع بها. كما لم يقدم النقاش العلماني القديم شيئاً يذكر عن "المشروعية السياسية" لبنية الدولة. نأت الدولة عن الكنيسة شيئاً فشيئاً، وتركت لها فناء خلفياً، دائماً توجد الكنيسة في الفناء الخلفي. باريس نفسها، عاصمة القرن التاسع عشر كما أسماها إ. سعيد، لا تزال غارقة حتى خاصرتها بأسماء القديسين والكهنة: الميادين، المرتفعات، محطات القطارات، الأحياء، الدوارات، الكليات، المدارس، المتنزهات، المقابر، وأبعد من كل ذلك. أما في ألمانيا فيقال: بين كل كنيستين هناك بالتأكيد كنيسة ما. تخلصت "السياسة العليا للدولة" الأوروبية شيئاً فشيئاً من هيمنة الكنيسة، وكان ذلك مترافقاً مع إصلاح ديني مسيحي مكن لذلك الانتقال. أي أن الدولة كانت تصلح ذاتها من الداخل، وكذلك الكنيسة. وكانت الدالتان: الدولة والكنيسة، تعثران على طريق جديد وتحققان ذاتهما.

حاولت الشيوعية، وهي نسخة بالغة الوحشية من العلمانية القديمة، تفريغ العالم من فكرة "الرب" ودمرت في التبت ما يزيد عن ٥ آلاف معبداً، ثم أنهكت بعد ذلك وسقطت وعادت معابد التبت من جديد. ثمة مساحة للتسوية بين الدولة والكنيسة، ففي العام ١٩٠٥صدرت آخر حزمة فرنسية من القوانين، بموجبها رفع التعليم الديني من المدارس. بقيت حقيقة موازية في باريس تقول إن كنيسة "مون مارت"، الواقعة على تل مونت مارت، ويبلغ ارتفاعها ١٣٠ متراً هي أعلى من كل جامعات باريس، ويمكن رؤيتها من كل مكان، ويبلغ زوارها في اليوم الواحد أكثر من زوار خمس جامعات باريسية مجتمعة، وهناك في الداخل لوحة تقول: وأنت تمشي في باريس ثمة أناس يبتهلون لتبق حياتك سعيدة وتبقى باريس مضيئة، تبرع ليستمر ذلك النور". داخل معادلة ممكنة من التسويات بين الدولة والكنيسة أعيدت هندسة الفضاء العام. يقول الميثاق التأسيسي للحزب المسيحي الحاكم في ألمانيا "إن مسيحية الحزب لا تمس علمانية الدولة ولا تؤثر عليها".

النقاش حول علمانية الدولة، بالطريقة التي شاهدناها، هو نقاش قديم ولم يعد صالحاً لمقاربة تعقيدات الدولة الراهنة. إذ لم تقل "العلمانية" في نسختها المبكرة شيئاً عن مشروعية الدولة، من يكون في الدولة، من يملكها، مساهمة المجتمع في بنية الدولة، متى تصبح الدولة فاضلة، ومتى تفقد مشروعيتها. وعندما خيضت هذه النقاشات لاحقاً فإنها لم تخض من داخل العلمانية بل من داخل السياسة والحداثة، من وجهتي نظر ليبرالية وفلسفية. وهو أمر يدفعنا إلى القول إن "العلمانية" كدالة قد تجوزت مبكراً.

قبل ثلاثة قرون وجدت دول أوروبية ليبرالية لكنها غير ديموقراطية: كان الحكام مستدامين وغير ديموقراطيين لكنهم يسمحون بالتأليف والإبداع والنقد والحريات الشخصية. وفي أثينا، في فجر التاريخ الحديث، كانت الدولة ديموقراطية لكنها غير ليبرالية: كان البرلمان المنتخب يحرق الكتب، يشعل النيران في أجساد المثقفين، ويطارد الفلاسفة. شقت الدولة طريقاً صعباً منذ أثينا حتى برلين الراهنة. منجز برلين، الصورة الأكثر حداثة للدولة المعاصرة، هو: الليبرالية والديموقراطية معاً. تعنى الليبرالية بالحقوق، كل الحقوق، وتعنى الديموقراطية بالمشروعية السياسية. تبدو العلمانية أمام منجز دولة ما بعد الحداثة، في صورة برلين، مسألة بدائية وغير ذات صلة. في "الموجة الثالثة"، تحدث هانتغتون عن ثلاثين دولة التحقت بركب الدول الديموقراطية بين عامي ١٩٧٤ ـ ١٩٩٠، وتتبع الخيوط والينابيع التي جعلت تلك الدول تقترب من الديموقراطية الليبرالية وتسلك طريقها، وتلك القنوات التي بقيت مفتوحة وأتاحت لبعض تلك الدول طريق العودة إلى الأوتوقراطية. كانت تسوية جيدة بين الدولة والكنيسة، دائماً، من أسباب نجاح الانتقال إلى الدولة الليبرالية الديموقراطية. بيد أن العوامل الأكثر حسماً كانت اجتماعية محضة: تراكم المعرفة والوسائط والخيال.

لا بد من خوض النقاش مزيد من النقاش، وبالطبع فسينتقل من موضوعة "عزل الراهب عن الرئيس"، إلى المركز: الديموقراطية الليبرالية. عن الحقوق الفردية والجماعية، علاقة المجتمع بنفسه وبالفرد، علاقة الدولة بالمجتمع، حرية الإبداع والفن، حرية التعبير، حرية تشكيل الكيانات والتنظيمات، الطبيعة الديموقراطية للدولة، والمرجعيات الفلسفية لها. اخترع اليابانيون، قبل نصف قرن، مصطلح: غلوكاليزيشن Glocalisation، وهو مزج لدالتين: Localisation و Globalisation، أو العولمة المموطنة، هندسة صورة محلية من العولمة، أو ما أسماها الفرنسيون قبل ربع قرن: الاستثناء الفرنسي. الليبرالية هي أحد تجليات العولمة، وتتسع لتسويات محلية مع القوى التي تملك قدراً من الهيمنة على مجتمعها، وفي مقدمتها القوى القبلية والدينية. يصنف المثقفون الألمان "اليسار الألماني Die Linke، واليمين الألماني AFD بوصفهما قوتين غير ديموقراطيتين، تشكل القوتان حالياً ما يقرب من ربع البرلمان، وهو تهديد للديموقراطية الليبرالية من داخلها، أي للطبيعة الليبرالية للديموقراطية. الديموقراطية الليبرالية التي تجري تسويات محلية مع القوى غير الليبرالية تبقى دائماً في خطر، وهي عرضة في مراحل معينة إلى الإنزلاق إلى صورة غير ليبرالية من الديموقراطية، كما يجري حالياً في النمسا، بولندا، تركيا، وهنغاريا. أسوأ من هذا، وهو ما تأخذه الديموقراطية الليبرالية في الحسبان، أن تتأسس الديموقراطية على مرجعيات متنازع عليها. يعتقد ياشا مونك، الكاتب الأميركي المتخصص في هذه المسألة، إن الديموقراطية التي تتأسس على دساتير متنازع حولها سرعان ما تنزلق إلى ديكتاتوريات "لاحظوا ما حدث في مصر: كان الدستور وثيقة متنازع حولها، وكانت النتيجة الختامية ديكتاتورية محضة ومعقدة".

أن يجري النقاش حول الديموقراطية الليبرالية، ما نعنيه بالديموقراطية وما نعنيه بالليبرالية، لهو أمر أكثر إفادة من الخوض في نقاش حول علمانية الدولة. لقد أصبحت العلمانية مثل الشعر، حالة ذائبة في كل شيء يستحيل عزلها وفصلها ككيان مستقل بذاته وخواصه. فإذا كان الشعر قد تحول إلى شِعرية فإن العلمانية قد تحولت مع السنين إلى متتالية علمانوية، وهي أحد ملامح هذا العصر الحديث، بل أحد الملامح التأسيسية لعصرنا الذي نعيش فيه. حتى الكنيسة والمسجد تعلمنا في نهاية المطاف.

من داخل "الديموقراطية الليبرالية" يمكن عزل اللاهوت المتوحش، الذي لا يزال يعيش توحشه في بعض الدول جنوب الفوسفور، وفي اليمن على سبيل المثال. فقد أثبت بيان هيئة علماء المسلمين الأخير أن المعركة حول الديموقراطية الليبرالية لن تكون سهلة، فما يمكن استنتاجه من ذلك البيان أن القوى الدينية قد تسمح بديموقراطية بشرط تفريغها من الليبرالية. هنا لا بد أن تخاض المعركة: إما ديموقراطية ليبرالية، أو نضال لأجل ذلك.

وليكن النضال مستفيضاً وشجاعاً ومستداماً، وعلينا أن نخوضه في كل وقت، حتى في الخنادق. فالقوى غير الديموقراطية، كما حدث في مصر، بمقدورها التسلل عبر الديموقراطية ومصادرتها في نهاية المطاف من خلال تفريغها من ليبراليتها، تجريفها من الحقوق وفي مقدمتها الحقوق الفردية: الضمير، الإبداع، التعبير، السلوك. لا تمانع القوى الدينية، كما القوى اليسارية الراديكالية، من تشغيل الديموقراطية في مجتمعاتها، غير أنها تريدها "غير ليبرالية"، فهذه القوى تملك في العادة سرديات كبرى تقدمها بوصفها النتيجة النهائية للخيال البشري حول الحق والخير.

لدى تلك القوى القدرة على حشد الجماهير خلف خطابها، وهو غالباً خطاب تعبوي يستند إلى الأكاذيب وسوء الفهم، وهي تعلم أنه ما من سبيل إلى مزيد من الهيمنة على مجتمعاتها سوى من خلال الديموقراطية. فالطريق الآخر، الطريق الذي سلكته الموجة الأولى من النازية "١٩٢٢"، وذلك الذي سلكه "تنظيم الدولة"، سيفضي إلى مواجهة كل العالم. فبعد أن فرغ هتلر من كتابه "كفاحي" أخرج من السجن، وفي أول لقاء جمعه بالقادة في تنظيمه NS قال بحسم: لنتوقف عن العنف، الديموقراطية هي الطريق الوحيد. قادته الديموقراطية إلى السلطة، ومن موقعه الجديد قام بسحق الديموقراطية في بلده ثم أشعل النار في باقي العالم. وهو الاستنتاج الذي توصلت إليه القوى الراديكالية في أكثر من مكان على ظهر الكوكب: لا بد من الديموقراطية. إن الحديث عن العلمانية يشبه، بطريقة ما، الحديث عن الإرهاب. فالإسلام السياسي هو ظاهرة غير إرهاربية ولن يكون إرهابياً من ناحية، وهو أيضاً غير ليبرالي، ولديه مدونته الخاصة للحقوق والحريات. أي أنه يملك وثيقة أخلاقية وفلسفية هي، بالضرورة، متنازع حولها. وقد تعلمنا، بالخبرة والتجربة، إن المرجعيات المتنازع حولها هي باب إلى الديكتاتورية. كذلك هو النقاش حول العلمانية، نقاش معقد حول موضوع هو أقرب إلى التاريخ منه إلى سؤال اللحظة، وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا خارج الموضوع.

أرجو أن ينصرف النقاش إلى الليبرالية الديموقراطية، وأن يكون نقاشاً شجاعاً ومستميتاً، فهذه مسألة حاسمة، ولا بد أن تحسم مبكراً حتى قبل أن تبرز الدولة إلى الوجود.


Create Account



Log In Your Account